“الحرب الباردة” أوبرا الحنين والحب المستحيل
كان يمكن جدا أن يحصل فيلم “الحرب الباردة” Cold War لفنان السينما البولندي بأول باوليكوفسكي بجائزة “السعفة الذهبية” في ختام الدورة الـ 71 لمهرجان كان السينمائي، فالفيلم ينتمي لسينما التوهج الفني الذي يخرج عن المألوف، يتمرد على تقليدية السرد، يمزج بين الموسيقى والرقص والأوبرا وأسلوب الفيلم- نوار، وسينما الفن الخالص التي تعتمد على التعبير بالصورة والحركة والإيماءة والصوت والموسيقى، وتخلق إيقاعها الخاص من خلال العلاقات المتشابكة المعقدة المليئة بالمشاعر المضطربة بين شخصيات تمضي عبر السنين، في ذلك البحث المستحيل عن نقاط للتلاقي.
منحت لجنة التحكيم الدولية هذا الفيلم جائزة أفضل إخراج، ولاشك أنه كان يستحق أيضا جائزة أحسن ممثلة لبطلته المتفجرة الموهبة “جوانا كوليغ، لكن ليس من المألوف الجمع بين جائزتين لفيلم واحد في المسابقة.
بعيدا عن حديث الجوائز وكلها تقديرية، نحن أمام فيلم لا يشبه غيره من الأفلام. صحيح أن مخرجه يصوره باستخدام نفس الأبعاد التقليدية القديمة للشاشة، أي بنسبة 1 الى 1.37 بحيث بدا كما لو كانت الصورة محصورة في إطار شبه مربع وهو أسلوب مقصود لإضفاء طابع الفترة التي تدور خلالها الأحداث، كما أنها توحي بالضيق والفوبيا التي تعاني منها الشخصيات التي تتلصص عليها الكاميرا في لقطات مصورة من زوايا مرتفعة، أو من على مسافة. ويستخدم المخرج أيضا التصوير بالأبيض والأسود تماما على غرار فيلمه البديع السابق “إيدا” Ida (2010).
يمكن اعتبار “الحرب الباردة” قصة حب تدور في الزمن المستحيل، بين اثنين محكوم عليهما بالفراق. طرفا القصة هما “فيكتور” و”زولا”. فيكتور موسيقار وعازف بارع على البيانو وعاشق لموسيقى الروك، وزولا مغنية شابة تصغره بنحو عشرين عاما تقيم في بلدة صغيرة في الريف البولندي. الزمن: أواخر الأربعينات أي في وقت كانت بولندا لاتزال تتعافى من مصائب الحرب العالمية الثانية. كانت الدنيا كلها مازالت بـ “الابيض والأسود”، وجاءت السلطة الشيوعية الجديدة تبحث عن إرضاء ربيبتها موسكو والتقرب إليها من الفن. يذهب فيكتور التابع لمؤسسة رسمية تتبع بدورها الحزب الحاكم، يبحث عن المواهب الجديدة ويستلهم من الموسيقى الشعبية (أي الأغاني التي تغنيها الجماهير الكادحة في الريف)، وهناك في احدى المدارس تقع عيناه على “زولا” ولا تفارقها أبدا منذ تلك اللحظة الخاصة جدا في تاريخه الشخصي. زولا موهوبة في الغناء دون شك. لكن فيكتور يريد منها أكثر من الغناء. يريد قلبها له وحده، ويريد أن يصنع منها نجمة في عالم الغناء. وهي تملك الموهبة ونزعة واضحة للتمرد وجمالا من نوع خاص. إنها رغم مظهرها الناعم، يردد الجميع أنها قتلت أباها. وستكشف زولا هذه الحكاية لفيكتور فيما بعد، عندما تخبره بأن القصة مبالغ فيها، فالأب لم يمت فقد قامت فقط بتلقينه درسا قاسيا عندما خلط بينها وبين أمها!
تمضي العلاقة العاطفية الملتهبة بين الاثنين، لكن هناك جبل من الثلج يقف فيما بينهما. ربما يكمن في الأصول الطبقية، في الميول الشخصية، في الرغبة الدفينة لدى فيكتور في “الخلق” و”التشكيل” و”استحضار الموهبة”، بينما تنزع زولا إلى الاستقلالية، تجنح الى التمرد أي التحرر من كل قيد حتى لو كان قيد الحب.
ستمضي زولا مع فيكتور لتشق طريقها في عالم الموسيقى الأوروبي في الخمسينات. ستفلت معه من الحصار الذي تفرضه السلطة في بولندا على الفنانين، ترغب في تسخيرهم من أجل الدعاية السياسية. وفي بداية الفيلم مشاهد كثيرة تسجيلية لكل هذه الاستعراضات العسكرية والموسيقية الراقصة والمسرحيات الدعائية مع مزيج من المشاهد التي تستوحي من الأغاني والرقصات الشعبية. وخلال العلاقة المتوترة التي تدور بين الحب والفن ودسائس عالم السياسة، تذهب زولا مع فيكتور الى يوغسلافيا وبرلين الشرقية ثم الى باريس. في برلين تخطر لفيكتور فكرة اللجوء الى الغرب، إلى باريس. يتفق مع زولا على أن تذهب معه لكنه ينتظر في الغابة دون أن تأتي. سيذهب وحده لكنه سيعثر عليها بعد سنوات في باريس. لقد تزوجت دبلوماسيا مشغولا عنها دائما، وأصبحت من نجوم عالم أندية الموسيقى.. في عصر الروك.
في بناء متأرجح، يحدث اللقاء. ثم الفراق. وتبدو زولا معذبة في تمزقها الداخلي. ويبدو فيكتور أسيرا لذاته الغاضبة التي لم تجد الراحة في المنفى الاختياري قط. زولا المتقلبة تقرر فجأة العودة الى بولندا رغم ما تتمتع به في باريس من نجاح. إنها تبدو كما لو كانت تهرب من فيكتور. وفيكتور لا يمكنه أن يفهم كيف يمكن لها أن تفعل. لكن مع مضي السنين سيعقد هو أيضا اتفاقا للعودة ولكن سيتعين عليه أن يدفع الثمن.
إنه الحب المستحيل في حقبة مليئة بالاضطرابات، بالقلق، بغياب الحدود الواضحة بين الذات والعالم، فما هو العالم، وما موقعنا منه بالضبط؟ ليس من الممكن القول إن ما نسقطه من تساؤلات حول الفيلم هنا هي تساؤلات واضحة كل الوضوح بين ثنايا الفيلم، فسيناريو باوليكوفسكي يتعمد احاطة الموضوع وشخوصه بأكبر قدر من الغموض، فلا نستطيع أن نتبين سر الأزمة القائمة أو سبب ذلك الجدار الثلجي البارد الذي فرض نفسه بين فيكتور وزولا.. وهل “الحرب الباردة” هي فعلا القائمة الحرب المستمرة طوال الوقت بين الاثنين.
هناك قدر من الغموض الدرامي المثير الساحر والضبابية التي تخفي أي تفسير للدوافع التي اعتاد عليها المتفرج، لتلك اللقاءات والافتراقات الممتدة عبر نحو عقدين من الزمان ويحدث الانتقال في الزمن أحيانا داخل اللقطة الواحدة والمشهد الواحد، وأحيانا من خلال فواصل من اللقطات السوداء يستخدمها باوليكوفسكي بين المقاطع المختلفة، مع التعليق عن هذا الشجن الحزين من خلال الموسيقى والأغاني التي تنتمي إلى الفترة. إن شريط الصوت في “الحرب الباردة” يصلح وحده عملا فنيا خلابا قائما بذاته. ولا شك أنه اقتضى الكثير من البحث والتدقيق في تراث عهد كامل ثم إعادة توليفه في سياق بصري شديد الجاذبية.
في الفيلم اهتمام كبير بالتكوين، بتوزيع الكتل والضوء، بالتركيز على اللقطات القريبة، ثم الابتعاد عنها فجأة الى اللقطات العامة.. مع رصد “وزلا” من كل زاوية. إنها في بؤرة الصورة وبؤرة الفيلم، ويشعر المتفرج رغم ابتعاد الفيلم عن المبالغات العاطفية، بالرغبة في معرفة سر أزمتها وتمزقها ولماذا قررت أن تدمر قصة حبها على نحو ما فعلت، وكيف أقدمت على العودة الى بلادها وهي تعلم أنها لن تكون حرة كما كانت في باريس، وما سر تلك الروح المعذبة القلقة التي يخفي جمالها الخاص، جرحا داخليا عميقا.
ولعل ما يجعل من شخصية زولا العصب الحقيقي الذي يدور الفيلم من حوله، الأداء الرفيع للممثلة جوانا كوليغ صاحبة الموهبة الخاصة، في الغناء والتمثيل. إنها تبدو بحركتها الدائمة، بقلقها وتوترها واقترابها ثم ابتعادها البطلة الوحيدة المعذبة في أوبرا الحب المستحيل.
باول باوليكوفسكي يهدي فيلمه الى والديه اللذين عاشا تلك الفترة. وهو يطلق على الشخصيتين الرئيسيتين اسمي والديه أي فيكتور وزولا. لكن باوليكوفسكي الآن في الثانية والستين من عمره، وقد جاء للإقامة في لندن منذ أن كان في الرابعة عشرة، وقد تعلم صنع الأفلام من دون أن يدرس السينما، بل من خلال تصوير الأفلام التسجيلية التي بدأ في إخراجها في أوائل التسعينات. ورغم أنه أخرج أفلاما يمكن اعتبارها “بريطانية” أو “أوروبية” إلا أن شهرته الكبيرة تحققت مع فيلمه البولندي الأول الكبير “إيدا” الذي مضى ليحصل على الأوسكار، ثم “الحرب الباردة” الذي نال جائزة الإخراج في كان.