النقد السينمائي في تونس بين واقع التأملات وحُرقة التساؤلات

الطاهر شريعة مع يوسف شاهين ويسرا الطاهر شريعة مع يوسف شاهين ويسرا
Print Friendly, PDF & Email

وسيم القربي *

إنّ اقتراح محور الحركة النقدية السينمائية في تونس موضوعا للنقاش هو محاولة للبحث في كيفية تمثله في الواجهة الثقافية، فالحديث عن النقد السينمائي حديث عن مرآة للواقع السينمائي حيث تنعكس تجربة بصدد التبلور. كما يحيلنا الكشف عن هوية الخطاب النقدي إلى الغوص في المعطيات التاريخية لاستجلاء مراحل نشأته وتطوره ضمن مسار الإبداع السينمائي التونسي. على هذا الأساس، يقودنا البحث في مشروعية إرساء خطاب نقدي بعيدا عن الممارسة التجريبية إلى تساؤلات ترتبط بواقع خارطة النقد اليوم وإثارة الإشكاليات المطروحة وقلق الممارسة من أجل تفعيل دورها في دفع الحركة السينمائية في تونس. استنادا إلى هذا، يثير الحديث عن النقد السينمائي عدة تساؤلات تستدعي التأمل العميق في واقع ومستقبل الحركة النقدية في تونس.

في تحديد مفهوم وخصوصيات العملية النقدية:

يعرّف الناقد المغربي حميد تباتو، في الكتاب الجماعي” أسئلة النقد السينمائي المغربي”، النقد لغة ” بمعنى التمييز في المجال المالي حيث تبرز قيمته في تمييز المال الزائف من غيره، ونقد الكلام أي أظهر ما به من العيوب والمحاسن (…) ولقد فهم النقد أولا بمعنى مهارة التمييز بين الإيجابي والسلبي إلا أنّ تطور دلالته الثقافية والأدبية ستجعله يتعرف بمعاني عديدة منها الحكم والتعليق (…) كما يمكن تعريفه استنادا إلى المعنى المقابل للكلمة الفرنسية critique التي تعني فحص الخطاب والمتن والمنتوج الثقافي والفني، وتفكيكه، ووصف مكوناته الفكرية والجمالية وتحليلها والبحث في دلالاتها بصيغ الشرح والتفسير والتأويل”. استنادا إلى هذا التعريف يمكن اعتبار مفهوم النقد السينمائي “كعملية تقييم وتذوق فني للعمل السينمائي” تكتسي مهمتها طابع العلمية وتعتمد أساسا على تحليل الجوانب التقنية والجمالية والموضوعية، وبالتالي تكون العملية النقدية دراسة علمية تحليلية ترتكز أساسا على منهجية خاصة ومرجعيات أساسية.

لقد شكلت القراءة النقدية بحثا في خصوصية التجربة الإبداعية في المجال الفيلمي ارتكازا على منهج نظري مستند على المصطلحات والمفاهيم السينمائية والأدوات التقنية، وبالتالي فإنّ المقاربة النقدية تعتمد على ذلك التقاطع الدلالي والتقني والجمالي للفيلم وحيثياته. وإذا كانت العملية النقدية دراسة تحليلية بالأساس فإنه يمكن حصر خصوصياتها في:

من فيلم “صفائح من ذهب” لنوري بوزيد

– استعراض السيرة الذاتية للمخرج ووقائع تصوير الفيلم وكواليسه، وتحديد موقع المنجز الفيلمي ضمن التيارات السينمائية وتاريخها.

  • قراءة المحكي الفيلمي الذي يبرز خاصة في الموضوع الذي عالجه المخرج عبر استقراء الأحداث في المكان والزمان الفيلمي وتحليل حضور الشخصيات، هذا بالإضافة إلى النسق السردي واللغة والحوار…
  • تحليل الأسلوب الفني الذي اتبعه المخرج من خلال قراءة البنية التقنية للفيلم وجمالياته عبر التركيز على خصوصيات حجم اللقطات المعتمدة، وزوايا النظر، واختيارات التوليف ومختلف العناصر الصوتية…
  • التأويل الذاتي واستخراج الدلالات والإيحاءات حسب المرجعيات الفكرية والمدونة الخاصة.
  • بلورة موقف الإنتاج النقدي.

إنّ حضور إحدى هذه النقاط في محتوى المقال يجعله نقديا سواء كان صحفيا أو علميا وفق المنهجية المعتمدة. فهذه المنهجيات ترتبط باختلاف المرجعيات الفكرية والثقافية والإيديولوجية وحسب موقع الناقد في منبر الخطاب الثقافي، وبالتالي فإننا يمكن أن نستخلص اليوم عدة تصنيفات من الخطابات النقدية السينمائية في تونس التي تتجلى لنا كما يلي:

  • خطاب نقدي مكتوب: ويمكن أن ينقسم إلى ثلاث تفرعات:
  • الكتابة النقدية الصحفية التي عادة ما تتخذ طابعا إخباريا، ووصفيا، وانطباعيا وتحضر أساسا في الجرائد والمجلات.
  • الخطاب النقدي الأكاديمي الذي يتمثل أساسا في البحوث والدراسات الجامعية، خاصة مع إنشاء معاهد متخصصة في الفن السينمائي أو مدارس تتضمن شعبا تهتم بالسمعي البصري، وكذلك ظهور جيل جديد من الباحثين الذين يعدّون أطروحة الدكتوراه في علوم وتقنيات السمعي البصري والسينما بعد أن كانت هذه الاختصاصات غير متوفرة في الجامعات التونسية، بل مقتصرة على الدراسات في المعاهد والمدارس الأجنبية.
  • الكتابة النقدية الافتراضية التي تسارع حضورها مع بداية العشرية الأولى من الألفية الثانية، حيث أصبحت المدونات الالكترونية والمواقع الخاصة والمواقع الاجتماعية محملا لأشكال من الكتابة النقدية عبر الاعتماد على اللغة الفرنسية والعربية واللهجة العامية التونسية، أين يتم نشر الأفلام ومقاطع الفيديو بسرعة مع استقاء المعلومات من الانترنيت وتبادل الآراء النقدية وتقييم المنتوج الفيلمي.
    • ممارسة نقدية شفهية: تتسم بطابعها الجماهيري، وتسجل حضورها أساسا خلال المهرجانات والتظاهرات السينمائية أو داخل فضاء نوادي السينما، ويمكن أن تتضمن إعداد ورقات نقدية في بعض الأحيان على غرار نشرية مهرجان قليبية للسينمائيين الهواة أو ملخص لندوات فكرية في أيام قرطاج السينمائية.
من فيلم “الحلفاوين” لفريد بوغدير

الحديث عن النقد السينمائي في تونس هو حديث عن هويته وخصوصياته، ولكنه أيضا بحث ضمن سياقات المعطى التاريخي لنشأته.

المسارات التجريبية للحركة النقدية في تونس:

إنّ ذكر مصطلح “النقد السينمائي في تونس” يثير لدى العديد تساؤلات ترتبط أساسا بمشروعية الحديث عن وجود هذا الجنس من الكتابة في الساحة الثقافية التونسية، وإمكانية الحديث عن تراكم منجز نقدي مرافق للحركة السينمائية التونسية. وإذا عدنا إلى بدايات ظهور الكتابة النقدية السينمائية في تونس، فإننا سنستشف أنّ معظم المقالات الصادرة هي على يد مقيمين فرنسيين اهتموا أساسا بالمشهد السينمائي الكولونيالي من خلال نقل مستجدات عرض الإنتاجات الأجنبية وخاصة الفرنسية منها في أرض تونس. كما يمكن اعتبار أواخر العشرينيات، الفترة التي تم فيها إنشاء أول مجلة سينمائية أطلق عليها اسم “أفلام المجلة السينماتوغرافية الإفريقية الشمالية”، في حين شهدت سنة 1937 إصدار أول مجلة تونسية تهتم بالسينما تحت عنوان “الراديو والسينما”.

 لقد ارتسمت الخطوات الجنينية لتونسة الممارسة السينمائية في فترة الأربعينات على يد الأستاذ “الطاهر شريعة” الذي آمن بضرورة تنشيط الحركة الثقافية فتمّ التأسيس التدريجي لنوادي السينما وبدأت تظهر بوادر الوعي السينمائي الفعلي. أفرزت هذه التحولات تأسيس الجامعة التونسية لنوادي السينما، أين تبلور النقد السينمائي شفويا من خلال مناقشة الأفلام المعروضة داخل فضاء النوادي، والحوار بين مختلف الأعضاء. شكلت حركة النوادي البذرة الأولى لولادة مصطلح النقد السينمائي في تونس بفضل جهود “الطاهر شريعة” وثلة من رفاقه على غرار “النوري الزنزوري” و”المنصف شرف الدين”… مما أثمر إصدار “مجلة نوادي السينما” سنة 1958 بصفاقس.

لئن انبثق النقد السينمائي في سياق خطابات النوادي، فإنه قد شهد أوجه في فترة الستينيات عبر الممارسة النقدية من بوابة الهواية من خلال تواتر نسق عرض الأفلام في صلب النوادي والاعتماد على الحوار كآلية للوصف والتحليل والتأويل وبداية الكتابة النقدية الفعلية خاصة مع إنشاء “مجلة جحا” من طرف المحامي الأستاذ “مصطفى نقبو”، وقد ساهم تأسيس مهرجان قليبية للفيلم الغير محترف وأيام قرطاج السينمائية في إنعاش الحركة النقدية التونسية. بالإضافة إلى هذا، كان إنتاج أول فيلم تونسي بعنوان “الفجر” لـ “عمار الخليفي” بالغ الأثر في تنشيط الساحة النقدية التونسية فاندفعت أقلام المولعين للكتابة بحرارة العشق الذاتي للإنتاج المحلي بعد أن اقتصرت الكتابات السابقة على أفلام أجنبية، فكانت فترة الستينيات شاهدة على مساهمات الحركة النقدية في النشأة الفعلية للمشروع السينمائي الوطني عبر تخصيص صفحات قارة بالجرائد والمجلات الثقافية تهتم أساسا بالإنتاجات الفيلمية التونسية.

من فيلم “غدوة”

لقد انحصر النقد السينمائي في تلك الفترة ضمن كتابة تتراوح بين البعد الوصفي والتحليلي، إلا أنّ أغلب الكتابات اعتمدت على اللغة الفرنسية، كما أنّ العديد من النقاد كانوا من العصاميين أو الهواة المولعين بالفرجة الفيلمية والمسكونين بهاجس الكتابة الأدبية، وكان علينا الانتظار إلى حدود سنة 1971 ليتمّ إصدار كتاب باللغة الفرنسية يهتم بالسينما في تونس، عنونه كاتبه “عمار الخليفي” “تاريخ السينما التونسية”.

أفضت الممارسة النقدية إلى إنتاج منجز بلغ صداه في بعض الأحيان مجلات عالمية مثل “دفاتر السينما”، وساهمت في ولادة جيل من الرواد الذين سجلوا حضورهم الفاعل في الساحة الثقافية، ونذكر على سبيل الذكر لا الحصر المرحوم “محمد محفوظ” و”الطاهر شريعة” و”مصطفى نقبو” و”منير الفلاح” و”عبد الكريم قابوس” و”الهادي خليل” و”كمال بن وناس” و”الطاهر الشيخاوي” و”خميس الخياطي”… كما ساهمت الحركة النقدية في تكوين جيل آثر التوجه نحو الإخراج السينمائي على غرار “رضا الباهي” و”فريد بوغدير” و”سلمى بكار”…

 ما يمكن ملاحظته في مرحلة استنبات الممارسة النقدية، كون هذه الحركة نشأت في رحم عدة بنيات إبداعية، ونذكر بالأساس الجامعة التونسية لنوادي السينما والجامعة التونسية لهواة السينما والجمعية التونسية للنهوض بالنقد السينمائي حيث مثلت فضاءاتها مدارس لتكوين النقاد والمولعين بالفن السينمائي عامة عبر عرض الأفلام ومناقشتها بحضور مخرجيها، بالإضافة إلى تنامي دور مهرجان سينما الهواة بقليبية وأيام قرطاج السينمائية كفضاء للاحتكاك بالنقاد الأجانب وتبادل الآراء والانفتاح الفكري.

واقع الممارسة النقدية السينمائية اليوم

لقد حافظ النقد السينمائي على تواجده داخل فضاء البنيات الإبداعية على غرار المهرجانات السينمائية وأروقة بعض نوادي سينما الهواة، فيما شكلت الجمعية التونسية للنهوض بالنقد السينمائي التي تمّ تأسيسها سنة 1986 ركيزة مهمة بمساهمتها في تنظيم التظاهرات السينمائية وإصدار النشريّات المهمة وتكوين جيل جديد من النقاد على أمل إعادة وقائع جميلة من المشهد النقدي التونسي، كما أنّ مجلة “شاشات تونسية” المتخصصة مثلت محملا مشجّعا للممارسة النقدية وحافزا لنشر المقالات السينمائية العلمية. إنّ الموجة النقدية الجديدة في تونس توحي ببوادر مشجعة عبر بروز أسماء شابة يمكن أن تأخذ المشعل عن الأجيال السابقة وتساهم في تطوير البنية النقدية. والأكيد أنّ إدماج تدريس مواد نظرية في السمعي البصري والسينما في كلية الآداب والفنون والإنسانيات بمنوبة ومعهد الصحافة وعلوم الإخبار، وتزايد عدد الباحثين في الدراسات العليا في مدارس الفنون الجميلة التي تضمّ شعبا تهتم بالسمعي البصري سيؤدي حتما إلى إنتاجات نقدية هامة سواء في أطروحاتهم العلمية أو مساهماتهم النقدية. أمّا بالنسبة إلى المنجز النقدي فقد تمّ خلال هذه العشرية إصدار مراجع مهمة، من طرف الجامعيين المهتمين بالمجال، ساهمت في إثراء المدونة النقدية السينمائية وباتت مرجعا للباحثين والأكاديميين، بالإضافة إلى القيمة الفنية المعتبرة للمقالات الصحفية التي تصدر بالعدد المخصص للسينما بجريدة “لابريس”.

 أسئلة من كمّ تطرح لتفعّل حرقة السؤال وتنتظر أجوبة تجعل من الممارسة النقدية تكريسا للاحتياج إلى الممارسة الفعلية والموضوعية. فالنقد السينمائي في تونس هو ممارسة من صميم حركة العشق الذاتي للفرجة الفيلمية والكتابة السينمائية، لأنّ النقد على الأرجح لا يدرّس بل هو مولود بالفطرة، إلا أنّ تطويره يرتبط بآليات التذوق الجمالي ومراجع إثراء المدونة الذاتية، ومن المتعارف عليه أنّ النقد هو أعلى مراتب الإبداع…

بالرغم من الإيجابيات وبوادر الزمن النقدي الجميل، فإنّ العديد من الإشكاليات والعوائق والإكراهات تثير حرقة أسئلة نقدية. ففي ظلّ ارتباط النقد بحركية المنتوج الفيلمي، كيف يمكن أن يتطور النقد المساير للإنتاجات السينمائية المحلية؟ أين هي المقالات العلمية لأهل الاختصاص والشباب الباحثين المسجلين بالدراسات العليا؟ في خضم هذا السجال المفاهيمي بين كتابات وصفية شاملة ومتعددة وأخرى تحليلية قليلة وأخرى تأويلية مثيرة، كيف يمكن أن يتموقع الخطاب النقدي؟ وإذا كان المرتكز الإيديولوجي حاضرا عبر المقال النقدي كممارسة اجتماعية فهل يحيد ذلك بالتأويل عن مساره الثقافي والإبداعي؟ هل يستجيب التخصص الصحفي للمقومات الأساسية لهوية المقال النقدي الفاعل؟ لسائل أن يسأل اليوم، أين المنتوج النقدي للجمعية التونسية للنهوض بالنقد السينمائي؟ وهل تعكس تسمية “نهوض” واقعا نقديا معيّنا؟ هل يتغلب الحس الشخصي على موضوعية الناقد؟ كيف يتقبل صاحب العمل المنتقد

اختلاف الآراء؟

  • ناقد سينمائي من تونس

Visited 17 times, 1 visit(s) today