الأخوان داردين والاقتراب من نفسانية روبير بريسون
تتسم سينما الأخوين داردين بأكثر من ملمح، منها أنهما من رواد ومخترعي الواقعية الاجتماعية الجديدة، والبعض ينسب لهما فضلا في إحياء الواقعية الأوروبية في الخمسينيات والستينيات، وبعيدا عن ذلك يتطرق هذا المقال الي الملمح النفساني المشهدي في افلامهما، وعلاقتهما الواضحة بسينما المخرج الفرنسي العظيم روبير بريسون، فهما يحاولان الاقتراب من المشهدية النفسية المعقدة، وهذا ما فعله بريسون، أهم سيكولوجي في تاريخ السينما، ليأتي بعده جودار الفرنسي وهيتشكوك شارحا النفسيانية الشكلانية.
هذه السيكولوجية البريسونية حاضرة في مشهدية داردين، في افلامهما ستجدها، ولكنها ليست بالحدية والعنفية البريسونية، وليس حتي بالتعقيد وقسوة المونتاج والتمثيل، حتي يتضح لنا أن الأب بريسون له أبناء ولكنهما ليسا مثله بالظبط، بل لديهما شخصية سينمائية واضحة تماما، رغم تأثير الأب عليهما.
نقاط الاختلاف
هناك اختلافات بين الاب والإبنين داردين، فهم يصنعان نفسية بها الكثير من البراح للمشهد، تخفي في الكواليس تفاؤلية منتظرة، وهو ما يتضح في اخر الفيلم وآخر القصة الداردينية السينمائية لتكون الدراما عاملا متفاعلا مع الواقع وصيرورة الحياة بأن الفرح والحب لابد أن يظهرا بعد الازمات والاحباطات والحزن. وهو ما يختلف مع بريسون صاحب الانغلاق النفسي، وحتمية تعقيده الحزين.
الخطاب البريسوني لا يتفاعل الا مع النفسية المتعالية عن الواقع، الانغلاق النفسي، لا يعطي فرصة لانتظار الفرح وانفراج الازمة، وظهور السعادة والحبور، بريسون يصنع فيلما ضد نفسه، ضد الواقع وصيرورة الحياة، انما الرؤية الداردينية تتفاعل مع الواقع والحياة، الاخوان يصنعان فيلما ومشهدية لهما وللعالم و للمشاهد يحاولان القول إن هناك فرصة للحب والفرح مرة أخري.
ونظرا لما سبق ذكره حول التفاعل مع الواقع الدارديني والانغلاق البريسوني، يمكن القول ان الجماليات المشهدية الصارخة، والحيوية الأدبية الحوارية والفنية البصرية، تتجلي في أعمال الأخوين، ويجني عليها بريسون لصالح التكثيف النفسي والفلسفي والفكري، الذي يجهد المشاهد كثيراً، وطول الفيلم، فكل لحظة هي خارج الجماليات وداخل الفكر والملاحظة والتأمل، فداردين انتصرا لصالح الجماليات بشكل واضح ودون ضبابية، بنسبة معقولة وجيدة، مع الاهتمام أيضا بالجانب النفسي والفكري والشاعري بنسب معقولة أيضا.
وبناءً علي ما سبق فيما يتعلق بجماليات داردين وفكرية بريسون، يتضح أن الوضوح الدرامي والخطة الفيلمية، والسيناريو موجودان بشكل كبير في فليمية داردين، ويختفيان لدي بريسون، ففي اعمال الأولين هناك امكانية للتوقع والتفاعل المشهدي وانتظار الانفراجة الاجتماعية والنفسية، بالاضافة الي شعور المشاهد بالتشويق والاثارة، ويسير المشاهد وراء خيط واضح وسهل المتابعة، عكس بريسون الذي لا يتميز بأي مما سبق حيث الجمود، وحدية المشاهد، وكثافة المشاهدة وتعب الملاحظة.
نقاط الاتفاق
ويتفق الاخوان داردين وبريسون في خطاب الكبت كحيلة نفسية تتحول إلي اركان سردية سينمائية مدهشة، ولكن مع فرق التعقيد لصالح بريسون، فالاخوان دردين مازلا يحبوان في سينما الأب بريسون، فالوفاء في التقاليد السينمائية البريسونية للأخوين ليس شاملا، وليس هناك صك عقد بينهم، فالاخوان داردين كما ذكرنا، لديهما شخصيتهما المستقلة رغم انهما يسبحان في البحر البريسوني النفسي المعقد.
ويمكننا القول ان الأخوين داريدن اساتذة في الواقعية ومتأثرين بواقعية الستينيات الاوروبية كما ذكرنا اعلاه، وهذا من حيث التحليل الظاهري لفيلمية الأخوين، وايضا يوضح ذلك، لماذا هما يتفاعلان مع الواقع بعكس بريسون الذي يكبت بشكل مذهل نفسية المشهدية والفيلم والأحداث، لدرجة انه صاحب عقل نفسي داخلي للفيلم وهو عقل يتفاعل مع الذوات المتعالية والافكار النفسية المنغلقة، وفيلم “النشال” خير تجسيد لذلك.
وايضا من نقاط الاتفاق، التعبير السينمائي عبر الفئات المهمشة والتي تعاني من الفقر والقسوة والتحريض الجسدي والنفسي، فكلا من الأخوين دادرين وبريسون استخدموا المعاناة البشرية والفردية والتركيز علي رموز واقعية تعاني الكثير، في المشهدية الفيلمية لكل منهم.
أطياف فرويد في طفولية داردين
الاخوان داردين في فيلم “الطفل صاحب الدراجة”، يقتربان من ساحات الطفولة واسرارها المعقدة، الطفل يبحث عن والده، ويصاب بمرض نفسي يجعله يتألم ويصبح عصابيا، وليس رجلا عصابيا، وهنا نجد الأمر اعنف، والتدمير اكثر.
هذه النفسية العصابية الفرويدية استطاع دردين التعبير عنها بمشهدية مليئة بجماليات التفاصيل وتعبيرات الوجه الطفولي، وبقية اشخاص الفيلم، هذه النزعة التشاؤمية للفيلم تجعل المشاهد يبكي حزنا علي محاولات الطفل الوصول الي والده، ولكنها تخفي نظرة تفاؤلية منتظرة.
الجمع بين التشاؤم والحزن الواضح، والتفاؤلية المنتظرة، هي ابرز مشاهد الخلق السينمائي لداردين، ويلاحظ ان كل مشاهد الانفعالات وحكاية الفيلم، كلها خلق سينمائي جديد، خاصة ان القصة لا يجدها المشاهد معقدة علي الاطلاق، ويصاب بدهشة عند نهاية الفيلم فرغم بساطة القصة الا ان التفاصيل والمشاهد تهز المتفرج بعنف، وتجعله يتابع ماذا يحدث ليس بهدف معرفة اخر القصة، انما قدرة الاخوين داردين علي اخذ المشاهد الي عوالمهما السينمائية، بل خطفهم خطف.
وبالنظر الي السيدة التي اصبحت ترعي هذا الطفل، نجد مشاعرها الامومية تفوق الحد، تعبيرات وجهها تصرخ بحاجتها الي هذه الطفولية المفقودة لديها منذ فترة، ويصل الامر إلى أنها تضحي بعاشقها، لتؤكد انها امرأة فرويد عندما تريد من الرجل الطفل فقط، فهناك مئات الرجال ممكن تحصل عليهم، ولكنها تريد طفلا يعيش معها يشعرها بأنها أم تسعي لرعايته وحبه.
رويدا رويدا يزداد معدل العصابية لدي الطفل، ليصل لمنتهاه بتحول الطفل الي مجرم، ثم تنفرج زواية الاكتئاب الطفولية، الي محبة أسرية، وتبادل الاهتمام بين الإبن الجديد والأم التقليدية.