“البابوان” ملحمة سينمائية على أراضي الفاتيكان

“المُمثِّل الماهر صيَّادٌ للمعاني” هذه الجملة قد تعبِّرُ عن فيلم “البابوان” “The Two Popes” خير تعبير. فإنَّه فيلم لمْ يمتَزْ بالكثير من الممثلين، بل باثنين فقط من الممثلين الرئيسيين طوال أحداثه. لكنَّهما قد أثبتا أنَّ الممثل الجيِّد هو الممتلك لمهارة استشعار المعاني، وكيفية اصطيادها. ويا لها من ملحمة تلك التي دارت بينهما طوال أحداث الفيلم.

إنَّهما الممثلان القديران البارعان أنطوني هوبكنز، وجوناثان برايس. سترى في هذا الفيلم -فوق كل المعاني والدلالات القادمة- فنًّا رائقًا من التمثيل الذي يخلو من التنافسيَّة، بل اختار التوافق والانسجام والمساعدة؛ حتى ترى “هوبكنز” يمهد المعنى للاصطياد، وترى “برايس” وهو يقنصه، وترى “برايس” ينسحب كالقائد الماهر، ليفسح المجال لـ “هوبكنز” ليدخل بسحره الآسر في التمثيل “السهل المُمتنَع”.

والأشد إثارةً للإعجاب أنَّهما كانا يفعلان كل هذه المناورات والمداورات التمثيليَّة من دون ضجَّة، بل أدَّيا هذه الملحمة كما يعبر النسيم بجوار أذنك فلا تحسُّ به؛ بل تحسّ بالارتياح الذي يتركه فيك. وهذا ما جاء عليه الفيلم تمثيلاً ولا تقنعْ بهذه الكلمات فما هي إلا مقدمة في كتاب سطَّراه سويًا هذان الكاتبان المُجيدان.

فيلم “البابوان” يصور حادثة حقيقيَّة وقعت في العام 2013 حيث تقاعد البابا بنيديكت السادس عشر” (أنطوني هوبكنز) عن الكُرسيّ البابويّ في “روما” لداعي الهِرَم والتقدِّم في السن المُعجِز عن القيام بأدوار المنصب. ليعقبه البابا “فرانسيس” (جوناثان برايس) بالانتخاب. ورغم أن الفيلم قدَّم بعضًا من الأمور التي ستعين المشاهد على فهم السياق العامّ للأحداث إلا أنَّه لنْ يكون كافيًا في وعي مشاهدنا العربيّ في اكتمال الصورة أمامه وهو يشاهد فيلمنا. لذا نورد هاتين الحقيقتين – تهيئةً لبيئة الفيلم للمشاهد العربيّ:

البابا في “روما” هو رأس “الكنيسة الكاثوليكيَّة” في العالَم أجمع. والكاثوليكيَّة هي الملَّة الأكثر انتشارًا من ملل الديانة “المسيحيَّة” في العالَم. وهذا البابا يؤمن الكاثوليك أنَّه اختيار من الإله، وأنَّه صوته وهو مُعبِّر عنه وعن رغباته وعن اختياراته (لهذا ترى هذا الاهتمام الضخم بشخصه والترقُّب لانتخابه في الفيلم).

البابا “يوحنا” -الذي مات في أوَّل الفيلم- أطلق صيحات كثيرة -مُسجلَّة في سجل “الفاتيكان” الرسميّ- لإنقاذ “الكاثوليكيَّة” التي تعاني مشكلات ضخمة في بُنيانها الكنسيّ؛ مما يدعو “الكاثوليك” إلى تركها إلى الإلحاد أو إلى “الإسلام” (لهذا يرى المشاهد هذا الحديث الطويل عن المشكلات في الكنيسة طوال الفيلم).

هذا عن الواقع. فماذا قدَّم الفيلم لنا؟

 لقد أفاد الفيلم من الوقائع التالية ليُقدِّم فيلمًا ممتازًا من طراز أفلام الدراما والمعاني الأرفع. وقيمة الفيلم الحقيقيَّة هي في الحوارات شديدة التميُّز التي قادها هذا المؤلف الماهر للغاية أنطوني ماكرتن. والفيلم من حيث الدراما شديد التميُّز في عرض العلاقات الإنسانيَّة بين اثنين من رجال الدين المسيحيّ. هذه العلاقات التي تمرُّ بالكثير من المحطات؛ منذ المنافسة المِهنيَّة أو عداوة أهل المهنة -صنع العداوة هنا التنافس على منصب البابا، والاختلاف الضخم بين الشخصيتين- حتى وصلها إلى تحوِّل العجوزين إلى شابين مُنطلقين بين أرجاء العالَم المُمتد. هذه العلاقات التي ظلَّت تتطور منذ أول دقائق فيلمنا إلى شارة النهاية. في واحدة من أنجح تجارب التطور الدراميّ، وعمليات الإنضاج التي شهدها العام الحاليّ.

استطاع الفيلم أن يبثَّ معانيه عن طريق ثلاث جلسات حواريَّة بين عجوزين، يتسكعان على حافَّة العُمر، كما يتسكعان على حافَّة المعاني. وكأنَّها جلسات اعتراف طويلة مُمتدَّة لكنَّ المخرج استطاع تصويرها من غير علمهما. وهنا نأتي لأميز ما في الفيلم فنيًّا هو “الحوار” الذي كان جسد الفيلم، بعدما كان التمثيل والإخراج رُوحه. نرى في فيلمنا أميز تجارب الحوار هذا العام؛ فقد تميَّز بالذكاء الحادّ، وشحن المعاني، وحشد الرمزيات، وكثير من التلاعب بالألفاظ، والتلاعب عليها. سلك كل هذه المسالك ليدفع للمشاهد المعاني والأحاسيس التي أرادها دفعات متتالية لا يصيبك فيها ملل أبدًا.

لو قلتُ عن الفيلم إنَّه فيلم أضداد فلن أعدو الصواب؛ الفيلم صراع بين ضدَّيْنِ كاملين مُجسَّديْن في الشخصيتين الرئيسيتين. وهذا التضاد هو المُولِّد الحقيقيّ وراء المعاني الكثيرة فيه. وقد تمثَّل التضاد في كل شيء بين الشخصيتين: تضاد بين خلفيات الشخصيتين: حيث “بنيديكت” الباحث ورجل العِلم، الذي قضى حياته بين الكتب والمراجع و”فرانسيس” رجل الحياة والخبرة، الذي قضى حياته بين الناس. تضاد بين فَهمين؛ فهم مُحلِّل وفهم مُتمتِّع. هذا الذي يُلقي النكتة ليضحك، وهذا الذي يفكِّر في منطقيتها أولاً قبل أن يضحك. تضاد بين موقفين؛ موقف الالتزام وموقف التسامح والتساهل. تضاد بين تصرُّفين؛ تصرف احتوائيّ وتصرف انفعاليّ. وأعظم تضاد هنا هو التضاد الرمزيّ بين الروح والثقافة الأوربيّين في الألمانيّ “بنيديكت”، والروح والثقافة اللاتينيَّة الأقرب للشرق في الأرجنتينيّ “فرانسيس”. وأعظم من لقاء التضاد في الفيلم هو رسالة الفيلم التي تقول أنّ الضديْن -عندما التقيا في غير احتراب- اكتشفا أنَّهما ليسا ضدين، بل إنَّ جوهرهما واحد، جوهرهما هو حقيقة الإنسان.

 ولا بُدَّ أن يمتدَّ الحديث لمُخرج ماهر ذي رؤية وقرار فنيّ. حيث كان من الجائز أن يكتفي المخرج فرناندو ميريلِّس بإخراج عاديّ أو رؤية عاديَّة لفيلمنا، وسيكون بها ناجحًا. لكنَّه اختار أن يكون صاحب قرار فنيّ، وصاحب رؤية معنويَّة في إخراج هذا الفيلم. القرار هو أنَّه سيقدِّم صورة عفويَّة للفيلم!

نعم. اختار أن يصوِّر الفيلم بطريقة الهَواة. نرى في الفيلم كثيرًا اهتزاز “كادر الكاميرا”، ونرى كثيرًا انعدام توازنها خاصَّةً في بعض الحوارات (وهما أمام البيان)، ونرى في أثناء التحرُّك أنَّه قد اختار حركة الكاميرا الساذجة التي يصور بها الأناس العادِّيُّون الذين يحاولون الاحتفاظ بلحظاتهم. ويأتي حوار بين “فرانسيس” وبين عامل الحديقة فنرى الكاميرا تلاحق المتحدَّثيْن من غرفة أخرى -كما يفعل الهواة-. ونرى زوايا غير اعتياديَّة (مثل الحوار الأخير بينهما في الغرفة الداخليَّة وهما جالسان على أريكة). ونرى ونرى… ولكنْ لِمَ هذا الاختيار في إخراج التصوير؟!

إنَّه ليصنع حالة العفويَّة التي في المشاهد والحوارات، أو ليُواكبها المواكبة اللازمة. وكذلك ليصوِّر المشاهد وكأنَّها اعترافات قد صوِّرتْ دون معرفة صاحبَيْها، وليدلّ على أنَّه حقًّا خلف جدران “الفاتيكان” أيْ داخله يكشف الحقائق. ونراه عندما يصل الاعتراف لمرحلة بالغة القسوة والسرِّيَّة (الاعتراف بالانتهاكات الجنسيَّة في الكنيسة) يختار أن يبدل الكلمات بالصفير، ثمَّ نراه يخرج من الغرفة حقًّا؛ ليصور لنا الباب من الخارج، ثمَّ يدخل بعد الاعتراف. كما لا بُدَّ من التنبيه على استخدام جيد للأغاني والموسيقى في الإخراج.

Visited 68 times, 1 visit(s) today