إيما طومسون قاضية تواجه مشاكل أسرية في “قانون الأطفال”

كانت ايما طومسون واعية وهي تقدم قصة القاضية “فيونا ماي”، في الفيلم الأمريكي الجديد “قانون الأطفال” The Children Act  المقتبس عن رواية بنفس العنوان للروائي أيان ماكوين. ربما تكون هذه المرة الأولى التي يتناول فيها فيلم سينمائي قصة قاضية، فقد صرحت قبل انطلاق الفيلم للعرض العالمي في أغسطس الماضي بأنها لم تر قط قصة عن قاضية امرأة وقالت: “أعتقد أنه في عالمنا الذكوري عندما تسمع كلمة قاضي، فإنك تلقائيا تظن إنه رجل”، وربما هذا الجانب تحديدا كان سبب انجذابها للدور وتحمسها له، أن تؤدي دور امرأة وصلت إلى منصب بارز في القضاء الذي يسيطر عليه الرجال، لكن في الوقت نفسه الفيلم ليس عن نجاحها كقاضية بل ربما يهتم أكثر بأزمة تواجه حياتها الزوجية نتيجة لذلك النجاح في “معقل الذكور”.

يبدأ الفيلم بـ “فيونا” منهمكة في الكتابة على جهاز الكمبيوتر الخاص بها، حيث تكتب حكمها النهائي كقاضية في محكمة مختصة بالنظر في قضايا الأطفال والقصر، في قضية فصل توأم ملتصق، في الوقت الذي يتحدث فيه زوجها المحبط إليها، ولا يتركنا الفيلم نمضي طويلا قبل أن يضعنا مع “فيونا” في الأزمة الجديدة التي تواجه زواجها الذي دام عشرين عاما.

زوجها-البروفيسور الأمريكي المتخصص في الفلسفة- اليائس على نحو واضح من فتور علاقته بزوجته، وانشغالها الدائم بقضاياها، فهي ما أن تنتهي من واحدة لتبدأ في الأخرى، يعرض عليها بكل بساطة أنه يريد أن يقيم علاقة مع امرأة أخرى قائلا: “أنا لا أريد أن استمر بهذا الشكل، سأحصل على هذه العلاقة. لا طلاق. لا أكاذيب لا مكر”،لكن “فيونا” لم تكن متأكدة من جدية ما سمعته من زوجها، إلا بعد أن صارحها باسم المرأة الجديدة، زميلته في الجامعة، أستاذة الإحصاء، التي تصغره بأعوام عديدة.

طالبت “فيونا” بالطلاق ثم عادت إلى كتابة حكمها النهائي في قضية “التوأم”، وللمصادفة هي ترى أن عليها أن يموت طفل ليتمكن الآخر من الحياة بدلا من فقدهما معا، المعنى نفسه توصل إليه زوجها، أن يبني سعادته المؤقتة على تعاستها الدائمة!

منذ البداية اختار الفيلم أن يجعلنا من خلال اللقطات القريبة نرى وجه “فيونا” بوضوح في كل موقف تتعرض له، في المنزل أو في المحكمة، نستطيع أن نلمس تجاعيد وجهها كامرأة في نهاية العقد الخامس من عمرها، قوية وشخصية قيادية بالفطرة، كما إنها دقيقة ومنظمة للغاية، وفي ملابسها الكلاسيكية تختار الألوان الداكنة، محاطة دائما بالرجال، ليس لديها أصدقاء مقربين، قليلا ما تبتسم، وجهها عابس وشعرها قصير، تتحدث بسرعة كبيرة، وتركز معظم ردود فعلها في نظرات العيون القوية، أما إذا قررت أن تتحدث فتعطي قرارات، دون أن تجد حاجة لتفسيرها.

هناك ملمح بارز ومتكرر في الفيلم، للتعبير عن جزء أصيل من شخصية فيونا أو ربما للتعبير عن مسار حياتها أيضا، فدائما نرى “فيونا” تسير في ممرات مستقيمة، في بيتها، في الطريق إلى المحكمة، حتى القطار الذي كانت تستقله للذهاب إلى حفل في “نيوكاسل” – مسقط رأسها- أظهره الفيلم في مساره المستقيم، لكن هذا المسار المستقيم لحياتها كقاضية يبدو إنه عكس ما كانت عليه في الماضي، فقد وصفت نفسها أيام شبابها بأنها كانت “حرة وطائشة”، وواضح إنه لم يعد متاحا لها أن تكون حرة ولم توجد بعد قاضية طائشة.

الوجه الآخر من أزمة “فيونا” ظهر مع نظرها لقضية طفل في السابعة عشرة اسمه آدم، ينتمي إلى “شهود يهوه”، مصاب بمرض اللوكيميا، يرفض هو وأبواه عملية نقل الدم إليه، لأنه يخالف عقيدتهم التي ترى “أن نقل الدم خطيئة بدعوى أن “الله امرنا ألا نخلط دمائنا بعضها ببعض”، وقبل أن تتخذ قرارها النهائي ذهبت إلى الطفل في المستشفى واستمعت إليه وهو يعبر لها عن وجهة نظره في رفض نقل الدم، ولماذا هو مقبل على الموت نتيجة لرفضه العلاج، كان تصرفا غير مألوفٍ، وكان قرارها كذلك أيضا، لقد أصدرت حكما بتجاهل تعاليم عقيدته والسماح للمستشفى بعلاجه كما تدعو الضرورة بما في ذلك نقل الدم.

أزمة “فيونا” لم تكن في قرارها لكن في علاقتها بهذا الشاب الصغير، العلاقة التي وصفتها بأنها كانت مثل “الحلم”، تلك العلاقة التي حاول هو أن يمد جسورها بملاحقته إياها، لكن هي لم تتجاوب معه، خوفا على نفسها كما قالت. وانتهى الفيلم ولم ندرك على وجه التحديد، كيف كانت تنظر هي إليه، كطفل اقتحم عالمها كامرأة لم تنجب وكانت تتمنى ذلك، أم كزوجة تتألم من علاقة زوجها بامرأة أخرى، وتبحث عمن يقدم لها الحب الذي تفتقده. الفيلم قدم لنا إشارات للجانبين معا، وربما كان مقصودا ألا نعرف، ويذهب آدم بعيدا إلى عالم الآخر، ونحن مع “فيونا” غير متأكدين من حقيقة تلك المشاعر.

على جانب آخر اختيار أن تدور أحداث الفيلم في الشتاء كان موفقا للغاية، فالجو الملئ بالضباب كان يغذي مشاعرنا كمشاهدين بعدم وضوح مشاعر “فيونا” في علاقتها بمن حولها، وأيضا الشتاء يعني إن الشخصيات ستجنح في علاقتها للشعور بالدفء، سيكون من الصعب الفراق، لكن القرب هو الأولى في هذا الجو البارد، لذلك في النهاية انتهت أزمة “فيونا” الأولى، هل تتذكرها؟ بالضبط أزمة علاقة زوجها بأخرى، لقد عاد إليها زوجها ولم يذهب بعيدا بعد أن أقام علاقة عابرة ليومين، وعاد ليرمم علاقته بها، دون أن يستسلم لقرارها بالطلاق.

أشار الفيلم بشكل عابر إلى قضية وجود النساء في مؤسسة القضاء، وهي مشكلة عالمية، غير مرتبطة بدولة معينة، من خلال حوار قصير دار بين “فيونا” وحضور نسائي لحفل، فقالت امرأة ساخرة “نريد العدالة، الرجال يحصلون على كل العمل، نحن نموت من الجوع بالحقيقة، والرجال عديمو الفائدة. إنها حقيقة علمية”، وكان رد “فيونا”: أبقي ذلك تحت قبعتك!

ربما يكون فيلم “قانون الأطفال” ليس من نوعية الأفلام الجماهيرية، نظرا للقضية التي يطرحها من خلال بطلة في نهاية العقد الخامس، لكنه فيلم حساس للغاية يجعل المشاهد يرى إنه في كثير من الأحيان لا يستطيع المرء أن يدرك حقيقة مشاعره، أو حتى يعرف ما هو الصواب، وإن النجاح في جانب ربما يعني فشلا في جوانب أخرى، وليس مطلوبا من الإنسان أن ينتظر أن يحوز كل شي، أي النجاح في الحياة والعمل أيضا، وإذا حدث ذلك النجاح على المستويين سيكون مصحوبا بتضحيات كثيرة.

إيما طومسون من فيلم لفيلم تؤكد أنها ممثلة استثنائية، فقط أنظر إليها في الدقائق التي تسبق دخولها إلى قاعة المحكمة، شاهد قدرتها على نقل قسمات وجهها وتعبيراته بين حالة الأسى إلى حالة اللاتعبير التي تستمر معها طوال فترة وجودها بالقاعة، ثم من جديد عندما تخرج يعود إليها الشعور بالأسى والمعاناة النفسية مع زواجها الذي أوشك الإنهيار، وتابع قسمات وجهها كامرأة ذات كبرياء تحاول أن تخفي غيرتها من امرأة زوجها، أو كامرأة تعاني من الحيرة في علاقتها بمراهق صغير لا تعرف على وجه الدقة كيف تشعر نحوه. كان أداء راقيا.

Visited 64 times, 1 visit(s) today