“الأصليين” الفيلم الذي ضاع بين الهروب من النمطية واتهامات الإدّعاء
إن أردنا الحديث بلغة الإيرادات فلا يمكن وصف فيلم “الأصليين” بالناجح، فهو يحتل المركز الرابع (وأحيانًا الثالث) بين خمسة أفلام مصرية عرضت في قاعات العرض في موسم عيد الفطر الماضي.
لكن الأمر ليس بهذه البساطة، فربما يكون الفيلم قد غطّى تكلفته وحقق هامش ربح أكثر من أرباح الأفلام الأخرى الأكثر إيرادًا (تكلفة إنتاج الفيلم المصري تبقى سرًا لا يعلمه سوى المنتج وربما مصلحة الضرائب، وهو أمر غير مفهوم ضمن كثير من عدم الأمور الغامضة في صناعة السينما المصرية).
إن تحدّثنا عن استقبال الجمهور والنقاد للفيلم فسيكون الأمر أكثر تعقيدًا في رأيي. فقد واجه “الأصليين” ردود فعل شديدة التباين وربما شديدة التطرف والمبالغة من البعض، فقد رآى كثيرون أنه فيلم مدّعي، متفلسف، ممل، قليل الأحداث، مشوّش الأفكار، بينما وصفة آخرون بأنه نقلة للسينما المصرية، وخطوة أقرب نحو الوصول إلى جودة السينما الأمريكية، وأنه تأكيد على موهبة وعبقرية “أحمد مراد” (صاحب الجماهيرية الواسعة وسط مراهقي الرواية المصرية) وأن الممثل “ماجد الكدواني” يستحق تقديرًا عالميًا يليق بعظمة دوره.
لم أجدني منتميًا لأي من المعسكرين رغم مشاهدتي الفيلم مرتين في قاعات السينما، وكنت آمل في المرة الثانية أن أجدني كارهًا أو عاشقًا للفيلم. ولكن ذلك لم يحدث. لاشك أننا أمام فيلم مختلف، لا ينتمي إلى الأفلام السائدة في السينما المصرية. وهو في رأيي السبب وراء هذا التباين الشديد في الأراء تجاه الفيلم سواء من المتخصصين أو من الجمهور العادي.
لماذا مختلف لأحبه؟
منذ تترات البداية والكادرات الواسعة التي استهل بها المخرج مروان حامد ومدير التصوير أحمد المرسي الفيلم أثناء تسوٌق “سمير عليوة” (ماجد الكدواني) داخل السوبر ماركت وشرائه طلبات البيت، يظهر واضحًا أننا بصدد صورة سينمائية جديدة عالية الجودة، أي جديدة على السينما المصرية لا بالمقارنةً مع السينما العالمية، فنحن أبعد ما نكون عن السينما الأمريكية حتى نقارن أنفسنا بها. وبالفعل يتأكد هذا الأمر مع توالي المشاهد ومع ظهور عدد من اللقطات المميزة التي نادرًا ما نراها في السينما المصرية، من تكوينات جمالية شديدة الثراء، وإضاءة لعبت دورًا هامًا في دعم المعنى المقصود بهذا التكوينـ وتحقيق الأجواء اللازمة لإيصال المشاعر المرجوة.
يبقى الأمر الأهم والذي يوضح أننا أمام عمل مختلف، هو التماسك الشديد للسيناريو في النصف الأول من الفيلم. فبعد ما لا يزيد عن ربع ساعة وصلت للمشاهد تفاصيل عائلة “سمير عليوة” بشكل واضح وإن خلا من المباشرة المبالغ فيها. فـ”سمير” هو ابن الشريحة العليا من الطبقة المتوسطة الذي طحنته رأسمالية الشركات آملًا أن يناطح مالكي الشاليهات من الطبقة العليا وذلك تلبيةً لرغبات زوجته (الكريهة) عاشقة التسوّق وساكنة الكومباوندز السكنية عديمة الطعم والرائحة.
تضغط عليه من الجانب الآخر، طفولة حزينة فُرضت عليه من أمه المتسلّطة التي شكّلت حياة ابنها بالشكل الذي تتمناه (ابنًا لمدارس الرهبان الفرنسية، بطلًا في طفولته في رياضة آمنة مثل “البينج بونج” سائرًا على خطى والده الراحل، زيجة تقليدية اختارتها له الأم أثناء رحلة الحج تليق بمستوى العائلة، وأخيرًا مسيرة مهنية بقطاع الائتمان في نفسك البنك الذي عمل به والده). وبين هذا وذاك، يحاول “سمير” الهرب إلى عالم افتراضي بسيط سواء أمام البرامج التليفزيونية التافهة لاكتشاف المواهب (حيث يفشل حتى في تخيّل نفسه مؤديًا ناجحًا في هذه البرامج) أو داخل غرفته الصغيرة التي يخزّن فيها أعدادًا من الصحف القديمة التي اشتراها بآلاف الجنيهات بحثًا عن بعض من الأصالة المفتقدة في عالمه المصطنع الذي يكاد يسحقه (حتى وإن لم يقرأ أبدًا تلك الصحف). علاقته الفاترة بطفليه المراهقين نتعرّف عليها بوضوح في الدقائق الأولى من “الأصليين” بصورة شديدة التماسك وإيقاع في دقيق ومتوازن للغاية.
تنقلب هذه الحياة رأسًا على عقب مع قرار المؤسسة البنكية التي يعمل بها “سمير” الاستغناء عنه واستبداله بشابة جميلة تكلّفهم راتبا أقل من راتبه. نعيش مع “سمير” معاناته من أجل إخفاء فقدانه الوظيفة عن عائلته ومعاناته المادية، بشكل يخلو من أو استدرار مشاعر الشفقة، حتى تنقلب حياته رأسًا على عقب باقتحام “الأصليين” عالمه ممثلين في “رشدي أباظة” (خالد الصاوي) الذي يصل إلى “سمير” ويطلب الالتقاء به ليقنعه بالانضمام إلى جماعة “الأصليين”، أو من يصفهم بـ”روح الوطن وحراس الأرض الأصليين”، المسئولين عن رقابة الـ54 مليون مصري الفاعلين في المجتمع (بما فيهم سمير نفسه)، بمنطق أن من باب أولى أن يراقب الإنسان نفسه ويصلح من حاله طالما أن الخالق قد أرسل ملكين ليراقبا أفعال الإنسان طوال حياته.
تصاعد السيناريو
يستمر السيناريو في نصفه الأول في تطور تصاعدي محسوب بدقة شديدة، فنبدأ من هذه اللحظة مرافقة “سمير” في صراع إضافي له (بعد صراعه مع فقده عمله ومحاولته إخفاء الأمر) ثم صراعه النفسي من أجل اتخاذ قرار بالانضمام إلى تلك الجماعة السرية الغريبة (وما يترتب على ذلك من منافع ومزايا) من عدمه. وفي كل خطوة يتخذها “سمير” لدفع علاقته بـالأصليين إلى الأمام يكون هذا الأمر مسبوقًا بتمهيد منطقى يدفع دفعا للالتحاق بالجماعة (زوجته ومطالبها التي لا تنتهي، حسابه البنكي الذي أصبح صفرًا، وغيره)، حتى ظهور مندوب “الأصليين” فقد وُفّق صناع الفيلم في رأيي في إضفاء طابع كاريكاتوري ساخر على هذه الشخصية ساهمت في كسر إمكانية إحساس المشاهد بغرائبية ونفوره تجاه هذا الـ”رشدي أباظة” غير المفهوم وما كان ممكن أن يسهم فيه هذا الإحساس المحتمل من خلق مسافة بين المتفرّج وبين عنصر رئيسي من عناصر الفيلم كان سيؤثر سلبيًا بشدة على متابعة الفيلم.
من لحظة ظهور “خالد الصاوي” ببذلته الصيفية الشبيهة ببذلات الموظفين ومدرّسي اللغة العربية، واستخدامه الدراجة في انتقالاته، وعلاقاته القوية بجميع المنتمين إلى الأماكن التي يظهر بها (من مساجد إسلامية إلى موالد مسيحية)، نجد أنفسنا في حالة من الارتباك القريب من القلب، فهل هذا الشخص بني آدم مثلنا أم هو تجسيد للشيطان، أم ربما مجرد نصّاب يصنع فخًا لسمير الساذج؟ ود ساهم في خلق هذه الحالة تجسيد خالد الصاوي الممتاز للشخصية وفهمه الواضح لأبعادها مما جعله يتفوّق على “ماجد الكدواني”، رغم الظهور المحدود طوال الفيلم لشخصية “رشدي أباظه” التي جسدها الصاوي. في المقابل ورغم الإشادة الواسعة التي تلقاها ماجد الكدواني عن دوره – وهو ما يستحقه بالفعل- إلا أن أداء ماجد للشخصية فيه إعادة تقديم لنفس الانفعالات وردود الفعل التي يغلب عليها الاندهاش والتي سبق له تقديمها في أعمال أخرى من قبل، غير أن ما ساهم هذه المرة في إبراز تميّزه هو مرة أخرى الرسم الجيد للشخصية من قبل صناع العمل.
لماذا مختلف لأكرهه؟
مشكلة “الأصليين” الرئيسية تبدأ في الظهور بوضوح في نصفه الثاني، حيث تتراكم الأفكار والرسائل المراد توصيلها بشكل لا يتماشى مع المساحة الزمنية المتاحة لعرض كل هذه الأفكار معًا، والرغبة في قول كل شئ، وعدم القدرة على الوصول إلى مجموعة معقولة من الأفكار والتركيز عليها هي بلا أدنى شك نوع من المراهقة التي قد تليق بروائي يمارس كتابة القصة للسينما لأول مرة مثل أحمد مراد، ولكنها أصبحت لا تليق بمخرج متميز مثل مروان حامد في فيلمه الروائي الرابع.
معروف أن مروان حامد يطلق العنان لنفسه في الإخراج دون التقيّد بحدود زمنية لذا فقد تتخطى أفلامه الساعتين والنصف إن لم يكن أكثر، إلا أن هذا الأمر غير مقبول في فيلم ملئ بالأفكار المجهدة للذهن مثل “الأصليين”. ففي اعتقادي أن صنّاع الفيلم لجأوا إلى الاختصار كثيرًا ف يالمونتاج، حتى يصلوا إلى نسخة نهائية أقرب إلى الساعتين، ولكن كان لذلك تأثير سلبي واضح على إيقاع النصف الثاني من الفيلم الذي أصبح مزدحما بالأفكار المبتسرة المشوّشة.
منذ ظهور شخصية “ثريا جلال” (التي قامت بها منى شلبي بامتياز أيضًا)، بدأت اللعبة الرئيسية للفيلم تتبلور. أصبح الهدف هو مراقبة تلك الشابة ابنة الديبلوماسي، خريجة الجامعات البريطانية والتي ساهمت طريقة تربيتها المختلفة وتخصصها الدراسي أي “رصد منحنى الحضارات الإنسانية” في جعل نشأتها مختلفة، وجعلها ترفض الخضوع للنظم القائمة وما تفرضه من على الإنسان وحياته. تلك القوالب التي وجد “سمير” نفسه آسيرًا لها خلف أعمدة أحد أهم عناصر النظام الرأسمالي (البنك الذي يعمل به) ومكبّلاً به إلى الأبد بسبب التطلّعات المادية لزوجته وأطفاله.
الخيال والاستسلام
توغّل السيناريو أكثر في فكرة الصراع بين الخيال والاستسلام للـ”سيستم” أوالنظام، بالاستعانة بالمصريين القدماء، وكيف تمكّنوا من بناء حضارتهم الفرعونية بفضل إطلاق سراح خيالهم مستعينين بزهرة اللوتس الزرقاء وما تحتويه على مادة قادرة على كسر حاجز الارتباط بالواقع.
كان الربط ذكيًا بجعل “ثريا” دارسة ومولعة بعلوم الحضارات بالإضافة إلى اهتمامها بالبحث في ثنائية الخيال والانصياع للواقع، ولكن عاب عرض هذه الفكرة اقتصاره على المحاضرتين اللتين ظهرتا في الفيلم لـ”ثريا جلال” وما في أسلوب المحاضرات من مباشرة واستخدام مفرط للكلام المبالغ في الفلسفة (حاول مروان حامد كسر ذلك بالاستعانة بمؤثرات بصرية مميزة).
واستمر تدفّق الأفكار ومحاولة ربطها ببعضها البعض، من خلال اختيار الأصليين لمراقبة “ثريا جلال” (المتمردة على الواقع) واختيار “سمير” للانضمام إليهم (وهو القابل للتمرّد على واقعه فهو ضائق بنظام حياته الروتيني ويحلم بأن يطلق العنان لنفسه ولو من خلال تخيله لنفسه مغنيًا في أحد برامج اكتشاف المواهب)، وما قد تعنيه هذه الاختيارات من حرص النظام القائم المراقب لنا على بقاء الأمر على ما هو عليه، وخشيتهم من أي تغيير قد يؤثر على روتين “مزرعة الدواجن” التي أسسّوها، وما قد يؤديه هذا التغيّر إلى تمرد المستأنسين على هذه القيود الخيالية المفروضة عليهم (فعلى رأي “سمير” يلزم شعب فوق الشعب لينجح الأصليون في مراقبة هذه الملايين).
ولم يكتف صناع الفيلم بهذه الأفكار الكثيفة صعبة الربط، فزادوا الأمر تعقيدًا بالتعرّض للعلاقة بين توثيق التاريخ وبين الواقع، وذلك بإدخال القصة التاريخية لـ”بهية” و”ياسين” في الأحداث والمرور سريعًا على القصتين المتناقضتين لهذا الثنائي (القصة الشعبية التي توارثتها الأجيال بأن ياسين بطل شعبي، والقصة الرسمية التي تناقلتها الصحف بأن ياسين مجرم وبهية هي عشيقته).
أفكار كثيرة معظمها تم التعرّض لها في اقتضاب، وبعضها لم يكن لها داع، أدّت في النهاية إلى الشعور بأن صنّاع الفيلم يتذاكون ويريدون إبراز عمق أفكارهم، والأهم أنها أثّرت على ما تميّز به النصف الأول من الفيلم وهو الإيقاع المتماسك الثابت (حتى وإن اتهمه الكثيرون بأنه إيقاع ممل قليل الأحداث)، فانفرط العقد من بين أيدى صناع العمل، وظهرت كثير من علامات الاستفهام حول أحداث النصف الثاني منه. من ضمنها مثلًا سر التمرّد السريع لـ”سمير عليوة” على جماعة “الأصليين”، فالعقاب الوحيد الذي تلقّاه لمخالفته لشروط التعاقد بينهما لم تكن كافية لتمرده. أيكون راجعا لوقوعه في حب “ثريا جلال”؟ الواضح أن ذلك كان سببًا، ولكن مرة أخرى لم يتم التمهيد لهذا الأمر بشكل كافي وذلك لأن الأفكار الكثيرة التي أراد صناع العمل عرضها أتت على حساب تفاصيل مثل تلك.
أخطاء مثل هذه كان يمكن علاجها ببساطة ربما لو تم عرض السيناريو على عين خارجية وطُلب منها إعادة ترتيب واختزال الأحداث بما لا يتعرّض للفكرة الرئيسية ولكن بما يجعل الموضوع متماسكًا ومشدودًا. هذه الأخطاء أدت في النهاية إلى إغفال أننا أمام واحد من أكثر الأفلام المصرية اجتهادًا (ولن أقول من أهمها) في السنوات العشر الأخيرة وإلى إغفال الكثيرين الثناء على علامات مضيئة كثيرة في الفيلم (مثل الأداء المبهر لمدير التصوير أحمد المرسي و لواضع الموسيقى التصويرية هشام نزيه)، بل إن تلك المشاكل ظلمت الفيلم كثيرًا، وفتحت المجال واسعًا لغير محبيه لإطلاق عدة اتهامات غير دقيقة عليه منها على سبيل المثال أن “الأصليين ليس سوى تجميع لعدد من الأفلام الأمريكية ونقل لها”، وهو اتهام يمكن تفهّمه رغم قصوره. فالفيلم بالفعل متأثر ومتعرّض لمشاكل ومواقف (بل وشخصيات) مشابهة تم تناولها في أفلام أمريكية وأوربية أخرى، ولكن دون نحت أو نقل منها. وذلك أمر طبيعي وقابل للحدوث عند التعرض لمشكلة أو فكرة عالمية (مثل ثنائية الروتين/الخيال)، ولكن المهم هو القالب الذي قُدّم من خلاله والذي أزعم أنه كان شديد المصرية وإن تعلّق بطبقة معينة (لكن فعّالة) من المجتمع.
الاتهام الآخر الأكثر انتشارًا هو أن “الأصليين فيلم مدّعي”، وهو اتهام وجدت فيه شخصيّا إدّعاءً من أصحابه للفهم وللعمق أكبر من اتهام الفيلم بالادعاء، من منطلق اتهام من يحاول تقديم شيء مختلف (حتى وإن لم يحالفه التوفيق في بعض الأمور) بأنه مدع يعطي لصاحب هذا الاتهام أمام جمهوره لقب العبقري والفطن الأكبر الذي نجح بحنكته وسعة إطلاعه في كشف إدّعاء وتفلسف الآخرين. وبالمناسبة، فهذا المقال ليس محاولة من كاتبه “لإدّعاء” الموضوعية ولكنها فقط محاولة لإعطاء هذا الفيلم حقه وإبراز الأخطاء التي كلّفت صناعه في النهاية الكثير.