“البيات الشتوي “.. نموذج للسينما الذهنية الجميلة

متابعة أفلام المخرج التركي نوري بيلجي جيلان، جزء أساسي من متابعة إتجاهات السينما العالمية هذه الأيام، لاسيما أن الرجل مُحتفى به دائما في مهرجان كان السينمائي، حصل فيلمه once upon time in Anatolia  “حدث مرة في الأناضول ” منذ أربع سنوات على جائزة لجنة التحكيم الكبرى ثم اقتنص winter sleep  ” البيات الشتوي ” السعفة الذهبية في الدورة الأخيرة .

ما يجعل ” البيات الشتوي ” مختلفا قليلا عن باقي أفلام نوري جيلان هو أنه مُستلهم من قصص الكاتب الروسي أنطون تشيكوف؛ القصص القصيرة لتشيكوف هي مزيج غيرعادي من البساطة والنفاذ والموضوعية والإثارة الذهنية والإيقاع الرائع والنهايات الساخرة. وكما هو معروف لا يقدم تشيكوف رؤية أخلاقية معينة أو يدين شخصية من شخصياته أو طبقة من الطبقات الإجتماعية، ولكنه يُعبر بقصة بسيطة في شكلها وأحداثها، عن شخصياته بتفهم وعمق شديدين، ويقدمها كما لو كانت تعيش في تصوراتها الخاصة، غير قادرة على التواصل الشعوري والإجتماعي مع بعضها البعض، كل ذلك يُضفي على قصصه حالة خاصة من العدمية ولكنها ليست قاتمة أو قابضة إنما تكتسب الحيوية والإثارة من روح السخرية ومن الصراع والتفاعل بين المشاعر في دوامات نفسية خلف الحدث الذي يبدو مفتقرا إلى الطاقة والديناميكية في مظهره .

بداية متأنية

يحكي ” البيات الشتوي ” قصة ثلاث شخصيات: الزوج ويدعى إيدين، ممثل مسرحي سابق ويدير حاليا فندقا في مكان منعزل في منطقة الأناضول، وزوجة شابة تدعى نهال تعمل في مجال الجمعيات الخيرية، وأخت أربعينية تدعى نجلا انفصلت مؤخرا عن زوجها . يبدأ الفيلم بداية بطيئة للغاية ومتأنية، قد تكون مملة بعض الشيء ولكنها كانت مهمة لتوضيح الانعزال والمحاصرة التي تتعرض لها الشخصيات وخلق حالة بصرية مُستغلة طبيعة منطقة الأناضول من الجبال، والسهول الممتدة، والطرق الجبلية المتعرجة، والمساحات الشاسعة من الفراغ، والسكون، واللون الأصفر المشوب بخضرة خفيفة، والفندق المبني داخل كهف في الجبل الذي يرتاده عدد قليل جدا من السائحين .

كل ذلك خلق حالة بصرية ونفسية من الرتابة والوحدة التي تعاني منها الشخصيات. ثم تأتي الحادثة التي تتعرض لها سيارة الزوج عندما يقذفها أحد الأطفال بالحجارة ونكتشف أن الطفل من عائلة فقيرة مهددة بالطرد من الأرض التي تعيش فيها والتي ترجع ملكيتها للزوج إيدين مما أثار غضب وحنق الطفل ضد الرجل وسيارته .. تدور محادثة ظريفة بين الزوج والزوجة والأخت تطرح فيها ” نجلا” نظرية فلسفية غريبة عن عدم معاقبة الشرير وتركه لشعور الندم كي يخلصه من إثمه ! ثم يذهب حمدي رجل الدين الفقير ويصطحب معه ابن أخيه ،الطفل الذي قذف الحجارة، للإعتذار لإيدين.

 بعد تلك البداية يعتمد الفيلم على الحوارات الطويلة  بين الزوج والأخت من جهة والزوج والزوجة من جهة آخرى، وفي أغلب تلك الحوارات تكون الكاميرا ثابتة تقريبا . ينجح نوري جيلان  بعد أن خلق حالة العزلة البصرية التي تحيط بعائلة إيدين بأن يترك الحوار ليقترب بنا إليهم، كأن الكاميرا أخذت لقطة عامة واسعة للشخصيات وحيدة وصغيرة وسط الفراغ ثم أخذ الحوار يقوم بوظيفة حركة الكاميرا، يقترب متمهلا من الشخصية والصورة التي بدت غائمة وصغيرة في البداية تصبح شيئا فشيئا واضحة ودقيقة التفاصيل، بل يستمر الحوار في اكتشاف الشخصية وأدق تفاصيل حياتها حتى يصل إلى عالمها الداخلي المشحون والمتوتر والحيوي، عالم من الصراعات النفسية والرغبات القديمة والآمال والشعور بالخيبة والفشل. قوة وحيوية وكشف وإثارة الحوار قد تغلبت على احساس السكون الذي تعطيه الكاميرا للدرجة التي لا تكاد تشعر معها أن الكاميرا ثابتة ولا تتحرك في الواقع.

يفسر ذلك سبب عدم الإحساس بالمسرحة في نقل الحدث ولا في التمثيل، والمثير للتأمل أننا نلاحظ في أفلام المكان الواحد باقتراب المخرج أو ابتعاده من لغة المسرح، قد ينساق لمسرحة السينما أحيانا أو يحاول تقديم لغة خاصة بالسينما أحيانا آخرى. وفي” البيات الشتوي”لا نشعر بالمسرحة فقط، بل لا نجد تلك الإشكالية من الأساس. لم يحاول نوري جيلان أن يتغلب على المكان المحدود للحدث بحركة الكاميرا ولا بالمونتاج ولا بتوجيه الممثلين بعيدا عن الأداء المسرحي ولكنه وضع الكاميرا ووقف خلفها يشاهد مثلنا تاركا كل المسؤولية على الحوار كي يصنع فيلما مثيرا وممتعا رغم مدته الطويلة التي تزيد عن ثلاث ساعات .

المثقف المتردد

إيدين هو مثال للمثقف المتردد المليء بالمخاوف والتناقضات التي لا حصر لها بين الانعزال في فندق بعيد في منطقة نائية، وبين إيجابية مُصطنعة عن طريق كتابة مقالات لجريدة محلية لا يقرؤها أحد، بين نقده اللاذع لرجال الدين في مقالاته وبين عدم دخوله لمسجد في حياته على الإطلاق، بين اقتناعه بأن زوجته تتعرض للنصب من  المجموعة التي يشاركونها الأعمال الخيرية (ويبدو أن ذلك صحيحا)، وبين تبرعه بمبلغ كبير لصالح هذه الجمعية وتردده في مراجعة أوراق الجمعية، بين إعطائه الحرية لزوجته التي تصغره في السن إذا أردات الاستمرار معه أم لا وبين كونه في داخله لا ينوي السماح لها بالإبتعاد عنه، بين رغبته في تملك زوجته وحياتها بكل ما تعنيه الكلمة (تملك) من معنى وبين رغبته في أن يظهر أمام نفسه وزوجته بمظهر العادل والمتحضر الذي يعطيها إرادة الإختيار وحق أن تحيا كما تريد.. بين أن يقرر السفر والإبتعاد إلى اسطنبول وبين عدم قدرته على تحقيق ذلك. وفي كل مرة يستطيع أن يجد التبرير والمنطق لكل أفعاله المتناقضة ويصل لتلفيق جديد ووهم آخر في دائرة يبدو أنها لا تنتهي، ورغم ذلك نحن كمشاهدين نتعاطف مع ايدين ، نتعاطف مع تردده وحيرته وعجرفته أيضا بل نتعاطف مع فشله وعجزه أمام الواقع الثقيل.

يبدو استخدام الصورة السينمائية متوافقا مع رؤية الفيلم في الغوص بعيدا في المشاعر والماضي متجاوزا الحاضر والواقع الساكن والطبيعة المنعزلة للأحداث والشخصيات. فمن ناحية  ثبات الكاميرا وغلبة الحوار ومكان الممثلين ووضعهم بالنسبة لبعض (نجلا كانت تجلس وراء إيدين في عمق الكادر في المشهد الطويل بينهما) كل ذلك يعطي الإنطباع بزيف الواقع الخارجي والتوجه للعوالم الداخلية في اللاوعي والشعورلإكتشاف الحقيقة، وفي نفس الوقت الإضاءة الصفراء الداكنة وتفاصيل الديكورالدقيقة خلقت حالة الدفئ والحميمية والإقتراب من عالم الشخصيات.. أي أن تفاصيل الصورة استطاعت التعبيرعن التناقض بين الوجود الخارجي الساكن والحقيقي لعالم إيدين الذي نراه أمامنا وبين الزيف والخواء والانعزال والبناء النفسي المتهدم وراء هذا الوجود، وهذا التناقض الذي تخلقه الصورة يعكس رغبة إيدين الشديدة في التمسك بعالمه الخاص حتى وإن كان زائفا ومتوهما.

سينما ذهنية

ورغم ذلك فالفيلم ينتمي للسينما الذهنية التي تعتمد على الحوار لتحقيق الإندماج المطلوب مع الشخصيات والبيئة، وثبات الكاميرا وسيادة اللقطة المتوسطة في أغلب المشاهد الداخلية ساعد على توكيد هذا الشعور وأعطى الفرصة لإعمال الذهن في الصورة ومكوناتها أكثر من الإستجاية العاطفية والنفسية لها.. والفيلم من هذه الناحية (الذهنية) أقرب ما يكون لعالم الرواية والأدب واستلهام تشيكوف تحديدا بكل ما فيه من حيوية وإثارة نفسية هو السبب في انتشال الفيلم بعيدا عن الجمود والبرود والمباشرة.

ينتهي الفيلم نهاية ساخرة تتناسب مع أجواء تشيكوف أيضا، حيث يقتنع إيدين كما نسمعه في حواره الداخلي بأن رؤيته للعالم ولزوجته ولنفسه قد تغيرت بعد المناقشات والمكاشفات التي خاضها ولكنه في حقيقة الأمر لم يتغير على الإطلاق  كما يتبين من الحوار الظريف بينه وبين صديقه سوافي والمدرس الذي يعمل مع زوجته في الأعمال الخيرية، وكذلك عندما يقرر الرحيل إلى أسطنبول والابتعاد طوال فترة الشتاء لكنه لايستطيع السفر ويعود إلى البيت وزوجته مرة آخرى ويشرع في كتابة دراسة عن المسرح التركي الحديث وهو مشروع قديم يحاول كتابته من فترة طويلة، السخرية هنا في اقتناعه الداخلي بالتغيير وفي إدراكنا نحن كمشاهدين بأنه كما هو، لم يتغير، وكل ما فعله هو تبرير جديد لحياته المُختبئة والخائفة.

 في النهاية سوف نجد السمات العامة لسينما نوري جيلان في السرد البطيء والتكوين البصري الجميل والكاميرا التائهة فوق هضبة الأناضول والتي تسجل اللقطات والأحداث كما هي في حقيقتها وتأمل في اكتشاف عوالم آخرى متخفية وراء هذ السكون والصمت .. وفي “البيات الشتوي ” استلهم جيلان أجواء تشيكوف الساخرة واستخدم الحوارالكاشف المثير للذهن كي ينقلنا من الوحدة والانعزال التي تحيط بشخصياته إلى الاقتراب منهم لدرجة الحميمية والتعاطف معهم ومع ضعفهم وعجزهم في مواجهة الواقع الكئيب .

Visited 72 times, 1 visit(s) today