“الرقص مع الشيطان” الإنسان الحائر بين الدين والعلم

بطل الفيلم نور الشريف بطل الفيلم نور الشريف

يشاهد الكثير من مُتابعي السينما العرب أفلام الخيال العلميّ الغربيَّة، وينبهر بالأفكار التي تحملها، والإبهار البصريّ الذي تمتاز به، والأهداف التي تشير إليها أو تصرِّح بها. ويعتقد هذا المشاهد أنَّ السينما الناطقة بالعربيَّة تخلو من هذه النوعيَّة إلا من أفلام قليلة قد يتناولها المتابعون بسخريَّة؛ لكنَّ الحقيقة أنَّ السينما العربيَّة لا تستهدف هذه النوعيَّة من الأساس لصعوبة تنفيذها، ولاعتقاد القائمين على التنفيذ أنها تحتاج إلى الكثير من التكاليف لإنتاجها -وهذا غير صحيح في العموم-، ولأسباب أخرى. ومع أنَّ فيلم “قاهر الزمن” أحد أهم تجارب الخيال العلميّ؛ لكنَّ التجربة الأبرز والأفضل والأقوى تظل كامنة في الفيلم الرائع “الرقص مع الشيطان”.

هذا الفيلم تجربة بالغة النُّدرة في السينما العربيَّة التي غالبها يرتكن إلى مبدأ المكسب المضمون فنيًّا وماليًّا. هذا المبدأ الذي يحتِّم صناعة نماذج معينة من الأفلام التي تريح عقل صُنَّاعها وتثقل جيوبهم في آنٍ واحد. أمَّا هذا الفيلم فصُنِع من وحي مبدأ آخر هو مبدأ الفنّ الحقيقيّ الهادف، الذي إنْ خسِرَ وقتيًّا فهو رابح ذاتيًّا لأنَّ عوامل المكسب في داخله. هو فيلم ستفخر به حين مُشاهدته -إنْ لمْ تشاهده من قبل-، وستفخر به إنْ أعدتَ مشاهدته ثانيةً، وستفخر به إنْ عرفته لأوَّل مرة من خلال هذه السطور. قليلة هي الأفلام في أيّ بلد التي يفخر بها قومُها؛ وهذا أحد تلك الأفلام في سينمانا. فإنْ لمْ نفخر ونعتزّ بالتجارب التي تستحق، وإنْ لم نكرِّم التجارب الرائدة فسنقضي شيئًا فشيئًا على الصناعة كلَّها.

فيلم “الرقص مع الشيطان” من إنتاج عام 1993. ومن إخراج علاء محجوب، تأليف محمد خليل الزهار، وموسيقى سامي الحفناوي، وبطولة الفنان الكبير نور الشريف، ومديحة يسري، صباح السالم، عزيزة حلمي، أحمد خميس. الفيلم من تصنيف الخيال العلميّ والإثارة والدراما.

يتناول الفيلم قصة الدكتور واصل (نور الشريف) الذي سافر إلى روسيا قبل سبعة أعوام، وعاد عام 1991 حاصلاً على درجة الدكتوراه في العلوم. لكنَّ واصل الذي سافر غير واصل الذي عاد فقد تغير تغيرًا حادًّا في أفكاره ومشاعره واتجاهاته في الحياة. يستأنف واصل حياته في بيته الكبير -الذي قد ورثه عن جدّه- مع أمّه (مديحة يسري) وخادمة عجوز (عزيزة حلمي). ويبدأ في مباشرة عمله في كليَّة العلوم ببعض المناوشات التي تنشأ من أفكاره الجديدة، لكنَّه يُفاجئ بحبيبة العُمر التي جرحته قبل سفره وانصاعتْ لرغبة أمِّها في الزواج المضمون لا الزواج من شابّ لا يُعرف له مستقبل. حبيبته الآن مُطلَّقة ومعيدة في الجامعة وساعية للحصول على الماجستير.

وفي إحدى زياراته مع الطلاب لمزرعة الكُليَّة يدور حوار طويل بينه وبين حبيبته، ينتهي بعودة رغبته في الزواج منها. لكنْ في تلك اللحظات وواصل منهمك في الحديث يقطع زهرتيْن غريبتين. عندما يعود إلى بيته يرى كلبًا أسود خارج البيت ويتعجب أنْ سرعان ما يختفي هذا الكلب. ثم تبدأ أمور كثيرة في إثارة عجبه مثل أنّ النظر إلى الزهرتين يوقف الزمن عند الناظر، فلا يشعر كم مرَّ من الوقت إلا عندما ينبّهه أحد آخر، ومثل أنّ الزهرتين قد كبرتا بشكل غير متوقع في عداد يوم أو أكثر. فيبدأ في الاهتمام الزائد بهما، وبالبحث يجد أنَّ هذا النوع لا وجود له في السجلات العلميَّة. ثم يتخذ الإجراءات المُتبعة في التعرُّف العلميّ من خلال التحليل والملاحظة ثم يقرر إجراء تجربة بحقن أرنب تجارب.

وفي التجربة تأتي المفاجأة العملاقة حين يدير وجهه عن الأرنب وينظر إليه ليجده قد اختفى! في البدء يظنُّ أنَّه قد استطاع الهرب، لكنّه يكتشف أنّ الأرنب موجود في العلبة لكنه لا يستطيع رؤيته. فيرجح عنده أنّ عملية انتقال في الزمان قد حدثت، وحينها يقرر إجراء التجربة على نفسه. وبالتجربة يتبين له أنّ العقار المُستخلص من الزهرة يسافر بالشخص المُتعاطي له في الزمن. وفي ظلّ حاجة واصل إلى المال ليكمل تجاربه يقرر أن يعود بالزمان إلى جدّه ليسأله عن ميراثه الذي تركه وعن حُجَّة البيت التي لمْ يجدها. وفي الرحلة المُشوِّقة نتعرَّف على تغيرات أفكار البطل من وحي التجربة نفسها، وعلى مصيره الذي سيؤول إليه.

الفيلم أحد الأفلام العربيَّة القليلة التي استطاعت الحفاظ على عناصر الخيال والإثارة مع الدراما في ثوب لمْ يتسخ بأي نوع من الابتذال أو الاهتراء أو الفوضى أو التعقيد المُلغز. وما ذُكر حتى الآن لا يمثل من جسد الفيلم إلا أقل القليل؛ فهناك العديد من الأفكار والأمور الأخرى التي تنتظر تجربة المشاهدة. الفيلم اختار اختيارًا دقيقًا هو أنْ يكون فيلم خيال علميّ بالمفهوم الصحيح، وعلى صعيد الدراما اختار دراما الأفكار لا دراما الأشخاص والأحداث. وقد يُصعِّب هذا من مهمة أيّ تجربة تحليليَّة لكن سنحاول قراءة غالب الأفكار، وترك القليل والتفسيرات لتجربة المشاهدة الأولى أو التالية.

أوَّل ما يسترعي الاهتمام هو الحيِّز الزمانيّ للأحداث عام 1991 وهو العام الذي كُتبتْ فيه النهاية لأحد أهمّ التجارب الإنسانيَّة هي التجربة “السوفيتيَّة” التي تتبع الفلسفة “الماركسيَّة” والتي أسس عليها “النظام الشيوعيّ”. قصد الفيلم إعلامنا بذلك حينما بدأ الفيلم بهذا التاريخ، وحينما نقل خبر الانهيار الأخير -فقد بدأ الانهيار قبلها- من أرشيف التلفاز المصريّ الحقيقيّ في أحد المشاهد. ما يُهمنا في الفلسفة الماركسيَّة هنا أمران: أنَّها إحدى فلسفات الاتجاه الماديّ، بل من أقصاها تطرُّفًا في الماديَّة. وللفلسفة الماديَّة تعريفات كثيرة وتحديدات أكثر، لكنْ يهمنا هنا اعتمادها على المادة والماديات وعدم اعترافها بما لا تدركه الحواسّ التي تمدُّ العقل بالمعرفة. والأمر الآخر هو أنَّها فلسفة إلحاديَّة أيْ تنكر الأديان بالكليَّة، بل تنكر كلّ تصور مُفارق لعالم المادة. وتعتزّ بذلك وهو أحد أركانها الرئيسة. هذا هو النطاق الفكري العامّ للأحداث، وكذلك للشخصيَّة الرئيسة في الفيلم “واصل”.

مخرج الفيلم علاء محجوب

وقد عاد واصل من روسيا السوفيتيَّة شخصًا آخر كما ذكر سابقًا. فقد كان رومانسيًّا مُحبًّا، وعاد جاحدًا للعاطفة والأحاسيس مُؤمنًا فقط بما يُلمس ويحسّ بالحواسّ .. كان مؤمنًا بالله يُصلي، وعاد مُلحدًا لا يقرب الصلاة، بل يستهين بها وبالعقائد جميعًا، كان عربيًّا شرقيًّا قبل سفره، وعاد مُتغرِّبًا يحمل كلّ سمات الغزو الفكريّ الغربيّ، ويمقت كل ما هو شرقيّ من قلبه ونسمعه في أحد المشاهد يقول عن الشرق: تقاليد عتيقة، وأفكار متخلفة، وقِيَم مُنهارة .. كان يرى قيمة للإنسان وللأشخاص وللعلم، وعاد لا يرى قيمةً إلا للمال الذي يبحث عنه بكل إصرار، ووجاهة اجتماعيَّة في بريق لقب “الدكتور واصل” بدلاً عن “واصل” المُجرّدة من اللقب.

ويصوره التأليف شخصًا مُقاتلاً حازمًا لا ينثني عن هدفه، يُمجِّد العقل والاقتناع، ولكنْ في ثنايا نفسه تجد بذرة الإيمان المُتدثرة بقشرة التغريب، وتجد بذرة الحبّ التي لمْ تُنزع من قلبه. ومع كل هذه الاضطرابات يقع “واصل” في حيرة شديدة بين الحبّ والقسوة، بين الإلحاد والإيمان، بين إيمانه بالماديات المحسوسة فقط وبين العجب العُجاب الذي يحدث أمام عينيه، بين ما تعلَّمه في بعثته السوفيتيَّة واعتقد أنَّه الحقّ المُطلق ودلائل كثيرة كُلما تأملَّها أحسّ أنَّه قد فهم خطأً منذ البداية. ونلاحظ أنّ المؤلف قد سمَّى الشخصية “واصل” من الوصال والوصول، وفي الثقافة الصوفيَّة لهذا الاسم دلالة ضخمة تدلّ على الواصل إلى الحق والمُتصل به، والاسم نفسه يعني الواصل إلى المعرفة العلميَّة أيضًا فالتجربة العلميَّة والنشاط العلميّ بعامةٍ غرضه “الوصول” إلى الحقيقة. وقد جاء السيد المؤلف بهذا الاسم ليُعمِّق المعاني وتضادها الشديد في عمله الفنيّ.

شخصيَّة واصل نموذج واضح للمثقفين العرب والعلماء الذين تعرَّضوا لتجربة الغرب بالسفر إليه، أو الاطلاع والقراءة وهم في الشرق. الجامع بين الفئتين هو الانبهار الشديد بالغرب، والتسفيه أو الانتقاص الشديد من الشرق. وقلة قليلة منهم هي التي تطور عندها شعور الانتقاص إلى الخروج من دينه -سواءً الإسلام أو المسيحيَّة- إلى ما يُسمِّى الإلحاد. لكنْ بقي في كثير منهم شيء من الريبة والشكّ تجاه فكرة الدين بعامة. ومن هنا يأتي تألُّق الفيلم في التأليف؛ حيث استطاع المؤلف بمنتهى المهارة التعبير السينمائيّ -وهذا الوصف مختلف تمامًا عن التعبير في الفنون الأخرى- عن فئة حقيقيَّة من المثقفين والعلماء العرب في العصر الحديث، وعن مشكلة حقيقيَّة تواجه مجتمعنا كلَّه؛ لأنَّ المثقفين والعلماء والأدباء هم المُشكِّلون للفكر، والمُقوِّمون له في آنٍ معًا. ونحن هنا نهتمّ بالأفكار التي وردت في الفيلم لا لأنَّها تعنينا، بل لأنَّها تعني المؤلف وكل صانعي العمل الذين أصروا على أن تكون الدراما بين الأفكار لا الأحداث، حتى إنّ غالب الأحداث هي أحداث وهميَّة غرضها إدارة الحوارات التي تحمل الأفكار.

وهناك فلسفة أخرى عبَّر عنها واصل في الفيلم وهي فلسفة شائعة للغاية بين المثقفين العرب باتجاههم التغريبيّ وهي فلسفة “العِلمويَّة” Scientism . وتعني -بالعموم- رؤية الحقيقية في حيِّز العلم الطبيعيّ التجريبيّ فقط. ويسمع العرب كثيرًا هذه الفكرة منذ عقود حتى يومنا هذا. ويمكن تلخصيها في جملة واحدة (العِلم هو الحلّ). أيْ أنَّه لا قيمة للدين ولا للأخلاق، ولا للفلسفة حتى في حلّ مشكلات الإنسان العُظمى والصغرى، بل هي أشياء ليست موجودةً من الأساس؛ لأنَّ تلك الفلسفة ترى أنّ الحقيقة هي الحقيقة التي يمكن تجربتها أو تحليليها رياضيًّا فقط. وهذا المبدأ يخرج كل الأمور السابقة كالفلسفة مثلاً من حيز الحقيقة أصلاً. وهذا الاتجاه الفلسفيّ مُحتقر في الغرب ومنبوذ. ولا يعرف هذه الحقيقة المثقفون العرب الذين يرددون هذه الكلمات ليل نهار، بل إنَّه سُبَّة أو شتيمة لمَنْ يؤمن به. وقد صرَّح الفيلم بهذا الاتجاه، بل واضح تمام الوضوح أنّ المؤلف عارف ومطلع تمامًا على المذاهب الفلسفيَّة والعلميَّة بصورة كبيرة. فكل ما قاله وأورده عن الإجراءات العلميَّة والفلسفات صحيح، بل في مكانه تمامًا.

وفي الفيلم أيضًا نجد منظومة الأخلاق النفعيَّة الغربيَّة في واصل الذي يرى القيمة للمال والوجاهة فقط، ولا مانع عنده من تصنيع المُخدرات، واستخدام علمه في إجادة وامتياز تصنيعها، بدلاً عن خطورة استيرادها من الخارج! .. وهذا هو صُلب أخلاق النفعيَّة الغربيَّة التي تقيِّم الفعل الأخلاقيّ على أساس مدى نفعه، لا على أساس صُلب الفعل ومخالفته أو موافقته لمنظومة قِيَميَّة كالدين مثلاً. وأيضًا نرى صراعًا فلسفيًّا يذكرنا بصراع “الملك أوديب” عند اليونان وهو صراع الإنسان مع الأقدار أو ما يُسمَّى بالمكتوب في الثقافة الشعبيَّة، ورغبة الإنسان في تغيير قدره والاعتراض عليه. ومُخلص ما في هذا هو رغبة الإنسان في إزاحة الإله والتربُّع مكانه فوق عرش إدارة الكون، أو فكرة تأليه الإنسان. وقد ذكرت هذه الفكرة أكثر من مرة في سياق الفيلم على لسان واصل الذي يؤكد أنَّ العلم -الذي يصنعه الإنسان- قادر على هزيمة الإله والأقدار وكل شيء.

وفي الفيلم أفكار جزئيَّة مثل الشغف العلميّ والغرام بالوصول إلى الحقيقة مهما كان الثمن الذي يُدفع لهذا الغرام. وهي بالعموم فكرة جيدة لعلها تلقي في المشاهد حب العلم والشغف به، بدلاً من الشغف بالسخافات التي تملأ حياته. وفكرة هي دور “الخيال” في العلم التي قيلتْ في حوار واصل مع عميد الكلية، فقد تعجَّب العميد من ذكر الخيال في حديث العلم، وسأله مُمازحًا: “اوعى تكون عملت الدكتوراه في الشِّعر بدل العقاقير والنباتات الطبيَّة”. وهذه الفكرة سليمة بل إنَّ الخيال -حتى درجة الشِّعريَّة منه- مُفيدة في العلم، وهي أحد أهمّ مراحل العلم التجريبيّ المُمثلة لخطوة “الفرض العلميّ”، أو الطرح من خارج حيِّز التجربة.

لكنَّ أكثر الأفكار فلسفيَّةً في الفيلم والتي لمْ يصرِّح بها الكلام، بل رآها المُشاهد على الشاشة هي فكرة “الدائرة المُغلقة” أيْ أنَّ دائرة الحياة والأقدار مُغلقة على الإنسان لا يستطيع أصلاً الخروج منها، وكلما حاول تغييرها حار ووقع في الاضطراب الذي يؤدي إلى إرجاعه مرةً أخرى لما كان عليه. ظهرت هذه الفكرة في عودته إلى جدِّه وتوصيته بتسمية حفيده باسم “واصل” الذي نرى أنَّه اسمه منذ البداية، فها هو الذي أراد تغيير الأقدار يكتبها بيديه دون أنْ يدري، أيْ أنَّ الإنسان ليس له قدرة في تغيير دائرة القدر التي أراد الخروج منها أبدًا. وها نحن نرى العالم الذي وصف كل الأنشطة غير العلم بالخرافة نراه أحد مُحرِّكات المشهد الخياليّ الخرافيّ -من وجهة نظره-. ومن وجه آخر نرى واصل الذي نبذ الخرافات في أول الفيلم نراه يُغرق فيما كان ينبذه للدرجة التي أكَّدت للجميع أنَّه مجنون، وتمضي البراعة الإخراجيَّة والتأليفيَّة في الفيلم للتعبير عن هذه الفكرة في مشهدين بالمونتاج المُوازي لواصل في المشفى وفوقه صورة مكتوب عليها اسم “الله”، وصورة لمعمل العِلم -الذي هو ضد الخرافة- والكلب الأسود (رمز الشيطان) على رأس المعمل المُدمَّر يعوي.

حتى لا نطيل فالتجربة العلميَّة في الفيلم اسمها عند العامَّة “السفر عبر الزمن”، لكنَّ اسمها العلميّ هو “الانتقال الكميّ” وهي تجربة حقيقيَّة للفزيائيين لكنَّها فشلت، فحواها هو محاولة نقل الأشياء عبر المكان أولاً -وهو ما لمْ يُفلحْ- وبعدها التفكير في الانتقال الزمانيّ. وسبب الفشل أنْ لو أمكن نقل كمّ (كالحقيبة مثلاً) من مكان إلى مكان فمَن سيعيد ترتيب الذرات وتهيئتها على ما كانت عليه مرةً أخرى؟! .. وببساطة أنَّ الفارق بين هذه التجربة وبين تجربة نقل البيانات على الحاسوب -نقل فيلم مثلاً- هو إمكان تحويل الصورة البصريَّة إلى لغة رقميَّة، وإمكان إعادتها من لغتها الرقميَّة -المُكونة من صفر وواحد فقط- إلى صورة فيلميَّة مرة أخرى. لكنَّ هذا الأمر لا يمكن في حيِّز الجزيئات والذرات المُتراكبة فوق بعضها. فمَن يُعيدها ويُحييها غير الذي خلقها أول مرة؟! قد ذكرت هذا لأن الفيلم ذكره وشرح الفكرة وذكر “فيزياء الكمّ” في نظريتها شديدة الشُّهرة “النسبيَّة”؛ حتى يستطيع المشاهد فهم الفكرة العلميَّة في الفيلم.

وبعد هذا الاستعراض للفيلم يأتيني شيء من الفخر وشعور احترام عميق لكل صانعي هذا العمل فائق الجودة، حيث لمْ أتصور أن أشرح كل هذه الأفكار في فيلم عربيّ، صُنع بدقة وبمهارة سينمائيَّة إلى الحد الذي لو شاهده المشاهد العاديّ فتثيره عوامل الإثارة في الفيلم، وتجذب انتباهه، ولو تابعه رجل الفكر لأعجبه أشدّ الإعجاب. وهذا العنصر هو السينمائيَّة الخالصة، والفنّ الحقيقيّ.

وقد أجاد مخرج الفيلم في غالب مهامّه، ومنها اختياره للكاميرا المتحركة في مشاهد الشيطان، وكذلك استخدام مُرشِّحات المونتاج (فلاتر الصورة) في مشاهد الانتقال الكميّ. ويا لها من موسيقى تلك التي صُنعتْ للفيلم فقد راعتْ كل عناصر الإثارة والفكرة في آنٍ واحد.

ولا يمكننا إلا التنويه على التميُّز التمثيليّ الشديد للسيد الأستاذ نور الشريف الذي كان شجاعًا في فنِّه أن يغامر بصنع نماذج فنيَّة مُغايرة لمُعتاد السينما المصريَّة -وهو أيضًا بطل فيلم “قاهر الزمن”- في مُخاطرة على اسمه في شباك الإيرادات. هذا هو الفنان الذي يُطلق عليه لقب الفنّ، وهذه هي التجارب التي لا بُدَّ من الاحتفاء العميق بها، والذي قد يؤدي في يوم إلى دفع صُنَّاع السينما العرب إلى إنتاج أفلام حقيقيَّة تسهم بجدٍّ في صناعة وعي المشاهد.

Visited 128 times, 1 visit(s) today