“الأشياء التي تقتلها”.. دراما تركيةَ لمخرج إيراني لا تصيب الهدف

فيلم “الأشياء التي تقتلها” Things that You Kill هو الفيلم الأحدث للمخرج الإيراني علي رضا خاتمي (الإيرانيون لا يعرفون حرف الضاد المميز للعربة ويجعلونه “ز” لذا يكتبون الاسم عليرزا Alireza).

وكان هذا الفيلم قد عرض في المسابقة الدولية للأفلام الروائية في مهرجان صندانص السينمائي (يناير 2025) ورغم هذا فهو مدرج ضمن أفلام المسابقة الرسمية لمهرجان القاهرة السينمائي الـ46 (12 نوفمبر) في مخالفة صريحة لقواعد الاتحاد الدولي للمنتجين (فياف) وهو الجهة التي تمنح التصنيفات للمهرجانات السينمائية الدولية، وتقضي لوائحه بضرورة ألا يكون أي فيلم يشارك في مسابقات مهرجانات الفئة (أ) المصنف ضمنها مهرجان القاهرة، قد شارك في مسابقات مهرجانات أخرى. وهذه ليست المخالفة الوحيدة فهناك غيرها كثير من المخالفات التي تتعارض تماما مع تقاليد المهرجانات الدولية، لكن هذا موضوع آخر!

الفيلم من الإنتاج المشترك بين كندا وفرنسا وبولندا وتركيا، تدور أحداثه في تركيا وناطق باللغة التركية، وهو الفيلم الذي تقدمت به كندا للترشح في مسابقة الأوسكار الأمريكية (جائزة أفضل فيلم دولي). وهو الفيلم الروائي الثاني لمخرجه الإيراني المقيم في كندا، بعد فيلمه الأول البديع “آيات أرضية” (بالاشتراك مع المخرج علي أصغري) الذي عرض قبل عامين في قسم “أوريزونتي” (آفاق) بمهرجان فينيسيا السينمائي.

هنا مقالنا عن “آيات أرضية”

اختار علي رضا خاتمي أن ينقل أحداث فيلمه الجديد إلى تركيا هربا من الرقابة الإيرانية، وبفعل التشابه الكبير بين الثقافتين، التركية والإيرانية، خصوصا التشابه في الهيمنة الأبوية- البطريركية على العائلة وتأثيرها المدمر على الأبناء.

هنا نحن أمام دراما نفسية- اجتماعية، تناقش العلاقة المعقدة بي الأب والإبن، وانعكاس الطفولة على الحاضر، وانعكاسها أيضا، على نحو ما، على العلاقة بين الزوج والزوجة.. فنحن أمام شاب ثلاثيني، هو “عليّ” عاد إلى تركيا بعد أن قضى 14 عاما في الولايات المتحدة، يقوم بتدريس الآن الأدب المقارن والترجمة في الجامعة. إلا أنه لا يشعر بالتوافق مع الواقع المحيط به. كما أنه يشعر بالقلق من احتمال فقدانه الوظيفة، لأن القسم الذي يعمل به قيد النظر وربما سيتم إغلاقه.

والده “حميد” رجل متجهم، لا يبدي رقة أو أي تعاطف في تعامله مع أبنائه، والأخطر بالطبع، كما يلاحظ عليّ ويستنكر، أنه يعامل زوجته (والدة علي) بازدراء وخشونة. هذه الزوجة (الأم) مقعدة مشلولة تستعين بكرسي متحرك، ويشك في أن حميد أساء معاملتها وضربها مما تسبب فيما أصابها. لكن الأفدح هو أن المرأة الطيبة ستسقط فجأة ميتة، ويجدنها مصابة بضربة قوية في مقدمة رأسها مما يثير الشك لدى عليّ في أن يكون أبوه قتلها.

هل نحن أمام أحد أفلام الجريمة؟ بشكل ما وعلى صعيد خافت، نعم. فهذا فخيط الجريمة وتداعياتها وما يتبعها من جرائم أخرى، هو خيط أساسي من خيوط الفيلم. لكنه ليس الخيط الوحيد فهناك مشكلة أخرى تشغل بال بطلنا “علي”، فهو متزوج من “هذير” الشابة التي تحبه كثيرا، وتعمل طبيبة بيطرية، لكن عليّ عاجز عن الإنجاب بسبب ما أثبتته التحاليل الطبية من نقص ملحوظ لديه في كمية الحيوانات المنوية. وهو يشعر بالخجل من الإفصاح عن هذه الحقيقة سواء لزوجته أو لشقيقتيه وأبيه.

إنه يهرب خارج المدينة، الى قطعة أرض قاحلة اشتراها، يريد أن يحولها الى حديقة. ويستعين في ذلك برجل غريب حل عليه فجأة، هو “رضا”. لكنه سيوكل لرضا مهمة أخرى. فمع ازدراد شكه في والده خصوصا بعد أن يعرف أيضا أنه على علاقة منذ فترة، بامرأة أخرى غير والدته، يصبح موقنا أن والده هو الذي تخلص من والدته بالقتل، لذا فهو يقوم بالاشتراك مع رضا بقتله ودفنه.

إنه على نحو ما، يريد أن يدفن ماضيه، سطوة أبيه وهيمنته الأبوية، طفولته التعيسة التي يروي جانبا منها لشرطي فيما بعد، وكيف أنه كان يتعرض للتحرش في طفته من قبل أحد الأولاد لكنه كان يتقاعس عن إطلاع والده خشية رد فعله العنيف. قتل الأب إذن، يقتل شيئا ما داخل نفسية علي,

نحن إذن أمام مزيج من فيلم الجريمة، حيث تبدأ أكاذيب عليّ وتغطيته على جريمته في الانكشاف تدريجيا بما ينذر بالمصير الذي ينتظره، ثم اضطراره لارتكاب جريمة أخرى، وبين فيلم الدراما النفسية التي ترتبط بعقد الراسخة من الطفولة، والفيلم الاجتماعي الذي يدين السيطرة البطريركية في مجتمع إسلامي.

في بداية الفيلم تقول هذير زوجة عليّ له إنها رأت في الحلم والده يأتي إليها ويستلقي على الأرض مرهقا، ثم يطلب منها “أن تقتل الضوء” لا “أن تطفيء الضوء”. هذا الحلم يأتي ووالد عليّ لايزال على قيد الحياة، وفي نهاية الفيلم يرى عليّ أباه يطرق بابه ويدخل مرهقا، ثم يستلقي أرضا ويطلب منه “أن يقتل الضوء”. هنا يكون الأب قد قتل ودفن منذ فترة، وتصوير المشهد لا يوحي بأنه حلم أو كابوس، بل يبدو كواقع، ولكنها إشارة رمزية إلى أن المشكلة تكمن في أننا نقتل أجمل ما لدينا، الضوء، رمز الوضوح والمعرفة والحب.

في الفيلم شخصيات كثيرة، تتكلم كثيرا، في حوارات لا تفيد كثيرا في دفع الحبكة، مثل مريم ونسرين (شقيقتا علي) ولا يشبه الفيلم من حيث بناء السيناريو، ما نراه في أفلام المخرج الإيراني الكبير أصغر فرهادي، التي تعتمد على الكشف التدريجي الرصين، في كل مشهد من المشاهد، عن شيء جديد، يضيف ويغذي ويثري الحبكة.

والحقيقة أن المخرج علي خاتمي، يبدو وكأنه يسعى أكثر لمحاكاة أسلوب المخرج التركي نوري بيلجي جيلان، إلا أنه لا يتمتع بنفس قوة التعبير والسيطرة المدهشة على الأسلوب، والحوارات الكاشفة العميقة التي تكتسي بأبعاد فلسفية في أفلام جيلان- التي ليس من الممكن استبعاد أي لقطة أو جملة منها، كونها تدفع الموضوع باستمرار إلى الأمام، وتضيء لنا مناطق جديدة ذهنية وفلسفية ودرامية. أما فيلم علي خاتمي، فهو يصاب بعد فترة، بالترهل وقدر من الارتباك، خصوصا عندما يبتعد لفترة طويلة، عن موضوع الجريمة التي ستصبح جريمتين، إلى موضوع الإنجاب وتأثيره على العلاقة بين الزوجين، وعندما يأتي التطهير أو الخلاص النفسي في النهاية فهو لا يبدو مقنعا.

إنه يهمل أيضا علاقات كانت تنذر بتداعيات يمكن أن تضيف إلى الدراما، منها على سبيل المثال، بوادر علاقة ما، بين عليّ وإحدى طالباته التي كان من الواضح أنها معجبة كثيرا به وأخذت تتقرب منه في أكثر من مشهد، لكنها سرعان ما تخرج من الفيلم. كما أن فكرة التأثير الذي تركته عليه إقامته الطويلة في أمريكا لا تتبدى بوضوح في السياق، إنه فقط يعبر بالكلام لمدير الكلية التي يقوم بالتدريس فيها، إنه غادر إلى أمريكا لشعوره بكراهية كل شيء من حوله في هذه البيئة.. لكنه أصبح الآن- كما يقول- أكثر قبولا لواقعه. إلا أنه لا يبدو كذلك!

هناك أيضا إهمال في التعمق أكثر في شخصية “رضا” ذلك الرجل الغامض الذي ظهر فجأة عند قطعة الأرض القاحلة، وطلب أن يعمل لدى علي ويقبل بأجر بسيط، ثم نراه يتحدث ويشرح أموار تجعله خبيرا بأشياء متعددة كما يمسك بكتاب باللغة الإنجليزية يقرأ منه، من دون أن نعرف من هو، ولماذا أتى إلى هذا المكان، ومن أين جاء، ولماذا يقبل الاشتراك في جريمة قتل الأب ودفنه، ثم يعاني بعد ذلك من الشعور بالذنب والاضطراب النفسي الشديد الذي يجعله يقبع في بيت الكلب ويقيد نفسه بالسلسة الحديدة التي يربطون بها الكلب الذي يختفي من الفيلم من دون تفسير!

هناك أيضا اعمال واضح لشق الجريمة وبوجه خاص، تحقيقات الشرطة التي تنجح في انتشال سيارة القتيل، لكنها تتوقف عند هذا الحد، ويترك المخرج فيلمه غامضا في النهاية عندما تشير هذير لزوجها بأن لديها خبرا جيدا ستسر به إليه، بما يشي بأنها قد أصبحا حاملا، أما مصيره هو فيبقى غامضا، هل سينتهي الى الإعدام، أم النجاة، وهل يريد الفيلم أن يوصل لنا رسالة مؤداها أن انقاذ الروح أهم من فقدان الجسد؟

مستوى التمثيل في الفيلم متواضع بشكل عام، مع قلة من المشاهد المؤثرة. أفضل أداء هو للممثل أكين كوتش (في دور علي)، وهاذار إيرغولو (في دور هذير).