إعادة اكتشاف فيلم “المواطن كين”: فن سينما التلصص

لا يحاول هذا المقال أن يكرّر ما يعرفه كلُ المهتمين بالسينما من أن فيلم “المواطن كين” للمخرج أورسون ويلز تحفةٌ سينمائية، ومنجمٌ لا ينضب نكتشف من خلاله فى كل مرة ما يقنعنا بروعة الفن السابع وأهميته، ولكن حديثى سينصرف الى التركيز على جانب من حوانب التفرّد فى هذا الفيلم.

سنطرح هنا سؤالاً مهمّاً هو: هل المواطن كين مجرد فيلم سينمائى متكامل العناصرأم أنه فيلم عن السينما كوسيلة للإكتشاف والفضح وإثارة الإلتباس وزعزعة اليقين؟ هل كان لأساليب أخرى ،لو استخدمت،  أن تحقق للفيلم هذا الطوفان من الإعجاب ؟

مع التسليم بأن المواطن كين ساهم فى تطوير أدوات السينما، وقدرتها على التعبير والتوصيل، فإن هذا المقال يقترح نظرة مختلفة وغير تقليدية لهذا الفيلم المختلف، نظرة تربط بين قوة الفيلم، وبين كونه فيلماً عن السينما وليس عن أى شئ آخر، بما فى ذلك شخصيته المحورية مستر كين.

ما معنى هذا التعبير الغامض: “فيلم عن السينما”؟ نحن مدينون فى صكّ هذا التعبير للمخرج والناقد الفرنسى الراحل فرانسوا تروفو، وقد ذكره فى معرض وصفه للحديث عن فيلم “النافذة الخلفية” للراحل ألفريد هيتشكوك (1954).

النافذة الخلفية كما نعرف يدور حول مصور فوتوغرافى محترف يتلصص على جيرانه مستخدماً كاميرا، بعد ان أقعده حادثٌ عن السير. من خلال التلصص يكتشف المصوّر، ونكتشف معه، جريمة قتل، يتمتع الفيلم، الذى قام ببطولته جيمس ستيوارت وجريس كيلى، بسيناريو متماسك مع براعة فى رسم الشخصيات، وتدفق فى السرد يحقق الإثارة والتشويق.

فسّرتُ عبارة “فيلم عن السينما” فى البداية بمعناها المباشر، أى فيلم يوظف امكانيات وأدوات السينما لترجمة سيناريو مشوّق، ولكن هذا التفسير المباشر كان يصطدم دوماً بحقيقة أن كل افلام هيشتكوك تقريباً يتحقق فيها هذا الإتقان الحرفى، دون أن تنفرد بهذا الوصف اللافت.

استرحتُ أخيراً الى تفسير تروفو الأعمق والأجمل لعبارته، فهذا الفيلم  ليس عن اكتشاف رجل  لجريمة قتل، ولكنه فى جوهره فيلم عن اكتشاف هيتشكوك الأعمق للسينما كفن للتلصص بامتياز.

عّدت الى الفيلم، وتأكدتُ بالفعل أن التلصص فى النافذة الخلفية يتحقق على ثلاثة مستويات: المصوّر القعيد يتلصص لحسابه الخاص من باب التسلية وقتل الوقت، ونحن كمتفرجين نتلصص عليه وعلى كل مايراه وعلى ما يفعله مع خطيبته الجميلة، وهناك فى المستوى الثالث غير المنظورهيتشكوك نفسه وهو يراقبنا جميعاً، إنه صاحب لعبة التلصص كلها، يفتح لنا كل نوافذها،  ثم يعاقبنا فى النهاية من خلال لحظات رعب لا تنسى.

يكشف فيلم هيتشكوك ببساطة عن أن السينما هى فن التلصص المدفوع، نحن نشترى تذكرة لندخل حجرة مغلقة نتلصص فيها مع سبق الإصرار والتلصص على أشخاص لايبالون بوجودنا، أو يزعمون ذلك، وكلما تأكدنا كجمهور من لامبالاة الممثلين، كلما زادت نشوتنا من أجل المزيد من التلصص المسروق.

لو عدنا بالذاكرة الى فجر السينما الأول، سنكتشف أن أجهزة العرض السينمائية البدائية الأولى كانت أقرب الى صندوق الدنيا، شخصٌ واحد فقط يتلصص من خلال عين زجاجية على مشاهد قصيرة متتابعة، كان المتفرج قديما يمارس تلصصاً يطابق يالضبط ما يفعله رجل وحيد ينظر من ثقب الباب.

أسلوب السرد السينمائى الذى قدمه هيتشكوك فى فيلمه، يكاد ينقل آلية المشاهدة والتلصص الذى يمارسه جمهور السينما الى الفيلم ذاته، بهذا المعنى تستطيع أن تعتبرأن فيلم النافذة الخلفية يجعل السينما داخل السينما.

يمكن تفكيك اللعبة كما يلى: المتفرج داخل قاعة العرض تحوّل فى الفيلم الى مصور داخل حجرة صغيرة مظلمة، والكاميرا السينمائية، وهو الوسيلة التى تتيح صنع الفيلم وتلصص متفرج السينما عليه بالمشاهدة، تتحول داخل الفيلم الى كاميرا فوتوغرافية، وشاشة العرض التقليدية تتحول داخل الفيلم الى واجهة بناية ضخمة ترصّعها بعض النوافذ الصغيرة التى تتشابه فى شكلها، على نحو غريب مع إطارات الفيلم السينمائى (الكادرات).

من الغريب واللافت أيضاً أن الأحداث التى تجرى داخل كل نافذة / كادر، تكاد تعبّر عن بعض أنواع الفيلم الأمريكى ( مواقف كوميدية وأخرى استعراضية راقصة وثالثة رومانسية ..إلخ)، ثم يتوقف هيتشكوك عند الكادر الذى يناسبه (نافذة الجريمة والتشويق، وهكذا تأخذ حكاية الزوج القاتل مساحة أكبر فى التلصص والمتابعة (من المصور والمتفرج معاً)، وتصنع الحكاية عقدة الفيلم بأكمله.

فن التلصص

جيمس ستيوارت إذن هو مندوبنا ورجلنا كمتفرجين داخل الفيلم، دوره أن يتلصص لنا، كما أنه يمنحنا لذة مضاعفة عندما لا نتردد نحن فى التلصص عليه فى مشاهده الموضوعية الحميمة خاصة تلك التى تجمعه مع خطيبته باذخة الحسن والجمال، ولا ينسى هيتشكوك أن يجعل جريس كيلى تشرع فى تقبيل جيمس ستورات قبلتها الشهيرة بأن تقرّب شفتيها الى الكاميرا، وكأنها لا تكافئه وحده فقط، ولكنها تكافئ الجمهور المتلصص أيضاً.

هيتشكوك، وقد أدرك طبيعة السينما كفن للتلصص، قرر أن يقطع الشوط الى آخره، أراد فى النهاية أن يعاقب كل المتلصصين (الجمهور وستيوارت معاً). اختار الزوج السفاح أن يقتحم على بطلنا حجرته التى تعادل بالضبط قاعة العرض، عندما فتح الباب على جيمس ستيوارت أصابنا الفزع لأنه كان كمن فتح على الجمهور صالة العرض بعد أن ضبطهم يتلصصون على جرائم الآخرين.

وعندما يستخدم جيمس ستيوارت فلاش الكاميرا الذى يحوّل السفاح الى شبح أبيض بلا معالم، فإن هذا التصرف يعادل من زاوية الجمهور، الرغبة الجارفة فى إضاءة أنوار الصالة، لتتحول كل الأطياف من جديد الى شاشة بيضاء، حتى نتخلص من كابوس اللحظة المفزعة.

لكن هيتشكوك يعود بعد ذلك لكى يصالح كل المتلصصين بالقبض على السفاح، هنا يتحقق الخلاص المزدوج، وهنا أيضاً سيقرر الجمهور العودة لممارسة لعبة التلصص من جديد بمشاهدة أفلام أخرى، طالما أن العقاب لم يتجاوز لحظات من الفزع، جعلت طعم المغامرة حريفاً ولذيذاً.

روعة النافذة الخلفية بالتالى فى اكتشاف هيتشكوك وتجريبه آلية للتأثير فى الجمهور، محور هذا الآلية هى أن السينما كفن للتلصص المشروع، ولأن التلصص نوع من السرقة، فإن اكتشافه يثير الفزع والرعب.

 تجربة إيطالية

بعد سنوات طويلة من فيلم النافذة الخلفية، سيظهر فيلم إيطالى بديع هو”سينما باراديزو الجديدة” للمخرج جوسيبى تورناتورى، ليتكلم بمعالجة مختلفة عن لعبة التلصص فى السينما، مندوب الجمهور فى هذا الفيلم هو ذلك المخرج الذى يشعر بالحينن الى دار العرض فى قريته الصغيرة، طفلاً ثم شاباً ثم رجلاً فى منتصف العمر، بالإضافة الى جمهور السينما العتيقة الذى نشاهد تجاوبه مع الأفلام المعروضة داخل الفيلم.

أراد تورناتورى أن يلغى الحواجز بين السينما وجمهورها، الجمهور يذهب بنفسه الى قاعة العرض، فإذا لم يستطع الدخول، فإن السينما هى التى تخرج الى الناس فى الشارع، حتى لوكان الثمن أن تحترق آلة العرض (مشهد شهير لا ينسى).

جمهور قاعة العرض الذى يشاهد جمهور سينما باراديزو وهو يبكى تأثراً بما يشاهده من أفلام الأبيض والأسود، سرعان ما سيشعر باختناق وسيحبس دموعه وهو يرى بطل الفيلم يفقد حبيبته فى سن الشباب.

تنتقل كاميرا تنورناتورى الذكية من مشاهد العبث الجنسى فى الأفلام القديمة الى مشاهد مماثلة تحدث فى قاعة العرض، من يدرى فقد تكون قد حدثت أيضاً مع جمهور يشاهد فيلم تورناتورى فى قاعة عرض حديثة فى عصرنا الحالى!

يستمر إلغاء الحواجزبين الأفلام وجمهورها، فإذا كان جمهور سينما باراديزو “القديم” قد حُرم من مشاهدة القبلات لأسباب رقابية ودينية، فإن تورناتورى يقوم بمكافأة جمهور “اليوم” فيدخر هذه المشاهد المحذوفة، ويعرضها مرة واحدة فى نهاية الفيلم. هكذا يفشل متلصصو الأمس، وينجح متلصصو اليوم / ورثتهم الشخصيين، وهكذا لا تستطيع أن تحدّد منْ يتفرج على منْ : الذين يتحركون على الشاشة أم الذين يجلسون فوق المقاعد فى دور العرض وفى المنازل ؟

  ريادة ويلز

علينا الآن ، وقد شرحنا باستفاضة معنى صناعة فيلم عن السينما يكشف آلياتها وجوهر تأثيرها، أن نسجّل فضل الريادة للمخرج الفذّ أورسون ويلز فى فيلم المواطن كين، الذى عرض للمرة الأولى يوم 9 أبريل من العام 1941 فى مدينتى لوس أنجلوس ونيويورك.

إذا كان الإستخدام الناضج والخلاق لأدوات السينما صوتاً صورة يخطف أنظار كل من يشاهد هذا الفيلم حتى اليوم، فإن ذلك لا ينبغى أن يصرفنا عن فكرتنا المحورية للإجابة عن سؤالنا وهو: كيف نفهم المواطن كين كفيلم عن فن السينما؟

هناك عنصران أساسيان يركز عليهما السرد لتحويل الحكاية البسيطة (عدة صحفيين يبحثون عن معنى كلمة روزبد وهى أخر كلمات أسطون الصحافة تشارلز فوستر كين قبل وفاته) ، الى بناء بصرى مدهش يعيد اكتشاف السينما، وعلاقتها بالجمهور.

العنصر الأول الذى لعب عليه السرد هو السينما كوسيلة للإكتشاف والفضح والتشريح، المتفرج يذهب عموماً الى السينما لتوقعه أنه سيكتشف شيئأ ما، فى أفلام كثيرة تكون التفاصيل معرفة (أفلام مأخوذ عن هاملت مثلا)، ومع ذلك نذهب لاكتشاف نوع المعالجة الجديدة، أودرجة إتقان الممثل لشخصية هاملت الصعبة..الخ.

يستخدم ويلز، وشريكه فى كتابة السيناريو هيرمان مانكوفيتش، مندوبين عن الجمهور داخل الفيلم لتحقيق متعة الإكتشاف: المندوب الأول هو الكاميرا نفسها، والمندوب الثانى هو مجموعة الصحفيين الذين يبحثون فى تاريخ كين وخصوصاً الصحفى تومسون. يبدو لى الآن أن وجود مندوب أو أكثر للمتفرج داخل الفيلم، يحقق رغبة طفولية قديمة لنا عندما كنا نتمنى أن ندخل الى الشاشة، أو أن نبحث خلفها عن تلك الأطياف الملونة، وقد ظهرت أفلام أخرى تجعل المتفرج يدخل الى الشاشة بالفعل، أو أن تخرج شخصيات الفيلم لتنزل الى الجمهور، وتتفاعل معه.

اكتشف ويلز أن الكاميرا تستطيع أن تقوم وحدها بالإكتشاف بدون أى شخصية درامية كما فى الفيلم التسجيلى، وكما فى الجريدة السينمائية، ولذلك جعل لها الدور الأول فى اللعبة. ربما يكون حلم ويلز الأصلى أن يكون المواطن كين بأكمله جريدة سينمائية، يكتفى فيها بالتعليق من خارج المشهد كما حدث بالفعل فى بداية الفيلم، ولكنه اضطر أن يزج بهؤلاء الصحفيين الباحثين عن حقيقة ما.

ربما اختار ذلك لأن الفيلم نفسه عن عالم الصحافة وصناعة الأخبار والتأثير على الجمهور،وربما لأنه أراد إظهار سطحية العاملين فى هذه الصحف الشعبية (وكين على رأسهم)، حيث يتم تجنيد فريق كامل للكشف عما تعنيه كلمة روزبد، بعد عقد اجتماعات غامضة، تُسهم الإضاءة فى جعلها أقرب الى المؤامرة، أو الإعداد فى غرفة العمليات لمعركة حربية!

من الناحية البصرية، هناك تهميش متعمد لهؤلاء الباحثين عن روزبد، وعلى رأسهم الصحفى تومسون، فهم يظهرون غالباً بعيداً عن النور أو بنصف إضاءة وفى لقطات بعيدة، وفى مشاهد أخرى يظهر تومسون والكاميرا خلف ظهره، وفى مشهد ثالث يتم طرده من الملهى، والأهم من ذلك، أن كل هذا الحشد من الصحفيين لن يعرف أبداً معنى كلمة روزبد، فيستسلمون فى النهاية، ويغادرون قلعة زانادو، لكى يلحقوا بالقطار.

على العكس من ذلك، تتمتع الكاميرا بحرية كاملة ودور جوهرى، من اللقطة الأولى تعترض الكاميرا / المندوب لافتة (ممنوع المرور)، ولكنها تقفز فوقها لندخل معها الى قلعة زانادو، ثم تقتحم حجرة كين لتسجّل كلمته الأخيرة روزبد.

فى مشهد آخر هام، تستعرض الكاميرا سطح الملهى الذى تمتلكه سوزان، زوجة كين الثانية، تقترب بشدة حتى نتوهم أنها ستخترق السقف الزجاجى، ثم تمتزج اللقطة تدريجيا بلقطة من داخل الملهى للكاميرا وهى تهبط أمام سيدة الملهى المخمورة، هنا فقط يدخل الصحفى المهمّش الى الكادر بصحبة الخادم.

مثال آخر: عندما يغلق باب تاتشر فى وجه الكاميرا، تقوم بإذابة الباب (بأسلوب المزج أيضاً)، لتدخل، وندخل معها ، ثم تختلس النظر من وراء ظهر الصحفى تومسون على بعض المذكرات المكتوبة عن شخصية كين. هو يتلصص ونحن نتلصص عليه، وعلى  الجميع.

فى النهاية، فإن الكاميرا وحدها هى التى ستكتشف أن كلمة روزبد مكتوبة على زلاّجة خشبية مهملة كان يلعب بها كين فى طفولته، والكاميرا أيضا هى التى ستُرينا احتراق الكلمة / اللغز الى الأبد،  ثم تصاحبنا الكاميرا للخروج من زانادو، وكأنها تودّع الجمهور الى خارج قاعة العرض.

وعلى سور قلعة زانادو، يتعمد ويلز أن يكتب كلمة “the end” التقليدية، وكأنه ينبهنا الى انتهاء اللعبة السينمائية، لعبة البحث والإكتشاف، وهذا المعنى تؤكده كلمات تومسون الأخيرة التى يقول فيها:” روزبد ليست سوى قطعة من اللعبة.. مجرد قطعة مفقودة”.

ويستكمل ويلز اللعبة باستعراضه المبتكر لنجومها، أبطال الفيلم، مستعيناً فى ذلك ببعض اللقطات المهمة فى مشاهد ما بعد النهاية.

اليقين المراوغ

العنصر الثانى الذى يجعل من المواطن كين بالأساس فيلماً عن السينما وليس عن أى شئ آخرهو التركيز على فكرة اليقين المراوغ، وهذه الفكرة تدخل فى صميم طبيعة السينما كفن.

نحن نعرف أن السينما هى الفن الذى جعل تسجيل الحركة ممكناً، ولكننا نعرف أيضاً أن الصور الثابتة لا تتحرك فى ذاتها، ولكنها تسير متتابعة بسرعة معينة، فندركها متحركة، السينما خدعة بصرية تستمد اليقين من الجمهور نفسه، هناك إذن نوع من التعاقد غير المكتوب، والتواطؤ غير المعلن بين السينما وجمهورها.

ندخل الى قاعة العرض بزمن خاص، ورغبات متناقضة، ولكننا سرعان ما نضبط هذا الزمن مع زمن الفيلم، ومع أحلام أبطاله، بل إننا نستعذب هذا اليقين المراوغ الذى يأخذنا من الممكن الى الواقع، ومن الخيال الى الحقيقة وبالعكس.

المواطن كين يجسّد هذه التناقضات، يجعل من جمهور الفيلم شاهداً عليها، من  خلال تومسون والكاميرا، ثم نكتشف فى النهاية، ان هذا هو كل ما أمكن  الحصول عليه من سيرة تشارلز فوستر كين، وعلى الرغم من أننا سنعرف الشئ الذى كُتبت عليه كلمة روزبد، فإننا لن نعلم بالضبط معنى الكلمة بالنسبة الى بطلنا الراحل، ويترك لنا السيناريو لنا هامشاً واسعاً يجعل حكمنا على كين قابلاً لكل التفسيرات.

يكفى أن كل الشخصيات التى تشهد على كين ليست أقل إثارة للريبة وللإلتباس منه شخصياً، على سبيل المثال: هناك زوجة سابقة مخمورة ومحطمة، وصديق قديم مريض ومقيم  بالمستشفى، ويحلم بالحصول على سيجارة من الممرضة، وهناك خادم مرتزق مستعد لكشف معنى روزبد مقابل مائة دولار فقط .. الخ.

شهادة الشهود فى الفيلم تعادل شهادة كاتب السيناريو عن سلوك ابطاله فى الأفلام العادية، ويبقى الحكم للجمهور، فيلم ويلز قال ما يعرفه عن بطله، ولكنه لا يستطيع أن يقول كل شئ عن الإنسان، وكما يقول تومسون مستسلماً فى النهاية:” إن كلمة واحدة لا تستطيع أن تفسر حياة رجل”.

نستطيع أن نستكمل هذه العبارة من زاوية علاقة السينما بالجمهور فنقول:” .. وفيلماً واحداً لا يستطيع أن يفسّر حياة الإنسان .. هذا هو الغموض الذى يجعل المتفرج يخرج من فيلم الى فيلم بحثاً عن المزيد من الإكتشاف والتلصص”.

كل فيلم ، وليس المواطن كين، لديه روزبد الخاصة به. فيلم أورسون ويلز لا يسخر من السينما باعتبارها وسيلة فاشلة للوصول الى الحقيقة، ولكنه، على العكس من ذلك، يدعونا الى السينما لاكتشاف المزيد من الروزبد، البحث عسير ليس بسبب قصور السينما، ولكن بسبب غموض الإنسان.

التلصص على حياة كين يشبع فضولنا، ولكنه يفتح الباب لأسئلة أكثر جعلت الكاتب “بورخيس” يقول عن المواطن كين أنه عبارة عن “متاهة بلا مركز”.

أحسب أن نفس الوصف ينطبق على السينما وعلى الحياة نفسها، ولذلك لا نجد صعوبة كبيرة فى الدخول والخروج، من والى، شاشة السينما، وصالة الحياة والأحياء.

Visited 58 times, 1 visit(s) today