البابا الأميركي “بيوس” الثالث عشر: مؤمن أم ملحد أم مهرطق؟
في العام الماضي عرض مهرجان فينيسيا حلقتين من المسلسل القصير “البابا الشاب” The Young Pope– من إنتاج تليفزيون سكاي البريطاني. وأنا لا أكتب عادة عن المسلسلات التليفزيونية، ولا يمكنني متابعتها لأسباب كثيرة منها التحفظ على فكرة التسلسل في الأعمال الفنية التي أجدها دخيلة على أشكال الإبداع بوجه عام، إلى جانب صعوبة الحكم على عمل يتسلسل على مددار ثلاثين حلقة أو أكثر. لكني تحمست لمشاهدة “البابا الشاب” أولا لأنه مكون من 10 حلقات فقط، كما أنه يصور على مستوى الخيال، إحدى أكثر الشخصيات مكانة في العالم، وأساسا- لأنه العمل التليفزيوني الأول الذي يخرجه المخرج الإيطالي المرموق باولو سورينتينو (مخرج “الجمال العظيم” The Great Beauty).
شاهدت الحلقات العشر من “البابا الصغير” بعين من يشاهد فيلما واحدا متصلا، وتوقفت أمام عدد من الملاحظات الفنية. أولها أنه رغم أن سورينتينو يحافظ على أسلوبه السينمائي البصري البديع، ويحاول إثارة الخيال والفكر حول التناقضات الشخصية المعذبة داخل الشخصية الرئيسية، لكنه يضع المتفرج في موقف صعب، ففي الحلقات الأولى يقود سورينتينو المشاهد للاعتقاد بأن سلوكيات وتصرفات “البابا الشاب” ليست سوى تعليق ساخر على ما يحدث داخل الكنيسة الكاثوليكية. ومع توالي الحلقات يصبح الأمر أكثر التباسا ونحن نرى البابا الشاب، الذي يتمتع بالوسامة والذكاء، يتشبث في عناد ممجوج، بأفكار ومعتقدات تناهض تماما روح العصر، ويصبح مثل أي ديكتاتور متجبر، يمارس سياسة التخويف والابتزاز والإقصاء وقهر معارضيه.
صعود البابا الأميركي
أصبح الكاردينال الأمريكي الشاب ليني بيلاردو (جود لو) أول أميركي يصل إلى هذا المنصب الروحي المرموق، لكنه جاء إلى قمة الفاتيكان- غالبا بطريق التآمر، أو نتيجة حسابات خاطئة، فالكاردينال “فويللو” (سيلفيو أورلاندو) وزير خارجية الفاتيكان ومساعد البابا، وهو الداهية الأريب، والمحرك الأساسي لشؤون هذه المؤسسة العريقة، أراد أن يتحاشى وصول الكاردينال القوي “مايكل سبنسر” الأكبر سنا والأكثر جدارة وأن يأتي بتلميذه الشاب “ليني” لكي يستطيع التحكم فيه وتوجيهه. لكن ما يحدث أن أول خطوة يتخذها ليني هو تهميش “فويللو” نفسه، والاستعانة بـ”الأخت ماري” (ديان كيتون) التي تأتي من أميركا لكي تصبح المستشار الأول له، خاصة انها كانت دائما بمثابة الأم بالنسبة له، فهي التي ربته منذ أن كان طفلا بعد أن تركه والداه (وكانا ينتميان لأفكار الهيبيز) أمام ملجأ للأطفال اليتامى في نيويورك. ومنذ ذلك الوقت لم ير “ليني” والديه قط بعد أن ذهبا للعيش في مدينة فينيسيا.
يستند سورينتينو الذي كتب فيلمه بنفسه، في معظم حلقات المسلسل، على التحليل النفسي لتوضيح دوافع شخصية ليني، كونه فقد والديه مبكرا، وأصبح يعاني دائما من الشعور بالوحدة وافتقاد الحب، من عذاب طفولة باردة داخل الدير، ومن التشكك المرضي في المحيطين به جميعا. إنه يختار اولا أن يطلق على نفسه “بيوس الثالث عشر” على نحو يذكرنا بالبابا بيوس الثاني عشر الذي ترأس الفاتيكان خلال الحرب العالمية الثانية واتهم بمساعدة النازية في مشروع التخلص من اليهود، ثم يلجأ من اللحظة الأولى الى إساءة استخدام سلطته. يضغط على الأب توماسو (الذي يتلقى اعترافات الكرادلة داخل الفاتيكان) لكي يخبره بما يدلون به من اعترافات، ثم يستخدم ما يحصل عليه من معلومات ضدهم كلما حانت فرصة، يقمع مسؤولة الطهي ويطالبها بالالتزام بقواعد البروتوكول في التعامل معه، ويأمر مساعدته وأمه الروحية “ماري” أن تناديه بـ”قداسة البابا” لا كما اعتادت، باسمه الأول.
على صعيد آخر يبدو “بيوس الـ13” في البداية متمردا، ثائرا على التقاليد العتيقة داخل الفاتيكان، فهو لا يكف عن التدخين أمام الجميع، يرتدي الملابس الرياضية ويمارس الجري والعزف على البيانو، ويصر على تناول كولا الشيري الخفيفة السكر، ولكنه يخالف جميع التقاليد السابقة عندما يرفض الظهور العام سواء أمام مريديه وأتباعه الذي يتجمعون في ساحة القديس بطرس، أو الظهور الإعلامي.
في المشهد الأول نشاهد طفلا رضيعا عاريا يزحف فوق جبل من الأطفال الرضع بأجسادهم العارية. تتحرك الكاميرا من أعلا مع زحف الطفل فوق أجساد الأطفال العارية المسترخية، تتجاوزه الكاميرا الى أعلا الكادر لنرى البابا الشاب وهو يخرج في ثيابه البيضاء من تحت كتلة الأطفال، ثم ترتفع الكاميرا إلى أعلا لنراه يسير في ساحة الفاتيكان متجها نحو المبنى. وجود الأطفال في الصورة من البداية له دلالة خاصة، فسنرى بعد ذلك ولع البابا الشاب بالأطفال فهو الذي سيداعب “بول” طفل “إستر” الرضيع ويحمله ويدلله، ويدفع عربته الصغيرة بل ويقوم باستبدال ملابسه. إنه يفتقد الطفولة، ثم يقول فيما بعد بنغمة أسى: “نحن القساوسة غير مسموح أن نكون آباء.. على صورة الرب.. ولا أن يكون لنا أطفال. يجب أن لا نتصف بصفة من صفات الرب. لذلك نظل دائما أطفالا”.
يأتي مشهد صادم في البداية على صعيد الحلم، عندما نرى البابا الشاب يخاطب الجمهور الذي تمتلئ به ساحة القديس بطرس بقوله: “لقد نسينا.. ماذا نسينا؟ نسينا حبوب منع الحمل، والحق في الاجهاض.. أن نحتفل بزواج المثليين.. أن نسمح للقساوسة بأن يحبوا بعضهم البعض بل وحتى يتزوجوا. نسينا أننا يمكن أن نختار أن نموت اذا لم نحب الحياة.. أن نمارس العلاقات الجنسية دون أن يكون الهدف هو الانجاب ودون أن نشعر بالذنب.. أن نطلق.. أن نسمح للراهبات بتقديم القداس.. أن ننجب أطفالا بكل الطرق التي اكتشفها العلم وسيواصل اكتشافها.. باختصار ياأطفالي الأعزاء.. ليس فقط أننا نسينا أن نصلي، بل نسينا أن نكون سعداء. وهناك طريق واحد فقط يؤدي للسعادة، هو طريق الحرية”.
يعقب ذلك مباشرة تنحية البابا وعزله بعد أن يعتبره الكرادلة مهرطقا، ثم يستيقظ من النوم. وما بين البداية الصادمة والنهاية المفاجئة، تقع أحداث كثيرة، هي أولا نقيض هذا الاتجاه التحرري، بل تتصف بالانغلاق والتزمت ومعاداة الحداثة وروح العصر، ورفض منح البركات وحتى مبدأ التسامح والغفران، ورفض “الاعتراف” بدعوى أن الاعتراف لا يكون لغير الله. وتستند فلسفة البابا على أن هذه القسوة على الذات هي الطريق القويم الى الله.
البابا الشاب يحرض على الكذب عندما يخبر سكرتيرته بأنه سيستدعيها في حالة وجود شخصية غير مرغوب فيها من طرفه، بأن يضغط على الجرس الموجود أسفل مكتبه لكي تدعي أن البابا لديه موعد هام. وهو يبعد البابا الكاردينال الشاذ مدمن الخمر، ويرسله إلى أميركا لإقامة الدليل على قس آخر كان يعرفه في السابق، يُشك في تحرشه الجنسي بالأطفال، وهو يربط بين المثلية والتحرش بالصغار، ويستند رفضه الظهور العام على فكرة أن الله نفسه لم يظهر للبشر.
البابا الشاب يعاني معاناة نفسية هائلة، تصطرع في داخله أفكار تكشف ضعفه وشعوره بالأسى بسبب طفولته التي لم يعشها كما يعيشها الأطفال، وشبابه المبكر الذي حرم فيه من اقامة علاقة عاطفية مع الفتاة التي كان يحبها، وهو يحاول ستر شعوره بالضعف والهوان بالمغالاة في القسوة والتزمت. يخبره فويللو بتناقص أعداد المترددين على الكنائس، وخلو ساحة القديس بطرس من المريدين، وكيف يرغب رئيس الحكومة الإيطالية في فرض ضرائب على الفاتيكان ويرسل ضابطا للتحقيق في التجاوزات المالية داخله، كما يعتزم إقرار قوانين تبيح الاجهاض وزواج المثليين. وفي لقاء البابا ورئيس الحكومة يكشف البابا عن مكر ودهاء وقدرة على المراوغة واستخدام التهديد المبطن. فهو يقول للرجل إن بوسعه الظهور أمام الجمهور وتأليب الرأي العام ضد الحكومة وبالتالي إسقاطها في الانتخابات القادمة. فالسماء أقوى تأثيرا من الحكومة.
تساؤلات حائرة
السؤال المحير أمام هذا العمل هو: هل البابا الشاب رجل معجزات أو قديس كما تؤكد له ماري وفويللو لدرجة تجعله يصدق نفسه بالفعل؟ أم أنه مجرد طفل تعيس يريد أن يتظاهر بالقوة والتجبر، وأن يستخدم سلطته لإعادة الكنيسة إلى ما قبل عصر التنوير؟ الكرادلة يدبرون مؤامرة لخلعه ويرغمون المرأة الشابة “استر” تحت التهديد، وهي زوجة أحد حراس الفاتيكان، على إغوائه جنسيا، ثم يصورونه معها في وضع يمكن تفسيره كنوع من الانحراف. لكنه يهزم مؤامراتهم، ويجعل خصومه باستمرار يتراجعون إلى موقف الدفاع، بل يرجونه الغفران ويقبلون قدمه طالبين عفوه.
ويبقى السؤال الذي ردده عليه فويللو وأستاذه مايكل أكثر من مرة: من أنت؟ هل هو حقا مؤمن بالله؟ هذا السؤال لا يجيب عليه قط، بل إنه يبدي تشككه الذي يصل به حد الإنكار. ورغم ذلك فهو- كما يصوره سورينتينو- قادر على الإتيان بالمعجزات.
في البداية نراه يسيطر على حيوان الكنغارو الضخم الذي جاءه هدية، يخرجه من القفص باشارة من يده، ثم يوقفه، ثم يجعله يأتمر بأمره. وهو يعيد الحياة الى امرأة أشرفت على الموت، ثم يجعل “إستر” العاقر تحمل وتنجب، ثم يطلب من الله أن ينزل غضبه بالراهبة الشريرة التي تحرم الناس من المياه النقية في القرى الافريقية فتنتهي نهاية مأساوية.
يتسبب ليني بجموده وصلفه وتسلطه في انتحار شاب كان يريد أن يصبح قسيسا لكنهم يطردونه للاشتباه في ميوله الجنسية، ثم يتسبب في موت زميله ورفيق طفولته في الدير ونقيضه الروحي والأخلاقي، الكاردينال “ديسولييه” بعد أن يعود إلى هندوراس، ثم يجهش البابا بالبكاء أمام جثمان أستاذه ومعلمه مايكل، ويطلق لمشاعره العنان للمرة الأولى، ثم مع شعوره بالذنب ورغبته في الاحتماء بالعالم الكبير، يوافق على النزول من برجه العاجي ويذهب الى افريقيا، حيث يكشف فساد الراهبة “أنتونيا” التي تشرف على 250 كنيسة ويطردها، ويرسل مكانها “ماري” التي لم يعد في حاجة إليها (لقد كبر البابا). وأخيرا يوافق على الظهور العام في ساحة سان ماركو في فينيسيا. وهناك يلقي خطبة تتميز بالحب والتسامح، يختمها بأن يطالب مستميعه بالابتسام باعتباره الطريق الى الله. لقد تغير البابا. يتطلع بمنظاره إلى الجمع البشري، يلمح والديه وسط الزحام، لكنهما يديران له ظهرهما ويبتعدان. يسقط على الأرض، ترتفع الكاميرا عموديا وتواصل الارتفاع لنرى الساحة كلها ثم فينيسيا ثم ايطاليا ثم الكرة الأرضية، وكأنما أصبح ليني مرادفا للمسيح عندما ارتفع جسده إلى السماء.
عمل بديع
سورينتينو، بالتعاون مع مصوره الدائم لوكا بيغازي، يخلق عملا شديد الحيوية والإقناع من الناحية البصرية، باستخدام الإضاءة الخافتة داخل الفاتيكان، والتصوير الليلي في روما، ومزج اللقطات العامة من ساحة القديس بطرس بالصور الناتجة عن برامج الكومبيوتر. نحن نرى البابا يطل من شرفة الفاتيكان الشهيرة، أو وهو يتجول فوق أبراج الفاتيكان، أو داخل متاحفه، أو يجتمع بالكرادلة في كنيسة سيستين. ومن أهم عناصر العمل الدقة الشديدة الحرفية في تصميم الملابس (لدى نفس الشركة التي تقوم بتفصيل الملابس البابوية) والديكورات الهائلة التي أقيمت خصيصا داخل ستديوهات مدينة السينما في روما، لقاعات الفاتيكان وردهاته وكنيسة سيستين بسقفها الشهير، وغير ذلك الكثير.
ومن أسباب الشعور بمتعة المشاهدة، حلقة وراء أخرى، أداء الممثل جود لو في دور البابا، بقدرته على الانتقال المدهش من الصمت الى الحديث الناعم الى الصرامة التي تخفي شعورا بالضعف، والانتقال من الحنين للأبوين إلى بارانويا جنون العظمة. كما يبرز أيضا ديان كيتون في دور ماري التي نراها تلعب مع الراهبات كرة السلة في أكثر من مشهد، كما يمتعنا أداء الممثل الإيطالي سيفيلو أورلاندو (في دور فويللو) وسيسل دو فرانس في دور صوفيا مسؤولة العلاقات العامة في الفاتيكان.
لاشك أن التجربة جديدة وجريئة، فسورينتينو يقتحم في تصويره “البابا الشاب”، الكثير من المحظورات، ويزيل الستار عما يمكن تخيله من أشياء كثيرة طريفة تحدث وراء أسوار الفاتيكان. لكن الخيال المصور لا يكف عن إدهاشنا.