الاسلاميون والسينما: اختفاء السينما التجارية وظهور الدعائية
لاشك ان نتيجة الانتخابات النيابية بمجلسيها فى مصر مثلت صدمة كبيرة للسينمائيين والمثقفين بسبب صعود التيار الاسلامى الى قمة المشهد السياسى فى مصر بعد عام من ثورة يناير المجيدة حيث حصل الاسلاميون على نحو 70% من مجموع مقاعد مجلس الشعب وعلى اغلبية غير مسبوقة فى مقاعد مجلس الشورى .
لقد ساهم السينمائيون بقوة فى فعاليات ثورة يناير منذ بدايتها، ولن ينسى ثوار ميدان التحرير اشخاصا مثل عمرو واكد وخالد ابو النجا وخالد الصاوى وخالد يوسف وآخرين، كانوا يعتصمون مع جموع الثوار ولم يهدأوا حتى اطاحوا بحسنى مبارك.
ان آمالا كبيرة عقدها السينمائيون على هذه الثورة، بعض منها كان هما عاما اشتركوا فيه مع جماهير الشعب المصرى تحت شعار الثورة الرئيسى (عيش – حرية – عدالة اجتماعية)، كما ان آمالا اخرى خاصة بمهنتهم كانت مطلبا ملحا بالنسبة اليهم ، فيما يتعلق بتحرير الابداع الفنى بعيدا عن نظام الرقابة الذى ينتمى الى نظام الدولة البوليسية، كما ساهم السينمائيون فى تظاهرات تطالب بعودة اصول السينما الى وزارة الثقافة، وايضا فقد اعتصم مئات السينمائيون فى نقابتهم وعلى مدى اشهر للمطالبة باعادة الانتخابات النقابية لتصعيد قيادة نقابية جديدة تكون موازية لهذه الثورة.
لقد عاش السينمائيون مخاض الثورة وتنبأت بعض اعملهم بها مثل فيلم (جنينة الاسماك) ليسرى نصر الله، وكان السينمائيون المصريون فى طليعة الصفوف الثورية وظلوا مع ثورتهم طوال عامها الاول تحدوهم آمالا عريضة ويقينا لا يتزعزع من ان الشعب الذى انجز هذه الثورة المجيدة سيعرف كيف يحميها ويطور عليها وينطلق بها الى آفاق لانهائية، الى ان جاءت نتيجة الانتخابات النيابية بمجلسيها فانقلب الحال رأسا على عقب ، ولم ينتهى الحال باحساس السينمائيين بخيبة الامل ، لكنهم ايضا اصبحوا من اهم موضوعات المشهد السياسى فى مصر لوقعوهم اجباريا على خط المواجهة مع الاسلاميين المعروف عنهم معادة اى نشاط ثقافى وخاصة السينما حيث كان شائعا كراهيتهم الشديدة للسينما بل واحيانا تكفيرها.
ان الصحف المصرية اولت هذا الامر قدرا من الاهتمام، ونقلت الصحافة عن قادة الاخوان المسلمون وقادة التيار السلفى انهم لا يحملون موقفا مسبقا من السينما ، وان الحال سيكون كما هو وان كانوا يحتفظون بموقف ثابت ومبدأى ضد ما هو غير شرعى، لكن هذه التصريحات والتطمينات لا تكفى بالنسبة للسينمائيين، لان العداء للسينما واضح وجلى وثمة شواهد كثيرة عدائية وعلى مدى الاربعين عاما الاخيرة منذ بدأ ظهور التيار الاسلامى فى مصر.
ان محنة السينمائيين فى مصر الآن تستدعى مشهدا ممائلا فى ايران ابتداءا من عام 1978 عندما اندلعت الثورة الايرانية، لقد انقسم الشعب الايرانى بشأنها فى البداية بين جبهتين هما مجاهدى خلق ومجاهدى الشعب، الاولى مثلت التيار الدينى بقيادة آية الله الخومينى ، والجبهة الثانية كانت تمثل اليسار الايرانى وكان قويا ومؤيدوه كثيرين، لكن مسار الثورة انحرف فى اتجاه الخيار الدينى فتم الانقضاض على مجاهدى الشعب وتم استخدام الواعز الدينى فى حشد الشعب الايرانى عقائديا ضدهم الى ان خلت الساحة للتيار الدينى فتسيد الاسلاميون المشهد السياسى منذ ذلك الحين وحتى الان .
لقد تأثرت السينما الايرانية سلبا فى الاعوام الاولى للثورة الايرانية على اثر تصاعد النفوذ السياسى للتيار الدينى، وبات من المسلمات بالنسبة للغالبية العظمى من السينمائيين، ان صناعة السينما فى ايران قد انتهت الى الابد، حتى ان العديد من رموز السينما الايرانية قد رحلوا عن ايران كمهاجرين فخلت الساحة ، لكن هذا الفراغ سرعان ما شغله سينمائيون جدد قدموا الى السينما لتثبيت الثورة الاسلامية من خلال افلام من نوع جديد تنتمى الى التيار الدينى وتخاطب الجمهور عن الجنة والنار والخطيئة والتوبة، ضمن تضيقات اخرى تتعلق بحظر ظهور النساء سافرات وغير ذلك من اجراءات تتعلق بمظهر الممثلات وموضوع الفيلم.
لقد كان محسن مخملباف واحدا من السينمائيين الجدد، ولقد تصادف انه كان سجينا فى اثناء حكم الشاه بسبب اعتداءه بالضرب المبرح على جندى درك، ولذلك فقد تم تحريره بعد نجاح الثورة، واُعتبر واحدا من ابطال الثورة، فرحبت به الاوساط الثقافية والاعلامية، حيث بدأ عمله كصحافي وناقد ثم مؤلف روائي وكاتب للسيناريو الى ان تفرغ للاخراج السينمائى – علما بأنه حاصل على شهادة دراسية تعادل الثانوية العامة – وكانت افلامه الاولى دينية واحتفت بها المؤسسة الدينية وشجعت افلامه الى حد عرضها فى الحسينيات ، وهو امر لم يحدث من قبل ، فقد تفاجأ جمهور المصليين بان آلة العرض السينمائى والشاشة موجودتان فى الحسينية وان افلاما يتم عرضها فى سابقة كانت الاولى.
ان هذا الجمهور لم يكن فيما سبق من مرتادى دور العرض السينمائى، مما خلق جمهورا جديدا للسينما وقد ساعد ذلك على انتشار السينما اكثر من ايام الشاه ، الا ان هذه السينما كانت ضعيفة ومباشرة وميلودرامية تستهدف الجانب الدينى من حياه الناس وتهدف الى تثبيت التيار الدينى المستحدث والدفاع عنه، ان هذه السينما جاءت لتحل محل السينما الايرانية الفنية التى كانت راسخة ومعروفة عالميا من خلال مهرجانات السينما، لقد كانت هذه السينما متفوقة على سينمات قومية اخرى مثل السينما المصرية، اما سينما التيار الاسلامى فقد كانت ارتدادا حادا عن منجزات الايرانيين السينمائية ولم تحقق اى نجاح عالمى، فهى سينما متخلفة ودعائية ولا يصح اعتبارها سينما.
لكن استثناءا حققه عباس كياروستامى، وهذا الفنان لم يكن محسوبا على التيار الدينى، ولم يكن معروفا كصانع سينما احترافية قبل الثورة، فقد تخرج من كلية الفنون الجميلة كفنان تشكيلى، ثم عمل مديرا بمركز للتأهيل الذهنى للاطفال والمراهقين.
وقد كان من بين خطة هذا المركز انتاج افلاما تعليمية تخدم اغراض هذا المركز، ومارس عباس كياروستامى كتابة واخراج الافلام لهذا المركز بميزانيات حكومية ولاغراض غير ربحية ، وكان قد تعود على استخدام ممثلين هواه وفريق سينمائى غير محترف ، لكن افلامه بدت رائدة فى بساطتها.
ان سبب استمرار عباس كياروستامى فى عمله السينمائى هى انه لم يضع نفسه ابدا فى مواجهة مع نظام الملالى، لقد اختار موضوعاته بعناية من مفردات حياه الناس العاديين مثل فيلمه ( اين منزل الصديق ؟ ) الذى يسرد فيه قصة طقل اسمه احمد يشهد فى الفصل الدراسى عملية معاقبة لاحد زملاءه فى الفصل من قبل الاستاذ، الذى يتوعد الاطفال بان يكتبوا الواجب الدراسى فى الكراسة الخاصة بالواجب والمخصصة لكل طفل.
وعندما ينتهى اليوم الدراسى ويعود احمد الى منزله ويشرع فى كتابة الواجب الدراسى لنفسه يكتشف ان كراسة زميليه معه، فيوقن بمخاطر ذلك على زميله الذى سيتعرض للضرب حتما من المدرس لانه لن يستطيع كتابة الواجب فى الكراسة، فيتخذ احمد قراره بالذهاب الى منزل صديقه لاعطاءه الكراسة، ونظرا الى انه لا يعرف منزل صديقه فانه يتعرض الى التيه فى ازقة وحارات المدينة، وعندما يتيقن من انه لن يصل الى منزل صديقه ابدا يقرر العودة الى منزله ويبدأ فى كتابة الواجب الدراسى لزمليه فى هذه الكراسة ليحميه من عقاب الاستاذ.
ان كل افلام عباس كياروستامى تتناول موضوعات مشابهة من حياة الناس العادية، ولقد اهتم الناقد الامريكى جدفرى شيشاير ببحث اعمال عباس كياروستامى وتوصل الى نتيجة مؤداها ان رؤية عباس كياروستامى هى رؤية ابستمولوجية (توفيقية) فيبدو أنه قد آثر طريق السلامة بعدم الصدام مع النظام السياسى لبلاده وفى نفس الوقت فان افلامه لا تنتمى الى هذا النظام السياسى ولا تروج له.
ان الوقوف فى الموقف الوسط قد يكون خيارا ذكيا، لكنه بدا على ايه حال عفويا من كياروستامى وكأن هذه الابستمولوجية هى خيارا اراديا وبدت ايضا متناسبة مع افلامه ومع الشكل الحداثى لها تحت تأثير واستلهام نتاجات الموجة الجديدة الفرنسية ، حتى ان نقاد العالم اعتبروا عباس كياروستامى اهم مخرج سينمائى فى العالم فى تسعينيات القرن العشرين.
ان هذا النجاح العالمى لعباس كياروستامى لا يمكن النظر اليه كتتويج لسينما اسلامية تبنتها ايران بعد الثورة ، فسينماه ليست هى السينما الرسمية الايرانية وربما كان هذا ايضا من عوامل الاحتفاء بعباس كياروستامى على المستوى العالمى، لكنه ايضا ظل ايرانيا، واخرج جميع اعماله فى ايران باستثناء فيلم نسخة موثقة.
وعلى الجانب الآخر، فان الموقف مع محسن مخملباف مختلف كثيرا، فقد كان واحدا من رموز السينما الدينية التى تُمثل الثورة الايرانية ورؤية نظام الملالى عن السينما، لكن مخملباف غير ولاءه من مدينة قُم الايرانية الى مدينة كان الفرنسية، فى دلالة واضحة الى تخليه عن الثورة، وربما كان هذا ايضا واحدا من اسباب احتفاء مهرجانات السينما بافلامه الفنية، ان هذا الاحتفاء وصل الى حد ان مستر تونى بلير رئيس الوزراء البريطانى السابق قد ترك مهام منصبه آنذاك ليذهب الى دار عرض سينمائى تعرض فيلم (جيبة) لمحسن مخملباف وكان يحكى عن المجتمع الرعوى فى ايران وعن نوع من السجاد معروف باسم ( جيبة).
لقد ظهرت سينما ايرانية قوية كان صانعوها يتكبدون مشاق كثيرة لصناعتها بعيدا عن نظام الملالى وكانت هذه الافلام تحقق نجاحا نقديا كبيرا فى مهرجانات العالم بينما يناوءها النظام الرسمى الايرانى، ان آخر هذه الافلام وليس الاخير هو فيلم (طلاق) او(انفصال) الذى نال جائزة احسن فيلم اجنبى فى الاوسكار الامريكى 2012 ، كذلك يجب التنوية عن افلام اخرى مثل فيلم (الفرس) الذى تم صناعته باسلوب التحريك فى تجربة ريادية واستثنائية، وهو فيلم يُؤرخ لتاريخ ايران الحديث منذ عام 1978 وحتى 2009 من خلال راوية الفيلم وهى طفلة ايرانية تنتمى للطبقة المتوسطة ويتابع الفيلم حياتها طوال هذه السنين منتقدا بقوة نظام القهر الذى يمارسه التيار الدينى على الشعب الايرانى، وثمة امثلة اخرى كثيرة.
ان استدعاء هذا النموذج الايرانى ربما كان ضروريا لبدء النظر الى حال السينما المصرية على ضوء التطورات السياسية التى حدثت بعد ثورة يناير المجيدة حيث تسيد الاسلاميون المشهد السياسى، فهل هذه مجرد مقدمات لصعوبات قد تشهدها السينما المصرية؟
اننى اسأل هذا السؤال وثمة ما يجعلنى اشكك فى اهميته، فالثورة المصرية غير الثورة الايرانية، والظرف التاريخى الذى اندلعت فيه الثورتين مختلفا، فنحن الآن فى عصر الفضائيات ولن يستطيع اى نظام سياسى مهما كانت شوفينيته ان يكبل حرية ابداع السينمائيين.
لكننى من جانب آخر اجد لزاما على ايضا ان اضع الفرض الاسوأ، وهو ان التيار الاسلامى سوف يشتد تدريجيا وسوف يتحكم تشريعيا فى شؤؤن السينما وفنانيها بهدف توجيه هذه السينما لخدمة هذا التيار.
عندئذ يجب ان نتوقع نفس سيناريو السينما الايرانية، ويجب ان نتوقع اختفاء للسينما التجارية واستبدالها بسينما دعائية، واذا توافرت سينما اخرى فانها سوف تكون برؤية ابستمولوجية حتى تستطيع ان تفلت من الصدام مع السلطة.
ان هذه السينما الابستمولوجية سبق ان ظهرت فى مصر مع ظهور يسرى نصر الله واسماء البكرى فى نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات بفيلميهما سرقات صيفية وشحاذون ونبلاء، كما ان الفيلمين كانا بمثابة ارهاصة لسينما مغايرة بدأت ملامحها تتشكل فى مصر، لكان الوقت كان مازال مبكرا، كما ان فيلم سرقات صيفية ليسرى نصر الله انتمى الى سينما الهواه رغم قيمة هذا المخرج النقدية والبحثية التى لا تسمح لاحد بالتزايد عليه , لكن فيلمه هذا وقف بعيدا تماما عن اى جمهور بما فيه جمهور الصفوة، فعنصر التمثيل كان مؤلما جدا بسبب لجوء المخرج الى ممثلين هواه – بسبب شح التمويل – كما انهم لم يبذلوا جهدا فى اداء ادوارهم فجاء الفيلم ضعيفا، لكنه على ايه حال قدم اسما جديدا لمخرج لا يتعاطى مع ميراث استاذه يوسف شاهين ، وفضل ان يستكشف سينما خاصة به ، وصلت الى اروع تجسدها فى فيلم المدينة الذى يروق لجميع المشاهدين سواء المثقفين ام الجمهور العادى.
اما المخرجة اسماء البكرى فقد جاء فيلمها الثانى (كونشرتو درب سعادة) اقل مستوى من فيلمها الاول كما انحسرت مشاركتها على اخراج الافلام التسجيلية مثل فيلمها عن الجالية اليونانية .
لكن هذه السينما الابستمولوجية دخلت فى مرحلة الموجة مع ظهور اثنين من مخرجى السينما الحداثية مؤخرا هما ابراهيم البطوط واحمد عبد الله اللذان حققا نجاحا عالميا لفت اليهما انظار الوسط الثقافى فى مصر حتى بات من المعتاد ان نرى افلامهما على شاشات الفضائيات.
ان افلام هذين المخرجين لا تُدين عصر مبارك ولا تصطدم معه، وهى نفس الصيغة التى ستستمر اذا تسيد التيار الاسلامى المشهد السياسى فى مصر، فالسينما الحداثية اقترنت ايضا بالابستمولوجية منذ ان اعاد عباس كياروستامى صياغة هذه الحداثية اعتمادا على ميراث الموجة الجديدة الفرنسية ، وهو ما جعل الحداثية المعاصرة هى فى التحليل النهائى سينما ابستمولوجية.
اننى اتوقع ان تنتعش هذه السينما وان يتزايد فنانوها لان القوانين التشريعية لن تستطيع ان تنال منها، كما اتوقع انهيار السينما المصرية التجارية واختفاء منتجيها وفنانيها تماما، فاداه التشريع فى يد الاسلاميين وسوف يحكمون قبضتها على السينما باجبار النساء على الظهور محجبات ومنع الاشارات الجنسية التى تعتمد عليها هذه السينما مثل فيلم شارع الهرم – مثلا – ومعظم الانتاج السينمائى الحالى فى مصر.
لكننى اعود واشكك فى ذلك الى ان تتضح الصورة تماما فى السنوات القليلة القادمة.