“البيضة والحجر”.. الحاجة إلى حقيقة ثابتة

“البيضة والحجر” أحد الأفلام الاجتماعية القليلة في السينما المصرية التي تعالج ظاهرة انسانية بشكل مصري شعبي وهو الاسلوب الذى يميز كل افلام كاتب السيناريو محمود ابو زيد والذى كَون ثنائيا سينمائيا مع المخرج على عبد الخالق.

يمكن قراءة الفيلم على مستويين:

المستوى الاول: وهو المستوى الشعبي البسيط عن عالم الدجل والشعوذة وضحايا هذا العالم من الناس الذين يعتقدون فيه.

المستوى الثانى: وهو المستوى الفلسفي الأعمق للفيلم ورسالته عن قوة تأثير الإيحاء على البشر عموماً.

على المستوى الأول، وَاجه الفيلم الناس بالحقيقة التي يهربون منها وهى انهم الذين يصنعون الساحر أو الدجال بخوفهم وقلقهم الذى يُسهل التأثير عليهم بواسطة الإيحاء فيقعوا تحت رحمة مَن يسيطر عليهم ويخدعهم ببيع الوهم لهم.

وعلى النقيض يمكن ان يكون الإيحاء علاجا عندما يوجهه العلم بصورة ايجابية سليمة (كالعلاج النفسي بالإيحاء).

أما على المستوى الثاني، فقد أبرز الفيلم فكرته الأساسية وهى قوة وفاعلية الإيحاء للتأثير على أي شخص ، بشرط ان يكون لديه القابلية والاستعداد لهذا التأثير من خلال خوفه وقلقه وهما المدخل الوحيد الآمن لدخول الدجال او المشعوذ أو أي شخص يريد التحكم في مَن امامه ليؤثر عليه ويقوده فى الاتجاه الذى يريده هو بلا ادنى مقاومة من الانسان الواقع تحت تأثير ذلك الإيحاء .

اسلوب المؤلف محمود ابو زيد لا ينجح فى توصيل رسائل افلامه عموماً ومنها هذا الفيلم ، بسبب المباشرة فى توصيل الرسالة وذلك من خلال الحوارات الطويلة المتكررة والمُكملة لبعضها وكأنها مشهد واحد طويل تم مونتاجه لينتج اكثر من مشهد، وايضاً الحوارات الفلسفية احياناً حتى وإن كانت بأسلوب مبسط للجمهور العادي والتي تدور بين الابطال في صورة نقاش يُقنع فيه احدهم الآخر بوجهة نظره ، وهو شئ دائماً ما يكرره المؤلف مع المخرج فى كل الافلام التي جمعتهم معاً، ولكنه في نفس الوقت فقد ميز هذا الاسلوب افلامهم واستطاعوا ان يصلوا به للمشاهد العادي، ولكنه لا يثير المشاهد الخاص وجمهور النخبة والمثقفين الذين يريدون مُعادل موضوعي لتوصيل رسالة الفيلم بدلاً من الحوارات الطويلة المباشرة.

اما تتر البداية فقد كان مُلخصاً للمفارقة الموجودة بالفيلم وهى متمثلة في البطل الذى كان يعمل مدرسا، وعندما كان يسعى ويجتهد بشرف في عمله ويقاوم ويتكيف مع ظروفه الاقتصادية الصعبة بطريقته التي كررها كثيرا في عدة مشاهد وايضاً حاول أن يعلمها الى تلاميذه وهى (محاربة الغلاء بالاستغناء) فقد تم اتهامه بأنه شيوعي (ويبث وينفذ) في الطلبة بكلام يسمم عقولهم وعندما تم التحقيق معه كانت التهمة الكبرى الموجهة اليه هي أنه (صاحب مبدأ)، وعلى إثر ذلك تم ايقافه عن العمل، وعلى النقيض تماما فحينما صار على هَوىَ من حوله ممن رأوه (صاحب كَرَامَات) فقد كَسب على طول الخط وسَطع نِجمه واصبح من (عِلية القَوم) في المجتمع، وهذا ما تعبر عنه اغنية تتر البداية حينما تقول:

(( اللي تِعب واللي صَبر ..قالوا عليه ده من الغَجر
واللى شَفط واللي حَشر ..قال ايه ده يبقى مُعتبر )،

وبعد هذا يستوعب البطل الدرس الموجه اليه من تجربته وهو ان محاولة اقناع الناس بالعلم والمنطق تفشل دائماً، لكن توجيهم عن طريق الإيحاء وباستخدام الأشياء التي يعتقدون فيها تنجح دائماً ،
فيتجه البطل في البداية وعن طريق دراسته للفلسفة باستخدام قوة الإيحاء ذات التأثير الايجابي على الناس ويقوم بحل مشاكلهم النفسية ولكن بالطريقة والوسائل التي يعتقدون فيها وينجح نجاحاً باهراً في ذلك ، الا انه بعد التعرف على شخصية الدجال الحقيقي “عم سباخ” وعلى الاموال التي كَونها من هذه المهنة يحدث التغيير المحوري في الفيلم وفى شخصية البطل حينما يدرك ان اهم عوامل نجاح الساحر هي:
١- ثقته بنفسه
٢- قوة اعتقاد الناس فيه.
وبعد مشهد مُعبر عن الصراع ما بين العلم والجهل بين شخصية البطل “مستطاع الطعزى” وشخصية الدجال الحقيقي “عم سباخ” يظهر فيه بوضوح انتصار قوة الإيحاء المبنية على العلم فى شخص البطل على قوة الجهل والإيحاء المبنى على الخرافات فى شخصية الدجال ، الى الحد الذى يجعل الدجال يخاف فعلاً من البطل ويصدقه، فيستخدم البطل لاحقاً الفلسفة التي درسها للتأثير على الناس بالإيحاء وتحقيق مكاسب شخصية ، وتأثيره هذا يُلبى رغبات اولئك الذين وَثقوا في سمعته المصطنعة ، اولئك الذين جاءوا اليه وكأنهم يريدون أن يخدعهم فيُلبى لهم رغباتهم بخداعهم فعلاً .


لكنه بعد استخدام ذكائه الحاد وعلمه هذا ووصوله الى قمة الشهرة والثروة يقع فى النهاية في نفس الفَخ الذى أوقع الناس فيه مسبقاً ، فبعد ان أيقن أن خوف الناس وقلقهم من المستقبل يوقعهم تحت قوة تأثير الإيحاء لهم بأى شئ ممن يريد ان يسيطر عليهم ، يقع هو فى نفس الفخ (فخ الخوف والقلق) من مقابلة المسئول الكبير ذات المنصب الحساس والذى لا يستطيع جمع اى معلومات عنه لتساعده في خداعه وينهار امامه ويعترف بأنه نصاب ودجال .
لكن مجهوداته السابقة ومشواره الكبير في خداع الناس لا يذهب هباءاً، فبعد اعترافه مجدداً أمام جهات التحقيق بأنه دجال ونصاب، واعترافه الأهم والاعمق والفلسفي ايضا بأن:
(( الناس في حاجة ل يقين ، لحقيقة واحدة تكون ثابتة ،
ده اللي بيخليهم يؤمنوا بحجاب وتعويذة ودرويش اهبل يضحك عليهم ))

بعد كل هذا لا أحد يقوم بتصديقه، الى أن يتحرك أحدهم فيقوم بمساعدته واخراجه من ازمته امام الجهات الامنية وهو مسئول كبير آخر كان قد سبق وقدم له بعضاً من كَرَامَاته، ليخرج مجدداً للناس والمُرِيدين له، الناس الذين تعودوا على ان ينخدعوا لدرجة انهم اصبحوا يخافون الحقيقة ولا يريدون معرفتها، بل يريدون خداعهم بالإيحاء لهم بما يرغبون.

فيلم “البيضة والحجر” او كما كان اسمه أولاً “الهجايص” ورفضته الرقابة وهو الاسم الاقرب لقصة الفيلم التي تدور عن (الهجص، والهجاصين، والهجايص)، الهجص أي الهراء: الذي يعيشه الانسان يومياً، والهجاصين: الذين نعيش معهم يومياً ايضاً. والهجايص: التي نعيش بها احياناً أو دائماً في عز ما تحتاج الناس اليقين بحقيقة واحدة تكون ثابتة .

Visited 119 times, 1 visit(s) today