“الباب الأخضر”.. ومستويات متعددة للفهم
د. ماهر عبد المحسن
منذ اللحظات الأولى لفيلم “الباب الأخضر”، المعروض على منصة Watch it يُفاجأ المشاهد باسم الكاتب الراحل أسامة أنور عكاشة يتصدر التتر كمؤلف للعمل وكاتب للسيناريو والحوار كذلك، وهي مسألة ذات دلالة.
فالمتتبع للعمل سيتوقع حتماً أن يشاهد واحدة من تيمات عكاشة التليفزيونية الشهيرة مثل ليالي الحلمية أوأرابيسك أو زيزنيا أو الراية البيضا. بمعنى أنه سيتوقع أحداثاً تاريخية اجتماعية تدور في الإسكندرية أو أحياء القاهرة الشعبية. غير أن المشهد الأول، يكشف لنا أن الأحداث ستدور في واحدة من القرى المصرية البعيدة، المعزولة عن العالم، كما يوحي بذلك اسمها، الذي يتصدر التتر أيضاً، كفر المنسي!
ليس هذا فحسب، بل إن الأحداث تأتي غرائبية ورمزية بنحو يبعد بها عن روح أعمال عكاشة التي ألفها المشاهد في زمن الدراما الرمضانية، ما يجعلك تفكر في أن ثمة تدخل، غالبا من رؤوف عبد العزيز مخرج الفيلم، حدث في السيناريو والحوار بحيث صار العمل مستوعباً لتفاصيل تنتمي لزمن عبد العزيز أكثر مما تنتمي لزمن عكاشة، الذي كتب القصة منذ ثلاثين عاما ً، خاصة ما تعلق بقضية السيطرة على عقول البشر!
لا يحتوي تتر العمل على أي من نجوم الصف الأول، لكنه يحتوي على مجموعة من نجوم الأداء التمثيلي العالي مثل إياد نصار ومحمود عبد المغني و خالد الصاوي وأحمد فؤاد سليم وبيومي فؤاد، غير أن الملفت أن يضع التتر كل هؤلاء في كفة ويضع اسم سهر الصايغ في كفة أخرى بمفردها.
والحقيقة أن دهشة المشاهد ستزول عندما يشاهد أداء الصايغ الذي جاء معبراً جداً، خاصة أنها كانت تؤدي شخصية محورية تحتشد بكم كبير من الرموز الإنسانية والسياسية، فيمكن أن ترمز للمواطن المسحوق، أو البلد المحتل، أو العالم الذي فقد عقله وبات يقف على حافة الانهيار.
تدور الأحداث عام ١٩٨٨م، حول “عيشه” (سهر الصايغ) الفتاة القروية التي تفقد عذريتها نتيجة علاقة عاطفية، موثقة بعقد عرفي، بالشاب أحمد أبي اليزيد ( محمود عبد المغني) وتسفر العلاقة عن طفل لا اسم له ولا شهادة ميلاد، وتسافر “عيشه”، برفقة الحاج عوض (أحمد فؤاد سليم) إلى القاهرة لمقابلة أبي اليزيد الذي غيّر اسمه وصار رئيساً لتحرير إحدى الصحف، لاستخراج شهادة ميلاد للطفل، لكنها تفقد الطفل في مولد الحسين وتقع فريسة لمجموعة من الأطباء، منعدمي الضمير، الذين يجعلون منها فأر تجارب لواحد من الأمصال التي تدمر العقل وتتحكم في السلوك.
تبدأ الأحداث عند الباب الأخضر بمقام الحسين، وتنتهي عند نفس الباب، لتعكس حالة عامة من الانتظار الوجودي الذي لا يؤدي بالضائعين في زحمة الحياة إلا إلى مزيد من الانتظار!.. فعندما تنتظر “عيشه” الحاج عوض تفقد ابنها، وعندما تنتظر الدكتور شفيع (إياد نصار) تفقد البوصلة التي كانت ستصلها بزوجها كي تستطيع أن تستخرج شهادة المولود.
جاءت الأحداث سريعة ومتلاحقة، ونجح السيناريو في ربط الأحداث والشخوص بمجموعة من الرموز ذات الدلالة بحيث يمكن للمتلقي أن يفهم الفيلم من أكثر من زاوية، وأن يمنح نفسه حرية أكبر في التأويل. فيمكن أن نفهم مقام الحسين كرمز للدين، وجريدة النداء التي يرأس تحريرها أبو اليزيد كرمز للحقيقة، ومستشفى الأمراض العقلية كرمز للعلم، غير أن الأحداث تكشف لنا عن الوجه الشائه لهذه الرموز. فكاميرا رؤوف عبد العزيز تصور لنا الدين كطقوس شكلية تؤدى في الموالد من خلال حركات المجاذيب التي لا تسفر عن معني ولا تقدم للمتعبين، مثل “عيشه”، أي حل. كما تصور تيار المتصوفة الذي يخترق الجموع ويمضي في طريقة، بنحو يعكس تعدد الطرق ووحدة الغاية، غير أنه لا يدلل على أي مسلك حقيقي يمكن أن يتماس مع الواقع ويحدث أي تغيير. فحضور الصوفية هو حضور مشهدي يهتم أكثر بالتعبير عن وجوده من خلال استعراض لافتاتهم وأزيائهم المميزة وكثرة عدد مريديهم!
وحوار أسامة أنور عكاشة يكشف عن زيف وسائل الإعلام، التي صارت أداة للتضليل بدلاً من أن تكون أداة لكشف الحقائق. فرئيس التحرير، الذي يفترض أن يكون مصدراً للحقيقة، ينكر الاعتراف بابنه من “عيشه”، ويحيا باسم مستعار هرباً من ماضيه النضالي حتى لا يفقد منصبه.
ويكشف السيناريو عن الوجه القبيح للمؤسسات الطبية التي، بدلاً من أن تعالج المرضى، تحيل الأصحاء إلى مرضى والعقلاء إلى مجانين من أجل أهداف مشبوهة. غير أن المسألة ذات الأهمية هي أن الشخصيات التي تمارس التضليل مثل رئيس التحرير، أو التي تعمل على محو الهوية مثل مدير المستشفى (خالد الصاوي)، تتحدث، في لحظات صدق، باعتبارها خاضعة لقوى أعلى تتحكم بمصائرها. لا يكشف الفيلم عن حقيقة هذه القوى المسيطرة على الجميع، ما يعني وجود مؤامرة كبرى تتجاوز أزمة “عيشه” وتصل إلى ذوي المراكز القيادية وأصحاب القرار.
ربما يهبط الرمز إلى مستوى المعنى المباشر لنجد أنفسنا أمام إشارة واضحة لما شاع حول لقاحات كورونا، محلياً وعالمياً، من كونها جزء من مؤامرة كونية لإبادة البشر أو تهيئتهم، مرحلياً، للتحكم في عقولهم فيما بعد. وعند هذه النقطة يفترق عبد العزيز عن عكاشة، فليس بين أعمال هذا الأخير، بالرغم من كثرتها، ما يشير من قريب أو بعيد إلى أنه كان معنيا بهذا اللون من القضايا، لكنه كان معنياً أكثر بقضية الأصالة والمعاصرة. وبالرغم من أن هذه الأخيرة ترتبط بقضية الهوية، موضوع الفيلم، إلا أن الأصالة لها دلالة موضوعية ترتبط بالتاريخ (التراث) بالمعني الهيجلي، بينما للهوية دلالة ذاتية ترتبط بالوعي (التفكير) بالمعنى الديكارتي. وعلى ذلك كان الخطر الذي يهدد الأصالة عند عكاشة قادماً من التغريب والثقافة المضادة، في حين أن الخطر الذي يهدد الهوية عند عبد العزيز يأتي من الجهل وتزييف الوعي.
لكن المسألة ذات الدلالة أن السيطرة على العقول وتغيير الهوية أمر لا يرتبط باستعمال العقاقير الطبية المعدة لذلك فحسب، فهناك وسائل أخرى تستخدمها الحكومات للسيطرة على شعوبها عن طريق الإعلام المضلل، الذي تمثله جريدة النداء، كما أن هناك وسائل أخرى تُمارس ضد المناضلين السياسيين لكسر شوكتهم عن طريق إغرائهم بالمال والمنصب كما في حالة أبي اليزيد، الذي عبّر عن موقفه المتخاذل إزاء قضية “عيشه” وإزاء مشروع السيطرة على العقول بأنه لم يعد حراً كما كان ذات يوم، أو أن يتم تهميشهم وإقصائهم من الحياة كما في حالة المدرس جلال منصور، زميل أبي اليزيد في النضال.
غير أن الأحداث تكشف لنا، قرب النهاية، أن أصحاب القضية هم الأكثر قدرة على المقاومة، فيعثر الدكتور شفيع على قسيمة الزواج العرفي لدي جلال داخل أحد الكتب، بعد أن فقدت “عيشه” كل طرق إثبات نسب ابنها وتأكيد هويته، كما لا يجد شفيع أنسب من جلال لحمل عبء مهمة الكشف عن المشروع المشبوه فيترك له ملف القضية الذي يفضح الأطراف الفاعلة فيه قبل أن يلقى حتفه في حادث سير مدبّر.
وتعود كاميرا عبد العزيز في النهاية، كما بدأت، عند الباب الأخضر بمقام الحسين لتقف “عيشه” مرة أخرى، حاملة طفلها الرضيع فاقد الهوية، في انتظار دكتور شفيع الذي لن يجيئ أبداً بعد أن غيبه الموت. وبالرغم من وضوح بعض الرموز وغموض البعض الأخر يأبى المخرج إلا أن يفصح عن رمزية الفيلم كله بعبارة ذات دلالة يكتبها على الشاشة بنحو صريح قائلاً: “ولا زلنا في انتظار شهادة الميلاد… فلكي يعيش الإنسان لابد أن يكون له اسم… هوية.. فإلى متى ننتظر عند الباب الأخضر؟؟!”
وبالرغم من أننا لا نستطيع أن نجزم على وجه اليقين إلى من تُنسب هذه العبارة، لأسامة أنور عكاشة الكاتب الباحث عن الأصالة أم لرؤوف عبد العزيز المخرج الباحث عن الهوية، إلا أننا، وربما كان هذا هو الأهم، لا نجد صعوبة في العثور على الإجابة. فعندما تتساءل “عيشه” في مشهد النهاية “أنا ليه ابني معايا ومش فرحانه؟!” تجيبها بائعة البخور “من اللي شفتيه يا بنتي.. دول كانوا بيدوكي حقن تتوه العقل”، في الوقت الذي يمر فيه أحد المجاذيب وهو يردد “بابك يا حسين أخضر.. لون الفرح أخضر”.. فعندما تتقطع كل السبل، ويفقد الإنسان الاسم والهوية والمعني، فلا عاصم له من الحيرة سوى الإيمان. وهذا هو المعني الفطري الذي عبّرت عنه “عيشه”، بعفوية، وهي تدعو لابنها الرضيع بعد أن عجزت عن أن تستخرج له شهادة ميلاد تحمل اسمه وهويته، فكانت تردد: “يا عالم الأسرار الخفية.. يكفيك شر الأذى والأذية”.
ربما يتحفظ الفيلم على لغة الصوفية المنفصلة عن الواقع “يا عالم الأسرار الخفية” أو أن تجري الحكمة الملغزة على ألسنة المجاذيب “لون الفرح أخضر”، لكن تظل نصيحة مايا صبحي، الدكتورة التي ظهرت في أحد البرامج التلفزيونية منذ عدة سنوات وتنبأت بمشروع السيطرة على العقول ونصحت بالاعتصام بالإيمان قبل أن تختفي من المشهد تماماً، محل اعتبار!