الاحتفال بتحفة جان أوستاش “الأم والعاهرة” في مهرجان كان
أمير العمري- كان
يتصدر قائمة برنامج “كلاسيكيات كان” الذي يتضمن عددا من الأفلام الكلاسيكية القديمة التي أعيد ترميمها وتنقيتها وطباعتها في نسخ عالية النقاء، الفيلم الفرنسي “الأم والعاهرة” للمخرج جان أوستاش. وهو فيلمه الروائي الطويل الثاني والأخير. وقد عرض هذا الفيلم في دورة مهرجان كان 1973، وفاز بالجائزة الخاصة الكبرى الخاصة للجنة التحكيم التي ترأستها في تلك الدورة الممثلة السويدية إنجريد برجمان. وأحدث فوزه بالجائزة ضجة كبرى، فقد هاجمه كثير من الصحفيين هجوما شديدا، واعتبروه فضيحة المهرجان وعملا غير أخلاقي، كما وصفته صحيفة “لوفيجارو” الفرنسية بأنه بمثابة “اعتداء على الأمة”. لكن بعد أن انتهت ضجة مهرجان كان، أعيد الاعتبار إلى الفيلم البديع، ورفعه نقاد كثيرون إلى مصاف الأعمال السينمائية الكبرى.
“الأم والعاهرة” هو دون شك، تحفة مخرجه وعمل غير مسبوق في جرأته واقتحامه المحظور، وهو فيلم طويل على غير المعتاد في السينما الفرنسية، فيبلغ زمن عرضه ثلاث ساعات وأربعين دقيقة، وقد صوره مخرجه بالأبيض والأسود، وأسند أدوار البطولة فيه إلى ثلاثة من الممثلين الشبان: أولهم هو “جان بيير ليو”، الذي كان قد اكتشفه فرانسوا تروفو وأسند إليه دور أنطوان دوانيل، أي المعادل السينمائي لتروفو نفسه، في ثلاثية السيرة الذاتية الشهيرة، ثم شارك فيما بعد في كثير من أفلام جودار. وشاركت بيير ليو في “الأم والعاهرة” الممثلة الفرنسية “بيرناديت لافون” التي ارتبطت أيضا بحركة الموجة الجديدة من بدايتها حيث قامت ببطولة أول أفلام تلك الحركة، أي فيلم “سيرج الجميل” (1958) لكلود شابرول. وأخيرا، “فرانسواز ليبرون” وكان دورها في “الأم والعاهرة”، ثالث أدوارها في السينماـ مثلت بعده في عدد من أفلام مرجريت دورا وبول فيتشيالي، ومازالت تعمل حتى يومنا هذا.
لم يكن “جان أوستاش” من أعضاء حركة الموجة الجديدة رغم أنه التحق في أواخر الخمسينيات بالعمل بمجلة “كراسات السينما” التي تخرج منها معظم أبناء جيل الموجة الجديدة، لكنه سيشار إليه فيما بعد باعتباره رائد “الموجة الجديدة الثانية” التي ظهرت في أوائل السبعينيات بعد أن كانت الموجة الأولى قد خبت، وارتبطت الموجة الثانية بالتعبير عن الواقع، بعد فشل ثورة 1968 في فرنسا وما أصاب جيل 68 من إحباط ويأس وشعور عدمي بعد فشل ثورتهم. وقد أخرج إلى جانب فيلميه الروائيين، الكثير من الأفلام التسجيلية والقصيرة. وكان شخصية تراجيدية، فهو لم يكن يحب الحديث عن نفسه ولا عن حياته الشخصية وعائلته، وعندما أصيب في حادث سير عام 1981 أصابه بالشلل، فضل أن ينهي حياته بيده، فأطلق الرصاص على رأسه ومات على الفور قبل أن يبلغ الثالثة والأربعين من عمره. ونقل عن جاك ريفيت أنه عندما كان أوستاش يعمل معه في مونتاج فيلم وثائقي عن جان رينوار، كانا يتناقشان طويلا حول الحقيقة في السينما، ثم أصر كل منهما على أن يسلك طريقًا مخالفا للآخر طيلة حياته المهنية: ريفيت اتخذ طريق المسرح والخيال والوسائل الفنية؛ بينما اختار أوستاش الإخلاص المطلق للاقتباس من تجاربه الخاصة، مهما كانت بذيئة أو مبتذلة أحيانا.
وهو يعكس الكثير مما مر به في حياته الخاصة، ويصور شخصيات كثيرة حقيقية سبق أن التقاها في “الأم والعاهرة”. ويقوم الفيلم على العلاقة المضطربة بين ثلاثي: ألكسندر (بيير ليو) و”فيرونيكا” (ليبرون) و”ماري” (لافون). الأول شاب في نحو الخامسة والعشرين من عمره، مثقف، لا يعمل، غالبا كاختيار شخصي، يعيش عند امرأة هي ماري التي تكبره بنحو خمس سنوات، وأما ماري فهي تمتلك بوتيكا لبيع الملابس. ويفترض أن ألكسندر يحب ماري، كما يعتمد عليها في كل شيء من أمور حياته، فهي التي تنفق عليه، وتشتري له الملابس، وتعيره سيارتها، أي أنها بمثابة “الأم” بالنسبة له. لكن الفيلم يبدأ وهو يذهب يحاول استعادة علاقته العاطفية السابقة مع فتاة أخرى هي “جيلبير” لكنها تخبره أنها ستتزوج رجلا آخر ربما لا تحبه لكنها ترتاح معه. يتهمها “ألكسندر” بأنها تفضل الحياة المادية على الحب، فهو ينظر الى الأمور من زاوية رومانسية شديدة الجموح، ورغم لباقته في التعبير ومحاولة الاقناع إلا أنه يفشل في إقناع الفتاة بتغيير موقفها حتى بعد أن يلتقيا معا مرة ثانية.
سيلتقي ألكسندر بفتاة تعمل ممرضة هي “فيرونيكا” هي فتاة غريبة الأطوار، تعترف له بأنها تقيم علاقات متعددة مع الرجال، لكنه يشعر بانجذاب شديد نحوها بل يقع في حبها. ويجمع بينها وبين ماري التي تشعر بالغيرة في البداية ثم تتقبل وجودها بينهما. ألكسندر يصارح ماري بأنه يحب فيرونيكا، لكنه حب من نوع مختلف. وهو حائر فيما بينهما. لا يستطيع حسم أمره. وفيرونيكا تتعامل معه باعتباره طفلا، أي أنه لم ينضج بعد، فهي أكثر منه خبرة ومعرفة بالحياة.
جاء الفيلم في قلب ما عرف بـ”الثورة الجنسية”. ورغم لك ليس من المكن القول إنه يتضمن مشاهد جنس صريحة كالتي نعرفها اليوم، بل مشاهد تكتفي بـ”الإيحاء” فقط. ولكن هناك عري، وهناك الكثير من الحديث عن الجنس الذي يصل قرب النهاية إلى “مونولوج” طويل يستغرق دقائق عدة تعبر خلاله “فيرونيكا” عن مشاعرها وعن أحاسيسها الجنسية ونظرتها الى الرجل وأنه من دون إنجاب طفل، لا معنى للحب، وأنها لا تعتقد أبدا أن هناك أي امرأة يمكن وصفها بالعاهرة مهما تعددت علاقاتها. وهذا المشهد الكبير يعبر أفضل تعبير عن تلك الحيرة والهواجس الخاصة التي كانت تشغل بال الفتيات من جيل الثورة الجنسية، كما أنه يعكس البراعة التمثيلية الكبيرة من جانب فرانسواز ليبرون التي أدت أداء عبقريا منفردا أمام الكاميرا، في مزيج من الاعتراف الشخصي والتقمص. وهذا النوع من المونولوجات يتكرر في الفيلم، كما تتكرر الحوارات الطويلة المرهقة بين ألكسندر وكل من ماري وفيرونيكا، وسر رونقها وسحرها وأنها تستولي تماما على اهتمامك كمتفرج، يكمن في تلقائيتها وتدفقها الذي ليس من الممكن أن نتصور أنه يأتي من خلال حوار مكتوب ومرتب وتم التدرب عليه. إن قدرة أوستاش المذهلة على اقتناص اللحظة بكل تلقائيتها وتدفقها وتلونها، لهو ما يرفع هذا الفيلم إلى مستوى التحف السينمائية.
تعبر الشخصيات الثلاث عن حالة التي نشأت في أعقاب فشل ثورة الشباب في 1968، النزوع إلى الهرب من الواقع، والتخبط ما بين الرغبة في التحقق من خلال الحب، وبين العجز عن التحقق بسبب الشعور الدائم بالإخفاق. ولعل الكسندر يعكس الى حد كبير، شخصية المثقف النظري الذي يثرثر كثيرا عن حقوق الطبقة العاملة بينما هو يرفض العمل ويعتبره خضوعا وعبودية، وهو معجب كثيرا بفيلم “الطبقة العاملة تذهب إلى الجنة” ولا يكف عن الحديث عنه (الفيلم الإيطالي لإيليو بتري الذي كان قد تقاسم الجائزة الكبرى بمهرجان كان عام 1971 مع فيلم “قضية ماتيه” لفرنشيسكو روزي)، لكنه يحيا متطفلا على ماري التي تكبره في العمر، يترمم على سطح الحياة الباريسية، مفلس دائما، يهرب من مواجهة الحقيقة لا يريد أن يقبل الواقع، يعجز عن حسم أمره بين ماري وفيرونيكا، حتى مفهوم الحب عنده يبدو مضطربا.
التصوير في أماكن حقيقية ضيقة للغاية: المقاهي وخصوصا مقهى لي دو ماغوت الباريسي الشهير، شقة ماري، غرفة فيرونيكا في المستشفى.. إلخ تمكن مدير التصوير الموهوب بيير لوم (كان وقتها في الـ43 من عمره) من التغلب عليها واختيار أنسب وأفضل الزوايا والتكوينات التي تعبر أفضل ما يمكن، عن الحالة النفسية للشخصية التي يصورها، مع الاكثار من لقطات الوجوه الكبيرة القريبة، وهي لقطات طويلة تستمر مع استمرار الحوار الخارج عن المألوف طويلا على الشاشة، وهو ما خلق نوعا من التحدي للممثلين.
جان أوستاش كان يبدو وكأنه يواجه الممثلين بالكاميرا، يريد منهم اعترافات ذاتية، تعبر عن حقيقة ما يدور في دواخلهم، أكثر من تقمص أدوار يتعين عليهم أدائها. وفي فيلم كهذا يمكن جدا أن تترك مساحة للارتجال لذلك كما أنه فيلم مخرج، فهو أيضا فيلم ممثلين. والحديث عن فيلم من هذا النوع، يكاد يصل إلى ثلاث ساعات زمناً، لن يفي به، بل لابد من مشاهدته وإعادة مشاهدته حتى يمكن الاستمتاع به.