“الاجتماع السري”.. تحفة جديدة في مهرجان لندن السينمائي الـ68
أمير العمري- لندن
لابد أن يكون فيلم “الاجتماع السري” Conclave أحد أفضل أفلام عام 2024، وأن يصبح أيضا ملهما لأعمال أخرى تقترب بمثل هذه الجرأة من موضوع شديد الحساسية في الوقت الحاضر، ولابد أن يذهب بطله الممثل البريطاني المرموق، رالف فاينس، لكي ينافس على جائزة الأوسكار لأفضل ممثل.
سبق أن شاهدنا أفلاما تناولت، من خلال أساليب مختلفة، ما يدور وراء الكواليس داخل أعرق مؤسسة دينية في العالم، أي مؤسسة الفاتيكان، لعل من أشهرها الفيلم الأمريكي “المونسينور” Monsignor (1982) للمخرج فرانك بيري، و”البابا يجب أن يموت” (1991) لبيتر ريتشاردسون، و”البابوان” (2019) لفرناندو ميريليس، ثم الفيلم الإيطالي “لدينا بابا” لناني موريتي Habemus Papam الذي عرض في مسابقة مهرجان كان عام 2011. ثم كان هناك أيضا “البابا الصغير” The Young Pope (2016) وهو مسلسل قصير للمخرج الإيطالي الكبير باولو سورينتينو.
ومعظم ما ظهر من أفلام عن الفاتيكان والبابوية إما أنها توجه انتقادات لاذعة للمؤسسة الكاثوليكية العريقة، أو تسعى لمحاولة استعادة وجهها النقي مجددا، عن طريق الكشف عن الشوائب ومواجهتها وعلاجها بتبني الأفكار التقدمية الجديدة.
إلا أن فيلم “الاجتماع السري” Conclave يثبت مرة أخرى، أن “الموضوع” ليس أهم شيء في العمل السينمائي، بل كيف يصاغ الموضوع، وكيف توظف عناصر السينما لإبراز الجوانب والشخصيات المختلفة والمواقف المتباينة. هنا، حتى لو كان الفيلم يسير في اتجاه تقليدي، يلعب المونتاج دورا رئيسيا في توصيل المشاعر والأحاسيس وخلق التوتر في الأحداث، أو مراكمتها وإدارة التداخل فيما بينها بحذق وبراعة، فالمونتاج ليس مجرد وسيلة للربط، بل أداة إبداعية خلاقة، فالمونتير الجيد يعرف متى ينتقل من لقطة إلى أخرى، وما هي اللقطة التي يجب أن تتبع اللقطة الأولى، وهل ينتقل من “كلوز أب” إلى لقطة متوسطة أو لقطة عامة، هل ينتقل إلى شخصية أخرى في مكان آخر، أو يدخل لقطات متخيلة من التداعيات الذهنية، ويقطعها على أكثر من مشهد، ومتى وأين يضع اللقطة الصامتة التي لا يتكلم فيها الممثلون، وكم من الزمن يجعلها تستغرق على الشاشة، وهل يستخدم الإظلام وإلى أي مدى زمني، وهكذا.
المونتاج هو عصب الفيلم والوسيلة الأساسية التي تميز الفيلم عن المسرح وعن الرواية وعن جميع فنون العرض. ولا يقلل هذا من أهمية العناصر الأخرى وأولها بالطبع، الكاميرا: أين توضع، وزاوية التصوير، وحجم اللقطة، والحركة التي تتخذها الكاميرا، وطولها ومتى تتوقف، وما الغرض من تحريك الكاميرا، لإظهار ماذا، والتعبير عن ماذا؟
ولا تقل أهمية الكاميرا عن أهمية استخدام الديكور الطبيعي أو الديكور المصنوع، واختيار الأماكن الحية للتصوير وإعادة تشكيلها، واستخدام الضوء بطريقة فنية خلاقة لغرض تعبيري وليس لمجرد إنارة المشهد، وتحريك الممثلين حركة محسوبة بدقة داخل اللقطة.
أسوق هذا كله لأن هذه العناصر هي التي تجعل من هذا العمل كيانا فنيا مكتملا من ناحية الصورة وتفاصيلها، ومع ذلك، فربما ما يقلل بعض الشيء من جمال الفيلم هو تلك الموسيقى التي لم تكن موفقة بل وبدت غريبة عن المناخ العام للفيلم، كما أنها كثيرا ما أقحمت نفسها بشكل مباشر على المشاهد، كما جنحت المؤثرات الصوتية إلى المبالغة والإيحاء بأجواء الإثارة كما لو كنا أمام فيلم بوليسي. وهو ليس كذلك. وهي مسؤولية المخرج دون شك.
الفيلم من إخراج المخرج الألماني إدوارد برجر (صاحب فيلم “كل شيء هاديء على الجبهة الغربية”)، ومن الإنتاج الأمريكي- البريطاني المشترك، وناطق في معظمه باللغة الإنجليزية، مع قسم من الحوار باللغة اللاتينية الكهنوتية، وأحيانا بالإيطالية أو الإسبانية. وقد كتب له السيناريو بيتر ستروجان عن رواية الكاتب البريطاني روبرت هاريس.
من الصعب حصر نوع الفيلم في إطار الثريللر، صحيح أنه مليء بلحظات ترقب وقلق وإثارة، ولكنه ليس فيلما من أفلام الجريمة والتحقيق رغم وجود ما يشبه الجريمة أو بالأحرى، سلسلة من الأعمال التي ترقى إلى مستوى الجرائم، ووجود التحقيق أو التقصي الذي يقوم به “العميد” مجبرا.
إنه أساسا، عمل درامي متعدد الطبقات يعتمد على الحبكة، والالتواءات والكشف عن تفاصيل جديدة تدريجيا، كما يعتمد على أداء الممثلين، خصوصا وان الفيلم يضم طاقما شديد التميز يتقدمه البريطاني رالف فاينس في دور جديد تماما عليه، هو دور توماس لورانس، “عميد الكرادلة” في الفاتيكان (توماس، وهو منصب يناله الشخص بالانتخاب ثم يعتمده البابا. لكن البابا الآن قد رحل، نراه يتمدد في بداية الفيلم، على فراش الموت، يتطلع إليه “العميد” متأثرا كثيرا، وهو يشعر بالقلق من عبء المسؤولية التي أصبحت ملقاة على عاتقه بحكم مكانته، أي انتخاب البابا الجديد.
توماس حائر، يعاني من أزمة في الإيمان واليقين. وهو يرغب في أن ينتخب بابا جديد يكون أقرب إلى الاعتدال المسيحي، يطهر الفاتيكان من الأخطاء التي تشوبه، ويكون مثل أي إنسان، معرض للصواب والخطأ، يمكنه أن يعترف بخطاياه أيضا، وهو بالتالي يميل إلى الكاردينال الإيطالي بيلليني الليبرالي صاحب الأفكار التقدمية المتسامحة الذي يؤمن بضرورة قبول الجميع بما في ذلك اتباع الديانات الأخرى (يقوم بالدور ببراعة كبيرة الممثل الأمريكي الإيطالي الأصل، ستانلي توتشي).
ولكن هناك من الناحية الأخرى، الكاردينال المتشدد “تيديسكو” الذي يجاهر بعدائه للتجديد، ويريد الارتداد بالفاتيكان إلى التقاليد القديمة، متحسرا على التخلي عن اللغة اللاتينية التي يرى أنها كانت توحد الجميع، كما سيسفر فيما بعد ،عن وجه معادي للإسلام والمسلمين، يريد أن يكون هناك بابا جديد، قوي الشكيمة، بدعوى أن الكنيسة تخوض حاليا حربا دينية مع المسلمين الذين ينعتهم بأبشع الصفات.
وهناك الكاردينال الأمريكي “تريبملي” الذي يتطلع إلى المنصب، ويطرح نفسه كمجدد أيضا، وكذلك الكاردينال النيجيري “أديامي” الذي سرعان ما سيتم استبعاده بعد أن تتكشف مشكلته القديمة مع إحدى الراهبات.
توماس لا يملك سلطة على زملائه الكرادلة الذين يأتون من أرجاء المعمورة، حوالي 76 كاردينالا يمثلون الأسقفيات الكاثوليكية في شتى بقاع الأرض. وقد أصبحوا الآن محبوسين داخل كنيسة سيستين، لن يغادروها قبل انتخاب البابا الجديد.
هذا الاجتماع السري، يدور على خلفية التساؤل عن معنى الإيمان، ودور الكنيسة، وهل يجب أن تنفتح وتقبل الأفكار الجديدة وتحتضن الجميع، أو ترتد وتعود إلى تقاليدها القديمة بدعوى أن الانفتاح هو الذي أفقدها سطوتها؟ وينم التأكيد هنا كثيرا على فكرة السرية باعتبارها الستار الذي يحمي جميع هؤلاء من العيون الخارجية، وتتردد كثيرا في الفيلم الخشية من بلوغ أنباء عن أي خلافات بين الكرادلة إلى وسائل الإعلام.
والمفاجأة أن من بين هؤلاء الكرادلة أيضا كاردينال لم يكن موجودا في القائمة لكن الباب الراحل طان قد دعاه في اللحظة الأخيرة، هو الكاردينال بينيتز، كاردينال كابول، الذي يخبرهم أيضا أنه ترأس الكنيسة في بغداد والكونغو، وعاصر الصراعات المسلحة. لكنه أكثر الجميع مثالية.
الفيلم يقوم على الكشف التدريجي عن النواقص بل والانحرافات الأخلاقية التي تلمس الكثير من الكرادلة، وكلما تطلع توماس إلى أحدهم لكي يضع ثقله وراءه ثم ينال الأغلبية المطلوبة من الأصوات في ذلك الاجتماع السري داخل الفاتيكان، يكتشف بطريقة ما، أنه أصبح في خضم صراع سياسي شرس بين الكرادلة، يدور على خلفية البحث عن التطلعات الشخصية البعيدة كل البعد عن قيم الإيمان. ويجد نفسه مضطرا لمواجهة الكثيرين بما ارتكبوا، رغم أنه يظل دائما، ينأى نفسه عن دائرة المنافسة على المنصب البابوي رغم ما يمارسه البعض من ضغوط عليه لكي يطرح نفسه.
التصويت يتم مرة ومرتين وخمس وست مرات، مع الفشل في التوصل إلى الأغلبية المطلوبة وهي ثلثي الأصوات. وفي كل مرة يصعد اسم ما، سرعان ما يهبط في التصويت التالي بعد اكتشاف أمرا شائنا جرى منه، ورغم ذلك يؤكد لهم توماس على إبقاء كل ما تم الكشف عنه داخل جدران الفاتيكان.
إننا أمام صراع سياسي من الدرجة الأولى، تستخدم خلاله أكثر الوسائل انحطاطا، من تشويه سمعة الآخرين والنيل منهم والوشاية بهم، والإتيان بمن يكشف بعض تجاوزاتهم.. وغير ذلك. فهذا فيلم جريء لا يخشى ولا يتردد عن الاجتراء على المقدس، بل ينزع القداسة عن الفاتيكان، ويتعامل معه مثلما يتعامل مع أي كيان سري مغلق، تتصارع فيه الأجنحة المختلفة من أجل النفوذ والسيطرة، لا تقيم وزنا كبيرا لمسألة العقيدة، ووصايا الرب، بقدر ما يهمها مصلحتها الخاصة، ونفوذها.
ومع ذلك فسوف يظهر من يقلب الصورة، ويظهر الوجه الآخر الأكثر تسامحا وتفهما ورغبة في طي صفحة الماضي والتفكير في المستقبل بأفق مفتوح. وهذا سيكون أبعد الجميع عن قلب المنافسة ولكن الفيلم يحمل أيضا مفاجأة كبيرة تتعلق بشخصيته ليس من الممكن الكشف عنها هنا.
وليس من المهم استعراض أحداث الفيلم وشخصياته، فمثل هذا الفيلم صنع لكي يشاهد أولا وأخيرا، وممتعة المشاهدة لا تتحقق من القراءة بل من الاستمتاع بالتعبير البصري، فكل شيء هنا مرسوم بدقة شديدة: اللقطات كأنها لوحات تشكيلية من عصر النهضة، والضوء يتغير من الظلمة إلى النور، من القلق والتشكك إلى الاستسلام لمشيئة الله.
ويستخدم المخرج- والمصور التناقض بين الألوان ببراعة: الأحمر في ملابس الكرادلة على خلفية من الرخام الأبيض، في توزيع للكتل والأجساد وتحريكها مع حركة الكاميرا البطيئة، بحيث تظهر جمال المحيط- المنظور (كنيسة سيتين) مع الأعمدة المرتفعة الشامخة وتماثيل مايكل أنجلو، واللوحات التي تبرز في الخلفية في المناظر الخارجية، الحدائق الحدائق والسلالم والممرات، ولا شك أيضا أنه جرى التدرب كثيرا على تحقيق انسيابية الحركة داخل المشاهد العامة. ويعود الفضل في تلك الصورة المدهشة، إلى مدير التصوير الفرنسي ستيفان مونتان (نبي، جاكي، كابتن فانتاستيك، صدا وعظم). إلى جانب الدقة الشديدة للمونتاج الذي يعود إلى المونتير البريطاني البارع نيك إيمرسون، وفهمه العميق لمزاج الفيلم وطبيعة موضوعه وإيقاعه.
يكشف الفيلم الكثير عن البابا الراحل، وكيف أنه كان يتجسس على الجميع، ويتصيد أخطائهم ويخزن من الوثائق ما يدينهم، ولم يكن على الصورة المثالية التي كان يراها فيه العميد البريء توماس.
لم أجد خطأ فنيا واحدا في هذا الفيلم باستثناء الموسيقى التي لم تكن مناسبة بل بدت فظة ودخيلة على الفيلم. فهناك جهد كبير واضح في خلق جميع مكونات الصورة، خصوصا تصميم الملابس والديكورات، مع المستوى الرفيع لفريق الممثلين جميعا، وستظهر من بينهم أيضا المرأة الوحيدة في الفيلم، إيزابيلا روسيلليني في دور كبيرة الراهبات، الأخت أجنيس، ولن يستطيع المتفرج التعرف عليها بسهولة في هذا الدور فهي تختلف كثيرا عن صورتها القديمة. ودورها ليس كبيرا لكنه مهم في سياق الفيلم وتداعياته.
أما رالف فاينس فهو يقدم هنا واحدا من أفضل أدوراه في السينما، يعبر بكل ما يملك من وسائل، النظر والإيماءات وتعبيرات الوجه وحركة الجسد، عن مشاعر الخوف والحزن، والغضب واليأس، والشك، والنقمة، والتوبة. وهو أداء يجعله يحمل الفيلم على كتفيه، لكنه مسنود أيضا بطاقم من عمالقة التمثيل من جنسيات متعددة تعدد جنرالات الكنيسة الكاثوليكية الذين يجب أن يتوصلوا إلى انتخاب البابا الجديد قبل إطلاق الدخان الأبيض.
إنه يجسد مأزق قس وجد نفسه في خضم صراع لا قبل له به، بل وأصبح أيضا مدفوعا لتولي دورا لا يريده بعد أن مارس عليه بعض الكرادلة ضغوطا لكي يصبح هو البابا الجديد، في حين أنه يعترف لهم بأنه يعتزم أن يستقيل من دور العميد ويتقاعد بعيدا عن الفاتيكان. فلديه أزمة في اليقين، لا تتعلق بوجود الله، بل بجدوى الصلاة.
مهرجان لندن السينمائي مستمر حتى 20 أكتوبر الجاري. وهو يحمل الكثير من المفاجآت.