الرئيس رقيبا على السينما
في تاريخ العلاقة بين السينما والسلطة في مصر حادثة شهيرة عندما منعت الرقابة فيلم “شيء من الخوف” للمخرج حسين كمال عن قصة للكاتب ثروت أباظة، بعد أن رأت أنه يرمز بشخصية عتريس التي قام بها الممثل العملاق محمود مرسي، إلى الرئيس جمال عبدالناصر نفسه، كحاكم متجبّر متسلط على الرقاب والعباد.
وقد شاهد عبد الناصر الفيلم بنفسه ثم أمر بعرضه، واتخذ الكثير من أنصار وأشياع عبدالناصر هذه الحادثة دليلا على أن عبدالناصر كان حاكما مستنيرا مناصرا لحرية الفكر، في حين أن تدخل عبدالناصر المباشر بالمنع والسماح، هو أبلغ دليل على غياب الحرية، فلو كانت هناك حرية حقيقية لما تدخل رئيس الدولة شخصيا وشاهد الأفلام ليقرر وحده عرضها من عدمه، وإذا كان قد سمح بالعرض فلا بد أنه أمر أيضا بالمنع، كما حدث مع مسرحية علي سالم الشهيرة “أنت اللي قتلت الوحش” ومسرحية يوسف إدريس “المخططين” التي حاصرت الشرطة المسرح القومي ليلة عرضها الأول ومنعت عرضها.
اليوم يتجدّد العهد، بعد أن أصبح جهاز الرقابة مجرد “ساعي بريد” يعمل بين صانع الفيلم وأجهزة الدولة الأمنية التي توصف بـ”السيادية” رغم أن جهاز الرقابة يعمل بموجب قانون ولوائح محددة تحكم عمله، وقد يسمح بعرض فيلم ما، ثم تقوم الجهات الأمنية الخفية بمنعه.
ولعل ما وقع مؤخرا في حالة فيلم “كارما” للمخرج خالد يوسف خير دليل على هذا، وها هو المخرج يشرح الأمر بنفسه ويوضح كيف أن القرار الأخير بشأن عرض الأفلام المختلف عليها بين الأجهزة، يرجع في نهاية المطاف لرئيس الجمهورية وحده.
ويقول خالد يوسف في مقابلة منشورة مع صحيفة “المصري اليوم” (بتاريخ 27 يونيو) “لن أخفي عليكم، أفلامي قبل ثورة يناير كانت لا تحصل على ترخيص إلاّ بعد عرضها على 5 جهات سيادية، المخابرات العامة والحربية وأمن الدولة والبحوث العسكرية والشؤون المعنوية، حتى فيلم ‘الريس عمر حرب’ الذي تم تصويره داخل الكازينو مر على تلك الجهات، وقتها كان رئيس الرقابة الراحل علي أبوشادي، بعد مشاهدته للفيلم وموافقته عليه لا يمتلك منحي الترخيص ويقول لي ‘توكل على الله شوف طريقك’، وبعدما شاهدت الرقابة فيلم ‘كارما’ (2018) ووافقوا عليه دون ملاحظات، قالوا لي نفس الجملة الشهيرة، لكنني رفضت الذهاب لتلك الجهات، وذهبت للجهة الأولى ثم الثانية وطلبوا مشاهدة الفيلم ورفضت ذلك، فأجمعوا على منعه، وقتها قررت الشكوى لرئيس الجمهورية عبدالفتاح السيسي، الذي أصدر القرار بمنحي الترخيص.”!
عندما يقول رئيس جهاز الرقابة لمخرج ما إنه ليس مسؤولا عن منع فيلمه من العرض، وأنه يتعين عليه أن يذهب ليحل مشكلته “معهم”، أي مع “الناس اللي فوق” أو مع الأجهزة السيادية التي تدير الأمور من أعلى، فما معنى هذا؟ وما الذي تغير بعد ثورة يناير التي يشير إليها خالد يوسف في حديثه، مذكرا إيانا بما كان يحدث مع الرقيب وكيف كان يحيله إلى الجهات العليا، قائلا له “شوف طريقك؟”.
لقد اجتمعت لجنة السينما التابعة للمجلس الأعلى للثقافة وأصدرت بيانا تضامنيا مع عضو اللجنة خالد يوسف بعد منع فيلمه “كارما”، وأعلنت استقالة أعضائها احتجاجا على منع الفيلم لعدة ساعات قبل أن يتدخل الرئيس السيسي ويصدر قراره بعرضه باعتباره رجل الكلمة العليا التي تعلو على كل القرارات، والرقيب الأول على السينما والمسرح والكتاب.. وخلافه.
وقد دفع ما حدث مع “كارما” المخرج تامر السعيد صاحب فيلم “آخر أيام المدينة” إلى كتابة تعليق ساخر على صفحته على موقع فيسبوك، يقول فيه إنه “سمع إشاعة تقول إن أعضاء اللجنة قرروا الاستقالة إلى أن تمنح الرقابة الترخيص بعرض ‘آخر أيام المدينة’ الممنوع بقرارات شفوية علوية سرية منذ ثلاث سنوات، فهل يتدخل الرئيس-الرقيب ويأمر بعرضه أيضا!”.