إثيوتوبيا الكائن والممكن في إفريقيا “الفهد الأسود”

أسال فيلم “الفهد الأسود” Black Panther(2018) مدادا كثيرا بسبب النجاح الذي حققه ولم يسبق أن حظي به أي فيلم بمواصفاته الإنتاجية. شكل هذا الفيلم مناسبة أخرى لإعادة طرح السؤال الإشكالي حول علاقة السينما بموضوعة التمثيلية، وماذا تربح هذه الأخيرة أو تخسر حين ترتبط بأقلية معينة وتكون مطالبة بالتعبير عن واقع وآفاق هذه الأقلية. في هذا السياق أتى فيلم الفهد الأسود بمعادلة جديدة تربك هذه القاعدة التي تحكم على سينما الأقليات بهامش المشاهدة الضيقة والمناسباتية كما كان وضع السينما الأمريكية من إنجاز المخرجين الأفارقة الأمريكيين.

يشكل هذا الفيلم تجربة جديدة ومتفردة في هذه السينما، حين يعيد طرح الأسئلة التي تؤرقها ويعالج المواضيع الكلاسيكية التي تدخل في أفق اهتمامها، كإشكال الهوية المرتبط بوضعية السود في المجتمع الأمريكي، وإرهاصات الماضي وتحديات الحاضر واستشرافات المستقبل. في صيغة تتقاطع فيها سينما هوليود الأكثر استهلاكا وتسويقا، مع السينما الإفريقية والعالمية، ومن خلال تصور ورؤية جديدين نابعين عن أرضية ثقافية متجذرة في الثقافة الأفروأمريكية والإفريقية، يضع فيلم الفهد الأسود بصمته في سينما السود الأمريكية والثقافة السينمائية عامة.

من خلال محاور يتداخل فيها الظرفي بالتاريخي، والواقعي بالطوباوي، والإجتماعي بالسينمائي نحاول، في أفق اجتهادنا، نحاول مقاربة فيلم “الفهد الأسود” لنعاين من خلاله بعض أوجه التجديد في هذه السينما التي لازالت تعاني الحيف في المقاربة الأكاديمية والنقد والتعليق، لكي لا نقول أن هذه المقاربات، وإن تحققت، تظل حصيرة جغرافية لغوية معينة. من عنوانه المفخخ “الفهد الأسود” الذي يحبل بدلالات سياسية صدامية في السياق السوسيوسياسي في الولايات المتحدة الأمريكية، إلى اختياره الأسلوبي في نمط إنتاجي كالكوميك الفيلمي الذي لازال لا يحمل محمل الجدّ في العديد من المقاربات السينمائية، إلى رهانه في البنية السردية على فضاء إفريقيا المشحون بالتدليلات التنميطية، ينفتح فيلم “الفهد الأسود” على آفاق استقرائية مهمة تفرض إعادة تقييم سينما السود الأمريكية، وطموح هذه المقاربة أن تكون عتبة نحو ذلك.   

استهلال: التباس لابد منه

ليس هناك من دليل قطعي يثبت أن الإسم الذي تبناه حزب “الفهد الأسود للدفاع عن النفس” الذي صار يُختزل لاحقا في عبارة “الفهد الأسود” له أية علاقة بفيلم الفهد الأسود للمخرج الأفروأمريكي الشاب، راين كوغلير Ryan Coogler، المزداد سنة 1986، أي عشرين سنة بعد تأسيس الحزب. ليس هناك من دليل يثبت أن مؤلِّفي الكوميك، الذي بنى عليه الفيلم حبكته، ستان لي  Stan Lee وجاك كوربي Jack Kirby، كانت لهما لقاءات مع هووي ب نيوتون Huey P Newton أو بابي سيل Bobby Sealeمؤسسا هذا الحزب. لكن ما هو أكيد ولا شك فيه أنهما لم يكونا بمعزل عن الأحداث الساخنة التي عرفها الشارع الأمريكي سنة 1966، السنة التي صدر فيها العدد الخامس عشر من سلسلة الأربعة الخارقين Fantastic Four والذي خرجت فيه للنّور شخصية البطل الخارق الفهد الأسود.

 ما هو أكيد كذلك هو أن كل مشروع سياسي يستند على أيديولوجية تحرّرية، من قبيل مشروع حزب الفهد الأسود، يحتاج بالضرورة لبطل يحمل أوصاف بطل الكوميك الخارق “الفهد الأسود”، تستمدّ الأجيال الجديدة من طاقته الأسطورية الخارقة قوّتها للإستمرار في مقاومة كل ألوان الغبن والإستبداد. مناداة ستوكلي كارلمايكل Stokely Carmichae، أحد زعماء الحزب، بفكرة حق السود في تقرير مصيرهم وجدت هي الأخرى معادلا مخياليا في كوميك ستان لي وكوربي عبر أفكار الملك تتشالا الذي حقّق لأمته الأسطورية في مملكة واكاندا Wakanda التقدم المطلوب من أجل ضمان الاستقلالية وتحقيق الاكتفاء الذاتي.

ما لا يقبل أي التباس وشك كذلك، هو أن عنوانا مفخخا كالفهد الأسود حتما يحبل بكل هذه التمثلات في واقع لا تختلف ملامح الماضي فيه عنها في الحاضر. فقد كان هذا الفيلم على موعد مع الجمهور بعد مرور سنة على وصول الرئيس دونالد ترامب لقبّة البيت الأبيض، والذي أعطى نجاحه الإنتخابي شرعية للخطاب اليميني المتطرف الذي صعَّد من لهجته ليمهّد لعودة هذه السلوكات العنصرية التمييزية التي لا زال السود الأمريكيين، وأكثر من أي أقلية أخرى، أول من يعاني من نتائجها الوخيمة ماديا ومعنويا. عنوان الفيلم حتما سيعيد للذاكرة الجماعية مشهد السبعينات، وحتما سيمدّ جيل “حياة السود محسوبة كذلك” Black Life Matters، بطاقة الأجداد “الخارقة” في التنظيم والتضحية ونكران الذات، والتي أنجزت الكثير، في ظرف زمني قصير جداّ كخمسين سنة، وصل فيها الأسود الأمريكي لقبّة البيت الأبيض، واخترق فيها عوالم الفضاء.

في الفهد الأسود الفيلم عاد كذلك الفهد الأسود الحزب إلى مصدر إلهامه في القارة الإفريقة، حيث مدّته تجارب التحرر والإنعتاق من الاستعمار الغربي بخلفية مرجعية اعتمدها في تصوّره ومنهجه.

خروج فيلم الفهد الأسود للقاعات في شهر فبراير، الشهر المكرّس في الولايات المتحدة الأمريكية للإحتفاء بالسود Black History Month، جعل فكرة ارتباط الأسود الأمريكي بالقارة الأم، المروّجة والمستهلكة في أدبيات الإحتفال بالشهر، تُشحن بطاقة جديدة. وهو ما عبّر عنه توافد الجمهور على دور العرض مرتدين أزياء تقليدية من القارة السمراء في طقس تقمّص الأدوار cosplay، والذي كان رهينا بمناسبات العرض الأول لأفلام هاري بوتر وحرب النجوم. تحوّلت مشاهدة الفيلم  إلى مناسبة للإحتفاء بإفريقيا وكل ما هو إفريقي في ثقافة الولايات المتحدة الأمريكية. بالتالي نجح الفيلم مبدئيا في تحقيق هذا التماهي المثالي الذي كان يدعو له حزب الفهد الأسود بين الإفريقي والأفروأمريكي (1).  من ناحية أخرى، ليست صدفة كذلك أن يجد الإفريقي في هذا الفيلم، الذي وضع إفريقيا في الواجهة والصّدراة، تنديدا صريحا وصارخا موجّها للرئيس الأمريكي، الذي وصف في إحدى تغريداته الكارثية 54 دولة من القارة بعبارة shitholeأي المكان القذر والوسخ والمقزز المنظر.

في كل هذه المعطيات حتما يجد الالتباس الذي يخلقه عنوان الفيلم كل مبرّراته وشرطا مهما في تحقيقه. بدون حزب الفهد الأسود قد يكون الفيلم مجرّد مغامرة أخرى ببطل خارق اسمه الفهد الأسود. ولكنّه أكثر من ذلك.

حكاية بين السياقات والاقتراحات

يستقي فيلم الفهد الأسود أهميته بكونه الحدث السينمائي الأوحد الذي فاجأتنا به هوليود منذ عقود من الركود المخيالي. ينطلق الحدث في هذا الفيلم من لقطة تأسيسة نسمع فيها حوارا يدور بين طفل وأبيه حول أمة واكندا الإفريقية المتطورة والمزدهرة، يلخّص تاريخ الأمة منذ وقوع النيزك الذي مدها بطاقة الفيبرانيوم إلى توحد القبائل وانفصالها عن حكم ملكها الفهد الأسود. في هذا الحوار ينطق كلا من الأب والإبن الإنجليزية بلكنة المهاجر الإفريقي الذي يقطن في الولايات المتحدة. كناية الصوت تتطعّم رمزيا بتقنية التلوين والإنارة التي وظفت في مشهد يدوّر مرئيا مضمون الحكاية، في شكل رسومات تتجسد من حفن الرمل السيّالة والمتحركة. يوحي إلينا تمفصل الصوت، بميزة اللكنة الإفريقية، والصورة، بقماشتها الرملية، بطريقة حكي متجذرة في إفريقيا، حيث يندمج الحكواتي في سرد تفاصيل قصته مستعينا بقضيب يخطّ به رسومات وأشكال هندسية على بقعة من الرمل أمام أنظار سامعيه. بالتالي، ومنذ عتبته الأولى يعلن فيلم الفهد الأسود عن هويته السردية بكونه حكاية إفريقية.

ينفتح المشهد بصريا على واقعية فضاء شقة داخل مجمع سكني لن يتيه المشاهد في تحديد هوية ساكنته ولا مستواهم الاجتماعي، ففي سينما هوليود تظهر المجمعات السكنية المعروفة باسم المقاطعة الثامنة Section 8، والتي تتوسطها ملاعب كرة السلة لتعني التجمع السكاني المشكل من السود، وتعني الفقر والإنحراف كذلك. يتموقع الحدث زمكانيا في مدينة أوكلاند بولاية كاليفورنيا، مسقط رأس المخرج، ومسرح أحداث فيلمه الأول “محطة فروتفيل” Fruitvale Station(2013). مدينة أوكلاند هي كذلك مقرّ تأسيس حزب الفهد الأسود. وفي هذه المدينة كان كذلك أول لقاء للمخرج، وهو طفل في عقده الأول، مع السينما من خلال الفيلم الملحمة مالكوم إيكس Malcom X(1992) للمخرج سبايك لي Spike Lee.

في هذه المتوالية الإفتتاحية، التي أضيفت للفيلم لاحقا بعد العرض الإختباري الأول، نحضر ميلاد حاضرة جديدة في عالم مارفيل السينمائي Marvel Cinematic Universeهي واكندا، المدينة الإفريقية الخيالية التي ستعوض أخيرا مدينة أسغارد  Asgardالتي ظلت منذ ظهور كوميك مارفيل في الكتب وفي السينما لاحقا، المسرح الرئيسي لمغامرات أبطاله الخارقين. يوجّه المخرج أنظار المشاهد نحو تنويعة جديدة من عالم مارفيل لم تكن لتدخل في أفق انتظاراته. عبر نوع لكنة النطق في الحوار، وفي الحيز المكاني الذي دار فيه نستبين الملامح الأولى لعالم مارفيل الجديد الذي يتوزّع في التضاريس الإفتراضية التي تمتد من إفريقيا الواقع إلى إفريقيا التيه African Diaspora.

في المتوالية التأسيسية للفيلم، تتداخل معطيات من طبيعة سردية تخيّلية بأخرى تاريخية وبيوغرافية بشكل كفيل بتوجيه مدمن مشاهدة السلسلة نحو عالم جديد ومختلف، خارج حدود الحواضر الغربية، وبلمسة جديدة لحبكة المغامرة التي عادة ما تنغلق في صراعات محدّدة الأطراف والمعالم. بطل مارفيل ووضعية السود في الولايات المتحدة الأمريكية، يشكلان، حتما مغامرة من نوع خاص. تداخل هذه المعطيات يقترح كذلك زاوية نظر مختلفة، من ضمن عدة زوايا نظر ممكنة، حين مقاربته كنص جديد في متن السلسة، يشدُّ كثيرا عن النصوص التي سبقته، والتي كانت جلها تدخل في نموذج نمطي تحكمه بنية متناسقة في العناصر والوظائف ويشتغل في سرديته فاعلون من طبيعة ومرجعية أورومركزية.

من خلال زاوية المقاربة هذه، نستطيع النظر لفيلم الفهد الأسود في نصية أوسع تربطه بالسياق المرجعي للحقل السوسيو- ثقافي لمجتمع السود في الولايات المتحدة الأمريكية. وهو ما يعني معاينته داخل إطار الرؤية الإبداعية والخط التصوري والإجرائي لسينما السود الأمريكية American Black Cinema، وبالتالي على ضوء الخطاب النظري الذي رافق هذه السينما بالدرس والتحليل، وراكم رؤية نظرية وممارسة نقدية تنحاز، في الأبعاد والمقاصد، عن الحيز التنظيري السينمائي الذي طغت عليه، ولعدة عقود، الرؤية الأورومركزية باشتقاقاتها في ما بعد المحيط (2).

كنتاج سينمائي أفرو- أمريكي، ينفتح فيلم الفهد الأسود على هامش إستقرائي أوسع، حين نتناوله على ضوء مفاهيم ترتبط بالخطاب الوصفي لسينما السود الأمريكية، كالمفهوم الأداتي المعروف باصطلاح Blaxploitation(black– أسود و exploitation– استغلال)، الذي يشرّح  ويفكّك إواليات التنميط وأوجه استغلال السود في الصورة السينمائية و كامتداد لذلك،  في كل مظاهر الصورة الوسائطية. وقد يسعفنا الوقوف على محطات تيّار فنّي مرتبط  بالثقافة الأفروأمريكية مثل موجة  الأفرومستقبلية Afrofuturism، في القرب أكثر من الحساسية الفنية والإبداعية التي يشتغل من خلالها المخرج راين كوغلير، وتساعد في فهم الإستراتيجية العامة وراء الإختيارات الشكلية والصيغية الأسلوبية للفيلم. مادة فيلم الفهد الأسود المضامينية المتمحورة في البنية الفضائية وفي الشخصيات الفاعلة في حيز أفريقيا، تشرعن له كذلك الحضور في نسق الخطاب الثقافي والجمالي المحيط بموضوعات إفريقيا عموما، أو السياق الإفريقوي الكوني، والذي يغنى بمفاهيم نظرية ونقدية كمفهوم الزنوجة Negritude الذي تطوّر مع الشاعرين، المرتينيكي إيمي سيزير Aime Cesaireوالسينغالي  ليوبولد سيدار سنغور Leopold Sedar Senghor.  في الفيلم يجد الإطار النقدي والنظري للزنوجة تعبيريته في سردية وسينماتوغرافية تحتفي بإنسان القارة الأفريقية ويبرز الملامح الجمالية لفضائها والأوجه الخفية لحضارتها، الكائنة والممكنة، والتي طمستها التجربة الكولونيالية. في هذه الخاصية يدخل فيلم الفهد الأسود، كرؤية وإجراء، في الأفق الإشعاعي المستقبلي لمشروع الحضور الإفريقي Présence Africaine الذي أطلقه أليون ديوب Alioune Diopمن باريس في خمسينات الألفية الماضية، والذي كان يجند التعبير الفني والأدبي في إبراز الأوجه الحضارية للقارة السمراء.

في تناقح هذه المرجعيات بما هو عام وخاص فيها، يتخصّب الحقل الدلالي والإيحالي لفيلم الفهد الأسود. وبالتالي يتجاوز هذا الفيلم هامش التقاطع، المقصود والمدروس والمستنبط، مع المتون الفيلمية، السابقة واللاحقة، لعالم مارفيل السينمائي، إلى آفاق الحوارية مع تجارب سينمائية أخرى، سواء في السياق المحلي كسينما السود الأمريكية، أو السياق العالمي كالسينما التي تنتمي لإفريقيا القارة أوإفريقيا التيه معا. كما يمكن رؤية إنجاز مخرجه الشاب راين كوغلير على ضوء تجربة أوسكار ميشو Oscar Micheaux أو جولي داش Julie Dash أو سبايك لي في الولايات المتحدة الأمريكية، نستطيع كذلك معاينته في أفق تجربة مخرجين أفارقة كالمالي سليمان سيسي Souleymane Cisse، أو من جذور إفريقية كالمخرجة الكوبية ساره غوميث Sara Gomez، أو الفرنسي جون كلود بارني Jean-Claude Barny .

عبر الفهد الأسود خرج مارفيل من محيطه الضيق للملكية التجارية السينمائية Film Production Franchise، والحكاية الفيلمية التي يرتبط لاحقها بسابقها، في صيغة محكمة البناء ومكتفية بذاتها، وفي غنى عن أي بصمة إخراجية، وارتقى لمصاف سينما المؤلف التي تحمل طرحا جدّيا ووجوديا كوضعية الأسود الإشكالية في السياق المحلي والكوني وتعتمد نصيّة تدخلها  في حوارية مع عيّنات سينمائية تعالج نفس الإشكالية، انطلاقا من تصوّر وهويّة مخرجيها ومرجعيتهم الخاصة.

مارفيل الأسود

تعميم وإشعاع وجهة نظر جديدة في طرح قديم كإشكالية وضعية السود، يعني كذلك الإستناد على الوسيلة الأكثر نجاحا في بلوغ هذه الغاية. في إطار السينما الأمريكية الحالية، هذه الوسيلة هي عالم مارفيل السينمائي.  

يرجع نجاح فيلم الفهد الأسود بالدرجة الأولى إلى نجاح كوميك مارفيل الفيلمي.  بعد أن قلصت نيتفليكس Netflix وأمازون  Amazonوهولو Huluحجم الشاشة السينمائية وحجم الجمهور المتردّد على دور العرض، بقي عالم مارفيل السينمائي المعقل الوحيد الذي تستمد منه هوليود صمودها وتحفظ به الوثيرة التصاعدية لإنتاجها الكمي والنوعي، أمام  تحديات الإنتاج والتوزيع التلفزي للدراما الكبرى.

 بدأ صعود هذا النمط الإنتاجي كردّ فعل على الإحباطات وخيبات الأمل التي سادت بعد أحداث 11 سبتمبر، حيث تمَّ استنساخ أشرار هذه الروايات المصورة في شكل فاعلين جدد كإرهابيين، وتمَّ تجنيد أبطالها الخارقين في مهمات عسكرية ذات طابع وطني. بنفس الوثيرة التصاعدية تطورت وصفة أفلام السلسة لتصبح منهلا مخياليا يروي تعطش الجمهور الأمريكي للمغامرة التي تنقله بشكل مؤقت من واقعه المتأزم اقتصاديا واجتماعيا، والذي يتّسم بعدم الإستقرار وانعدام الأمان، وغياب أي مؤشر على مستقبل مشرق. في ظل هذا الواقع الذي تنهدم فيه كل اليقينيات تجد كذلك الأسرة المحافظة في هذا النمط الفيلمي طقسها السينمائي المثالي خصوصا بعد ضجرها من انفتاح السينما ومعالجتها لمواضيع حساسة كأسلوب الحياة البديل والمثلية الجنسية وتطبيع استعمال المخدرات الخفيفة.

ضاعفت التكنولوجيا الرقمية من طاقة الكوميك الفيلمي في خلق هذه الإثارة في الحركة، وفي تشكيل التضاريس المخيالية الغرائبية، التي يبحث عنها مدمني سلسلة مارفيل قراءة وفرجة. أساسا لا يمكن فصل عملية الفرجة عن القراءة في حالة الكوميك، فالرسوم تتحرك “سينمائيا” في الشاشة الذهنية للقارئ. وهو ما يجعل عشاق السلسلة يتعاملون بمرونة مع التعديلات السينمائية الحرة، دون إعطاء أي أهمية لمدى إخلاص هذه الأخيرة للأصل. الوفاء الذي يبحث عنه هذا الجمهور لا علاقة له مع مسألة الأصل والنسخة، التي تطرح عادة في سياق علاقة الرواية بالسينما، أكثر مما هو مسألة وعد والتزام، بين مشاهد ينهي مشاهدة حلقة من السلسلة بعتبة تحضيرية لحلقة قادمة منها، ومخرج لا يمكنه إنهاء حلقة دون إثارة وتأجيج الرغبة لأخرى. في هذا الإعداد التشويقي أو ما يصطلح عليه بعبارة sequel-setting rage يحتفظ عالم مارفيل السينمائي بجمهوره ولدرجة مدّه بالبرمجة المسبّقة لتواريخ العرض الأول للسّنوات العشر القادمة.  

كل إنتاج لفيلم هوليوودي بهذه الوصفة هو رهان مفتوح على كل الاحتمالات إلا احتمال الفشل. وفعلا، لم يخيب المنتج المنفّذ لفيلم الفهد الأسود، الأفرو- أمريكي كذلك، نيث مورNate Moor   أمل المجلس الإداري لمؤسسة عالم مارفيل السينمائي حين حقق الفيلم في أسبوعه الأول رقما قياسيا في المداخيل تجاوز 235 مليون دولار. وهذه سابقة لم تعرفها هوليوود من قبل مع أي فيلم من هذه العينة الإنتاجية، ناهيك عن حبكة تدور حول محور سوسيو ثقافي للسود في أمريكا. لأول مرة في تاريخ هوليود يتحقق بلاكباستر بهذه المواصفات، أي بلون آخر غير اللّون الأبيض المعتاد، وصار المنتج نيث مور يحمل عن جدارة واستحقاق لقب الرجل الذي وضع مارفيل في العالم الأسود.

يبصم فيلم الفهد الأسود مكانته كحدث متفرد في تاريخ السينما في متاولية عتبته الإستهلالية. يتم عرض أبطال السلسلة في نسختهم السينمائية المحتكرة من نجوم بيض من قبيل رابرت داوني جونيور وسكارليت جوهانسون وكريس براث. تحضرنا هذه العتبة التوقيعية لإسم جديد هو شيدويك بوسمان، ولشيء مختلف تماما عما نعرفه عن الفهد الأسود في حلقة فيلمية سابقة هي كابتن أمريكا: الحرب الأهلية (2016) حيث ظهرت شخصية البطل لأول مرة. مثل أقرانه البيض كالرجل الحديدي والرجل العنكبوت، توكل لهذا البطل مهمة إنقاد الإنسانية من خطر محذق. في فيلم  تعتمد حبكته نفس القالب الحكائي لنمط الأبطال الخارقين والتي سكَّ التكرار نموذجها في أفق انتظار المشاهد، أي هذا الصراع بين قوى الخير والشّر، والذي تحرّكه رغبة الحفاظ أو استرجاع، عنصر ثمين  يرتبط مصير البشرية بإرادة من يمتلكه.

لكن ما يميز هذا الفيلم عن غيره من أفلام السلسلة هو اختراقه للحدود وعبوره للقارات انطلاقا من مركز ليس في واشنطن أو سياتل أو لندن، ولكن في مدينة واكندا الإفريقية التي تعيش ازدهارا حضاريا لا شبيه له، وبلغت قمة التطور التكنولوجي، باستثمارها الإنتاجي لمادة خام ثمينة ونادرة هي الفيبرانيوم. لحماية هذه الطاقة التي اكتشفت الإنسانية قوتها عبر ذرع كابتن أمريكا، طوّر الجهاز الأمني للمدينة أفضل طريقة لحمايتها وهي توريتها عن الأنظار وضرب حمائية تخوّل فقط لمواطنيها المشفّرين برقم سري موشوم خلف الشفة ولوج فضاءها. لكن كما علمنا التاريخ، وفي السّياق الجغرافي لإفريقيا بالذات، وجود طاقة ثمينة مثل طاقة الفيبرانيوم يعني بالضرورة وجود أكثر من طامع في الإستحواذ عليها، وكذلك وجود أكثر من طريقة في محاولة اختراق مكان مصدرها.

تكمن مهمة الفهد الأسود في الحرص على عدم وقوع هذه الطاقة في يد الإجرام، اليد الوحيدة المتبقية للعدو الخارجي كلاو (أندي سيركيس) صاحب الذراع المبتورة. في قيامه بهذه المهمة كان على ملك أمة واكندا “تتشالا” الفهد الأسود مواجهة عدو آخر مكتمل الهيأة، قوته تنبع من مشروعية تواجده في المدينة المحمية، كأحد أبناءها، وفي حق امتلاكه ما هو ملك لتتشالا أي تاج الحكم. إنه إريك كيلمونغر (مايكل ب جوردن) إبن أوكلاند بكليفورنيا، الذي يجد في الطاقة الثمينة فرصة لتصحيح ماضي استرقاق الأفارقة والإغتصاب الكولونيالي، وحاضر يحبل بكل أشكال التسلط ضد الأسود بداية بالتمييز العنصري ونهاية بغياب العدالة الاجتماعية والمساواة. لكن عوض مواجهة عنف بعنف مضاد وجد الملك تتشالا في قيم المصالحة والتسامح والشراكة خير وسيلة لتصحيح هذا الماضي. تتشالا بهذا الاختيار الذي كاد أن يدفع ثمنه بحياته وعرشه، أثبت أنه إبن قارة صدّرت للعالم نماذج التصالح مع الماضي العنيف عبر تجربتي جنوب إفريقيا ورواندا. طاقة الفيبرانيوم التي تغنى بها واكندا كما قد تكون  أليغورية أداتية لقلب المواقيع والتماهي بالمتسلط في تمثل إريك كيلمونغر Killmonger(داعية الموت)، هي في الأول والأخير، هذه القيم الإنسانية النبيلة التي ميزت الإنسان الإفريقي عبر العصور. مادة الفيبرانيوم كما هي وسيلة لقلب الموازين التاريخية بشكل دموي، هي كذلك وسيلة لتحقيق إشعاع حضاري عبر العالم، وإن كان هذا التصوّر لا يخلو من شوائب التبشير النيوليبرالي.  

طريقة تسخير طاقة الفيبرانيوم هي اساس الصراع بين بطل خارق وشرّير خارق يحمل مواصفات البطل المضاد. حبكة الفهد الأسود تعتمد الهيكل السردي البسيط والمستقطب بين عالم الخيّرين وعالم الأشرار. تتحرك الشخصيات الرئيسية في هذه الحبكة بدوافع يتداخل فيها الذاتي بالموضوعي، حيث نجد مهمة حماية واكندا تحمل في برنامجها رغبة الملك في التصالح مع أبيه، ورغبة عشيقته كذلك في تحقيق ذاتها كناشطة إنسانية مستقلّة تجند نفسها لمناصرة ضحايا القارة الجدد في واقع تعسفي جديد يمتدّ بين التطاحن العرقي والإرهاب والتّطرف. شخصيات الفيلم، ومثل أغلب أبطال مارفيل، يشكلون نماذج إغريقية نمطية في الصراع الأوديبي تتفعّل على المسرح الواقعي بكل التهديدات التي تسكنه من إرهاب وتسلح نووي واختراق مجال الآخر لاستغلال ثرواته المادية والرمزية. في هذه الحكاية لم يجهل الفيلم، بحكم حيزه الدرامي وجنسية بطله، مشاكل آنية مرتبطة بقارة إفريقيا كقضية اختطاف الفتياة النيجيريات من قبل الجماعة الإرهابية بوكوحرام، أو مشكل التجنيد العسكري للأطفال، إظافة إلى المواضيع النافلة المقترنة بأزمات القارة المزمنة كالفقر وعقبات التنمية.

وُّظِّفت في الفيلم كل أصناف الخدع البصرية الرقمية والسينماتوغرافية التي تدخل في شروط إنتاج واستهلاك كوميك مارفيل الفيلمي، وحقق بذلك هذه الوفرة في الفرجة، وبنفس التوازن المطلوب بين مقادير هذه المؤثرات وسيناريو متماسك تتجاور فيه الملحمات الإغريقية مع القصص الدينية، وتتداخل فيه عموميات الأبعاد السياسية الإستراتيجية مع خصوصيات الرواسب السوسيوثقافية لشخصياته.

يجد مشاهد الفهد الأسود كل ما يدخل في أفق انتظاره كقارئ لأعداد السلسلة أو كعضو في نادي جمهورها السينمائي المتزايد في العدد، والمتنوّع في الشريحة العمرية. لكن من خلال هذه الحكاية المستأنسة والخطية يفصح الفيلم عن طرحه المعقّد ومعالجته المربكة لتيمة إشكالية كموضوعة هوية السود وموقعهم الرمزي في السياق السوسيوثقافي المحلي والكوني. إشكال هوية الأسود في هذا الفيلم تمّ طرحه بكل التمثلات الثقافية التي يحملها  وبمختلف التصورات والمرجعيات لأوجه هذه التمثلات، بما فيها التي ترتبط جدليا بالتعبيرية السينماتوغرافية والسردية العامة للسينما. في هذه النقطة كان الفهد الأسود يحمل على عاتقه أثقل مما يمكن أن يحمله أو يتحمّله أي بطل خارق من عالم مارفيل. إنه سؤال الهويّة الذي يؤرق المخرج الأمريكي الأسود. سؤال تناوله راين كوغلير على هامش وضعية الأفروأمريكي الآنية، وعالجه في نسق سينمائي جديد، وبشكل يخلص لإقتراح صيغة جديدة لتمثل هذه الهوية. وهو ما يجعل سؤال الهوية يتجاوز عوالم شخصيات القصة الفيلمية كما تبدوا وفيما تقول، إلى عوالم السينما نفسها أي في كيفية جعل هذه الشخصيات تبدوا كما تبدوا وتقول ما تقول.

هوية الأفرو- أمريكي في مسرح الصراع بين البطل والبطل المضاد

سؤال الهوية يحضر بقوة في فيلم الفهد الأسود كما يحضر في الفيلمين السابقين للمخرج الشاب محطة فروتفيل وكريد Creed(2015). ماذا يعني أن تكون أسودا في الولايات المتحدة الأمريكية؟ وبالطبع هذا السؤال لا ينحصر في الأفق الضيق لمستوى وعي شقي ناتج عن لون البشرة. شخصيات هذا المخرج، ومن خلال فيلموغرافية مقتضبة كهذه، اكتسبت ما يميّزها عن شخصيات السود الأخرى في السينما في كونها لا تحكي عن واقعها من خلال القالب المستهلك لجماليات الضحية victim esthetic، ولكن تتجاوز ذلك لتستفز المشاهد أيا كان وبما يكفي ليشعر بمسؤوليته في هذا الواقع المتوعِّك. يطرح راين كوغلير سؤال الهوية بعيدا عن الصيغة الكلاسيكية لكيفية نظر الأسود الأمريكي لنفسه ليعالج كذلك كيف ينظر المجتمع الأبيض لسوده. في الفيلمين السابقين تأطر سؤال الهوية بسياقه الظرفي والتاريخي لأحداث العنف التي تعرض لها السود على يد قوات الأمن الأمريكية، ليكون مرافعة أخرى في حق الأفروأمريكي في مواطنة كاملة لا تشوبها النواقص المفروضة عليه بحكم لون البشرة والوسط الإجتماعي. في فيلم الفهد الأسود يُعيد المخرج طرح سؤال الهوية ولكن في بعده الكوني ليشمل هذا الأسود العابر للجغرافيات، ويتجاوز الآني والظرفي إلى تبصر مستقبلي يستشرف صيغة جديدة لحضور هذا الكائن تتجاوز الواقعي بأزماته والتاريخي بعنفه الموروث.

من داخل وصفة الملامح السيكولوجية لأبطال سلسلة المنتقمون The Avengers التي ينتمي لها الفهد الأسود، نجد هذا الأخير هو الآخر يتحرك بدافع التصالح مع ماضيه ونفسه الدافع الذي يحرّك بطل الفيلم المضاد إريك كيلمونغر. لكن هذه الرغبة المحركة تتجاوز بكثير مهمة العثور على قاتل أبيه التي أوكلت للبطل في حلقة كابتن أمريكا: الحرب الأهلية حيث تعرفنا على الفهد الأسود لأول مرة، وتعدتها إلى خلق حيز للتصالح مع هذا الأب ومنح هذا الأخير فرصة تفسير أخطاءه كذلك. هذا التصالح المزدوج مع الماضي يشترط أولا مواجهة النتائج التي نجمت عن أخطاء الأب وساهمت في خلق الشروط السلبية التي كوّنت شخصية البطل المضاد إريك كيلمونغر.

إشكال الهوية في الفهد الأسود يتجاوز ثنائية الصراع الكلاسيكية المحددة الطّرفين ليأخذ طابعا أكثر رمزية في شكل صراع داخلي يدور في المسرح الذهني لنفس الذات. إنها ذات الأفروأمريكي نفسه. هذا الصراع أخذ تعبيريته القوية في الفيلم عبر شخصيتي البطل والبطل المضاد واللذان يمكن رؤيتهما كوجهين مستقطبين لنفس الذات. كلاهما يتمتّع بنفس الصفات ونفس المؤهلات، ونفس الدم الملكي، ونفس اللقب “الفهد الأسود” المكتسب كنتيجة لهذه الشروط. يمكن أن نجد في التركيب المزجي لعبارة الأفروأمريكي تعبيرا أليغوريا على الخاصية الذاتية لهذا الصراع بكونه يدور بين الذات الإفريقية، تتشالا، والذات الأمريكية، إريك كليمونغر ويستمد شحنته في اللقاء الأبوي الذي يدور في المسرح الذهني لكليهما.  

هوية الأفروأمريكي تتحدد بهذه الفروقات التي تتميز بها هوية تتشالا عن هوية كيلمونغر. في الوقت الذي يحمل فيه الملك الإفريقي إسمه الخاص بكل وعي، ويعرف من هو جيدا تتمزّق هوية ندّه الأمريكي في عدة أسامي: فهو إريك ستيفنسون، إريك كيلمونغر، ونجاداكا. في إسم إريك الأنغلوسكسوني، تستمر وصمة تاريخ الرق، لأنه إسم من ملك الرجل الأبيض، وفي كيلمونغر “داعية الموت” لا نجد إسما وإنما مجرّد وظيفة تعبّر على أقصى درجات إلغاء الهوية عبر التماهي مع هوية المتسلط التاريخي نفسه. في كلا الإسمين هناك صورة مشوهة عن الذات، فقط في فضاء القارة يسترجع إريك إسمه الأصلي نجاداكا. في كل هذه الأسامي تغيب الذات وتحضر هوية مركبة حسب شروط الظرفية التاريخية والواقعية.

يحضر تتشالا منسجما مع محيطه، ويستمد فكرة واضحة عن ذاته وكيانه من هذا المحيط. عكس كيلمونغر الذي نشأ في محيطات ترفضه وتفصله عن تاريخه، حيث لا يجد إلا إشارات مفكّكة لا تحدّد ذاته بقدر ما تلوّح بفكرة سطحية عنها. هوية تتشالا تتحدد كذلك إيجابيا من خلال علاقته مع الفاعلين في محيطه الخاص، حيث يحظى تتويجه بمباركة ممثلين من القبائل الإفريقية، ويربح أخيرا صداقة ملك قبيلة الجباري، الذي أشرف على معالجته. في الوقت ذاته نجد هوية كيلمونغر تتشكّل سلبيا إما في أبعاد صراعه مع الآخر الأبيض، أو في مظاهر التماهي معه ليصبح متسلّطا مضادا يحاول تصحيح الماضي بنفس لغة العنف التي مورست عليه.

في مواجهة الفهد الأسود البطل والفهد الأسود البطل المضاد يقف كلاهما على حقيقة مسؤولية الأول في وضع الثاني. يواجه تتشالا أباه الملك تتشاكا بمسؤوليته في تكوين شخصية كيلمونغر لأن هذا الأخير كان نتاجا حتميا لفكّ الإرتباط الدموي بين الأب الملك وأخيه الذي كان متواجدا في أوكلاند، والذي يمكن حمله أليغوريا على فك الترابط بين الإفريقي والأفروأمريكي. صراع تتشالا  وكيلمونغر يستند على نفس الأرضية الموضوعية لإستراتيجية تصخير مادة الفيبرانيوم التي تستند عليها سببية الصراع بين الأب والعم نفسه. في الخلفية الديكورية لشقة العم في أوكلاند، نجد على الجدران ملصقات تحفيزية مرتبطة ببروبغاندا حزب الفهد الأسود، ما يمكن أن نستنتج منه أن الشرط المكاني والظرف التاريخي يملي حتمية الإختيار الإستراتيجي التي تبنّاه الإبن نفسه لاحقا. الصراع بتفرعاته في العناصر الفاعلة الأربعة يستمد سببه من هدف كسب الخصوصية الإفريقية المدورة مجازيا في مادة الفيبرانيوم، ويتفعّل في التضارب بين طريقة توظيف هذه الخصوصية\المادة في إطار تاريخي أو في بعد طوباوي مستقبلي.

تأخذ قرابة البطلين طابعا تراجيديا قدسيا يستلزم التضحية وإلغاء أحدهما للآخر. طبعا يتركنا الفيلم في حالة تساؤل عن وضع كيلمونغر بعد أن هزمه تتشالا حين عبّر عن رفض لفرصة العلاج المحقق التي منحت له، وأصرَّ على موت إستشهادي يخدم قضيته، باقتراح رمي جثته في وسط المحيط كما كان يفعل الأفارقة المأسورين في مرحلة الممر الأوسط middle passage، بين غرب أفريقيا وجزر الكاريبي، كتعبير عن رفض واقع العبودية الذي ينتظرهم في الضفة الأخرى من البحر. في الجدلية بين الخيارين نقف على نوع العلاقة الجديدة التي يقترحها المخرج بين الذات والآخر، بين إفريقي الوطن الأم وإفريقي التيه والتي ليست إلا وجه آخر لتصالح الذات مع نفسها. هذا التصالح مع الذات يأخذ طابعا استشرافيا في ذهاب تتشالا لأوكلاند لاقتراح فضاء آخر يلغي فضاء الصراع ويعوضه بحيز تتحقق فيه المشاريع الإنسانية وتتنفذ فيه الخطط التربوية التي تساعد الأسود الأمريكي على الإنعتاق واقعه السلبي. جدلية الصراع بين البطل والبطل المضاد تقود نحو التحول عوض الإلغاء. الفضاء الذي يشكّل نقطة انطلاق الأول هو نفسه الذي يشكّل نقطة نهاية الثاني والعكس بالعكس. يموت إريك كيلمونغر باسمه الإفريقي نجاداكا وعلى أرض إفريقيا، في الوقت الذي ينتهي فيه تتشالا كإفريقي أمريكي حين تواجده في مدينة أوكلاند.

تلعب السردية، خصوصا في بعدها الفولكلوري الإفريقي، دورا مهما في بناء الذات وتحديد الهوية. في بداية الفيلم، كما أشرنا أعلاه، كان الأب يروي تاريخه الخاص عبر تاريخ  وطنه مملكة واكندا، غناها بطاقة الفيبرانيوم وكل ما جعلها  تحصّل تقدما تكنولوجيا يجعلها مطمعا للأجنبي. في العناصر المركبّة لهذه السردية نجد كذلك المركبات الرئيسية لشخصية تتشالا. على العكس من ذلك يفتقد إريك كيلمونغر لسردية عامة تتبلور من خلالها المعطيات المركبة لهويته وتربط حاضره بماضيه. في الوقت الذي يمتلك فيه تتشالا حكاية عن نفسه لا يملك إريك إلا استعارات إحالية لا تعطي فكرة عن تاريخه بقدر ما تمنح صورة عن التشوهات التي تعرض لها هذا التاريخ. استعارات لا تمنح فكرة عن الأرض الأم، بقدر ما تزيد وتكثّف الشعور بالتّيه.

تواجد إريك كيلمونغر في رواق مقتنيات غرب إفريقيا داخل المتحف البريطاني يمكن أن يمنح نفسه كإليغورية تعبّر عن واقع الأفروأمريكي وصيغة ارتباطه بتاريخه الإفريقي. تستدعي هذه اللقطة للذاكرة عملا سينمائيا يتقاطع مع فيلم  الفهد الأسود في معالجته صورة الحضارة الإفريقية وواقع التيه الإفريقي، كفيلم  التماثيل تموت كذلك Les Statues Meurent Aussi الذي أخرجه الفرنسي  كريس ماركر Chris Marker بمعية المخرج ألان روني Alain Resnais سنة 1953. بغض النظر عن صور تماثيل الفهود والشخصيات الملكية التي تقترح فيلم ماركر كخلفية تناصية ومجالا للتقاطع مع فيلم راين كوغلير، نجد  في النص الأدبي المصاحب للفيلم تعاليق بإمكانها تدوير صور الفهد الأسود ومنحها هذا البعد الإشكالي في سياق موضوعة هوية الأسود في بعدها المحلي والكوني. في التعليق الذي يذكرنا فيه كريس ماركير أن الأقنعة والتماثيل الإفريقية مواضيع تشاهد في الغرب ولكن “تُحس” و”تُشعر” في موطنها الأصلي نجد مرجعية تناصية لجملة إريك كيلمونغر الحوارية حين يجيب عن استفسار كلاو لتأمله قناعا إفريقيا داخل الصندوق الزجاجي بأنه “يحسّه” فقط.

في حيّز التقاطع بين فيلم ماركر والفهد الأسود من خلال مشهد المتحف، تذكرنا كذلك وضعية الزائرة السمراء، المنحدرة هي الأخرى من جذور إفريقية، داخل متحف الإنسان بباريس، وهي واقفة أمام واجهة تعرض التماثيل وبعض الأدوات من إفريقيا ماقبل الكولونيالية، بوضعية إريك ستيفنسون، المقابلة داخل نفس الجناح بالمتحف البريطاني.  بشعره المجدل على الطريقة الرستفارية، ولباسه المؤشر على موضة الرفض لأي نموذج إجتماعي تمليه المؤسسة، والذي يفضح خلفيته الذهنية الثورية، ويضعه في نفس الآن محط شك وريبة تجعل حراس المتحف يحيطونه من الجهات الأربع تتحوّل الشخصية إلى هذا الفاعل السينمائي الذي يمكن أن يأخذ فيه تعليق كريس مراكر الأدبي شكله التشخيصي المسرحي. في المشهد يتأمل إريك ستيفنسون بعض التماثيل والأقنعة وبعض الأسلحة الإفريقية البدائية وينخرط مع خبيرة في المتحف في حوار عن التواريخ والأزمنة التي تنتمي لها هذه المقتنيات. يستفسرها كذلك في أمر يعرف ويعي الجواب عنه مسبقا وهو سبب تواجد هذه المقتنيات بعيدة عن وطنها الأم. يذكر المشرفة الخبيرة بدورها في تحسين وتجميل الإرث الكلونيالي وتجريده من عنفه الأصلي عبر عرض الأشياء الجميلة التي استحوذ عليها في إفريقيا وبدون مقابل. تحولت نظرة إريك كيلمونغر إلى إدانة حولت بدورها خبيرة الأثار الأروبية إلى مجرمة تاريخية. فلفرنسا كما لإنجلترا ماض كولونيالي وجد أحد منافده التنفيسية في هذا الإهتمام المتزايد بدراسة “موضوع” تعسفه. في الأنثروبولوجيا، او كما لا يتردد الكثير في نعتها، كهذا المبحث الأكاديمي التطهيري من ذنب الماضي، أي Anthro-apology (الإعتذار للإنسان).

في متوالية المتحف يحضر إريك كيلمونغر كهذه القرينة التي أعطت لوجه الماضي الكولونيالي التعسفي ملامحه الجديدة في الحاضر العنصري التنميطي بما فيه وجهه الأكاديمي كذلك. حضوره في المتحف يمكن أن نقاربه كمحاولة رمزية لترميم هويته بين فراغات هذا الماضي وتأويلات هذا الحاضر.   

إشكال الهوية في فيلم أفروأمريكي يستدعي بالضرورة حضور هذا الفاعل المهم الذي ساهم مباشرة في تشكيلها وهو الرجل الأبيض. في فيلم الفهد الأسود يحضر الرجل الأبيض من داخل الهوية الرمزية التي يحملها في الذاكرة الكولونيالية المرتبطة بتاريخ القارة الإفريقية. الأبيض هو مجرد “المعمّر” كما تناديه أميرة واكندا شوري (لتيتيا رايت). في شخصية كلاو تختزل كل التمثلات السلبية للرجل الأبيض في الذاكرة الجماعية الإفريقية والإفريقاوية، فهو نموذج الإغتصاب الكلونيالي السادي الذي يجند كل الوسائل للوصول إلى هدفه. في الوقت نفسه، يقترح المخرج عبر شخصية إفريت روس (ماراتن فريمان)، رجل مكتب الإستخبارات الأمريكية، إمكانية للتصالح بين الماضي الكولونيالي للقارة وحاضر اشراقي تنبني فيه العلاقات على الشراكة عوض الإستغلال.

شخصية إفريت روس في الفيلم ليست هي نفسها التي تعرّفنا عليها في كابتن أمريكا: الحرب الأهلية. تتمثل في إفريت روس هوية الرجل الأبيض ببعدها الرمزي المرتبط تاريخيا بالعنف الكولونيالي وحاضرا بالبعد النيوكولونيالي بحكم وظيفته كرجل الإستخبارات المركزية الأمريكية. في المختبر العيادي داخل المدينة السرية، يتمُّ إنقاد إفريت روس بعد تعرضه لرصاصة أصابته في مقتل. عبر هذه العملية تحصل ولادة جديدة لرجل الإستخبارات الأبيض، يصحّح فيها نظرته التنميطية لما هو إفريقي، ويفهم أن علاجه تحقق بفضل التقدم التكنولوجي وليس بالسحر. في عملية إعادة بناء الذات هذه وتبنّي رؤية جديدة، يصبح الأبيض الذي درَّب إريك وحوّله إلى داعية الموت، هو الفاعل نفسه الذي سيساعد واكندا في التخلص منه.

يقحم المخرج الرجل الأبيض بدافع مسؤوليته على الوضع التعسفي الراهن الذي يعيشه الأفروأمريكي، مطالبا إياه بدور أكثر إيجابية في تصحيح هذا الوضع يتجاوز الإدانة والتعاطف. لكن فيلما يرتقي بعنصر الزنوجية إلى مستوى الطوباوية في أبهى صورها، ويقترح على السود، ليس فقط في أمريكا، بل في كلِّ أنحاء العالم شخصانية جديدة ووعي ذاتي مصفَّى من رواسب التاريخ السلبية، سيحمل دور رجل السي آي إي الأبيض، رغم نواياه ونوايا المخرج التصالحية الحسنة، شحنة من السلبية لا تنقصها مصداقية في الواقع التجريبي العيني. هنا يلح السؤال على نفسه: هل كان وجود هذه الشخصية ضروريا في أحداث القصة الفيلمية، وهل يشفع وجودها في حلقة سابقة من السلسلة حضورها في حلقة الفهد الأسود، أم هو مجرد إوالية لحماية الفيلم من تهمة العنصرية؟

عبر تاريخ هوليود الماضي والآني أنيطت أدوار كثيرة بممثلين سود انطلاقا من دافع التخلص من تهمة التمييز العنصري والإقصاء التي تلحق بالمخرج الأبيض ( ولازالت تسم وودي آلان أكثر من أي مخرج آخر). مثل دور إفريت روس في الفهد الأسود، ظهر الأسود في عدة أفلام كرئيس للمكتب الفيدرالي إيف بي آي، وخبير تقني، بذكاء لافت للنظر، لا يمكن الإستغناء عنه في المجال التكنولوجي المرتبط بالأمن القومي. وهي أدوار لا تشفع أهميتها، أو حقيقة تواجدها في المرجع الواقعي للفيلم، لطبيعتها الثانوية جدا داخل حبكة فيلمية محورها الرجل الأبيض.

أمام الحضور الإشكالي للرجل الأبيض في سياق موضوعة الهوية، تحضر المرأة في فيلم الفهد الأسود كفاعل إيجابي وعضوي يرسم الملامح الصّحيحة لشخصية الرجل. حين تحضر المرأة في شكل تسخير وظيفي منمط في دائرة إريك كيلمونغر، في شكل عشيقة مسخرة في الإجرام والخدمة الجنسية، وتغيب كأم،  تحيط المرأة بالملك تتشالا كأم وكأخت وكقائدة عسكرية، وفي لحمة أسرية تمدّه بالدفء والحكمة والخبرة التي تساعده في القيام بوظيفته على أكمل وجه. في مواجهته مع ملك قبيلة الجباري تكون الأم هي من يمده بالقوة التي سيحسم بها الصراع لصالحه حين تبرز له هويته الجديدة كملك وفهد أسود وتلغي هويته القديمة كأمير.

في معالجته للشخصيات النسوية حضرت المرأة الإفريقية في الفيلم من داخل مميزاتها الجمالية الخاصة الخارجة عن المعيارية الأرومركزية. بجانب جمالها تتمتع المرأة الإفريقية في الفيلم بإرادة قوية وباستقلالية مطلقة كما نلمس في شخصية نيكيا (لوبيتا نيوغو). في علاقتها بالرجل التي تتسم بالاحترام والتقدير بعيدا عن كل سلطة ذكورية، تقدّم هذه المرأة وظيفتها الرئيسية وتلتزم بقضيتها دون أن تجد في الارتباط العاطفي معيقا لذلك. وهو ما ينسحب على شخصية نيكيا التي لم يغرها صعود عشيقها الملك تتشالا في سلم السلطة للتنازل عن التزامها بحماية المقهورين في القارة، وينطبق كذلك على قائدة الحرس الملكي دورا ميلاجي أوكويي (دناي غوريرا) التي كانت مستعدة للتضحية بعشيقها لو استمر في محاربة الملك تتشالا. تبدو الشخصيات النسوية في الفيلم عبارة عن تجسيد أيقونوغرافي لهذه المرأة التي يحتفي بها الشاعر السينغالي ليوبول سيدار سنغور في قصيدته الشهيرة “المرأة السوداء”، وبالتالي تصير هذا التعبير السينماتوغرافي والفوتوغرافي الذي ينسجم مع مفهوم “الزنوجة” بتداعياته المثالية داخل السياق المحلي والكوني.  

في تصويره للمرأة تجنب المخرج هذه الإستعارات الجنسية  التي ظلت لصيقة بشخصيتها وكانت تؤخذ كثيرا على سينما السود الأمريكية. لم تحضر المرأة على مستوى الجسد أو كعنصر رهن إشارة النظرة الذكورية. بل كانت تنوط بأدوار تجد مرجعيتها في تاريخ القارة المعروفة بالمجتمعات الأميسية التي جسدت في المرأة الحاكمة من قبيلة التجار، أو في المحاربات اللائي عرفن عبر التاريخ بأمزونيات داهومي والتي بنى عليهن الفيلم شخصيات حرس دورا ميلاجي الملكي.         

واكندا: “ميلاد أمة” جديدة في سينما جديدة

تكسب إشكالية الهوية في الثقافة الأفروأمركية طابعها المركب والجدلي في هذا التداخل بين الصورة التي يملكها الأسود الأمريكي عن نفسه والصورة التي يحملها في الواقع ويتمثله بها الآخر، أي صورة الأسود في ثقافته الخاصة وصورته المضادة في ثقافة الرجل الأبيض المهيمنة. فرغم المرونة التي يعرفها المجتمع الأمريكي وهذه الدرجة المتقدمة من التعايش بين جنسياته وأعراقه، لازال الأسود في الولايات المتحدة، وبدرجات متفاوتة، مجرّد صورة عن الأسود رسمها المخيال الأبيض الأمريكي في الأدب والثقافة الجماهيرية، استندت على الاستعارات السلبية للون الأسود وولّدت أوجه جديدة لهذه الإستعارات. هذه الأوجه سرعان ما وجدت طريقها إلى السينما – هذا الفن الذي لا تخدم التكنولوجية البصرية التي يعتمدها خصوصية الإنسان الأسود قط، كما سبق وأشار في أكثر من مناسبة المخرج سبايك لي – لتنتج بدورها جملة من التنميطات ظلت لصيقة بشخصية وشخص الأسود. هذه التنميطات وجدت رحمها الأول في فيلم ميلاد أمة The Birth of a Nation(1915) للمخرج والمنتج دفيد وورك غرفيث.

كنتيجة لهذا اقترن السؤال حول هوية الأسود بالسؤال حول طبيعة حضوره في السينما الأمريكية وصيغة تفعيل خطاب سينمائي يعيد طرح هذا السؤال من وجهة نظر الأسود نفسه، أي من داخل إطار السينما الأفروامريكية.  

كون راين كوغلير مواطنا أمريكيا من أصول إفريقية يجعل منه مخرجا سينمائيا “أسودا” Black filmmaker. نعت الأسود المرتبط بالهوية العرقية، يخترق كذلك مجال الهوية الفنية بالنسبة للأفروأمريكي، هذا في الوقت الذي لا يحتاج فيه وودي ألان، أو ويس أندرسون أي نعت يحيل على هويتهما العرقية، ولا يُعرَّف فيه مارتن سكورسيزي كمخرج “أبيض”. فنعت الأسود تمييزي بالمفهوم العنصري لأنه يموقع مواطنا أمريكيا كالأسود الأمريكي في وضعية الأقلية، ويحصر عمله الإبداعي في الخانة الثانوية لكل ما يرتبط في الثقافة الأنغلوأمريكية بإشكالية التمثيلية Representation. إسقاط  نعت “الأبيض” عن المخرج الأمريكي من أصول أوروبية يترك له، مباشرة، صلاحية احتكار نعت “الأمريكي” المشحون كذلك بالإختزال العنصري نفسه الذي نجده في تسمية “أمريكا” المسلوبة من كافة القارة لتحتكرها الولايات المتحدة الأمريكية وحدها. هذا التّمييز يرفع المخرج الأسود لمستوى الأقلية المرئية visible minorityوالتي لا ترتقي إلا في شرط ما هو ثانوي وإضافي أمام شرط الرسمي والمركزي الخاص بالأبيض. صلاحية احتكار الأبيض لنعت الأمريكي تعني كذلك في لغة الإنتاج السينمائي، والهوليودي خاصة، هذه الإمكانيات اللامحدودة في فرص الإبداع، والإستفادة الشاملة من قنوات التموييل ودعم الإنتاج  السينمائي، ناهيك عن ضمان توزيع شامل وسوق إستهلاكية كبرى.

في التسطير الوصفي لنعت “الأسود” تكمن كذلك أول مظاهر التحديات التي تواجه المخرج الأفروأمريكي، والتي تبدأ بعقبات التمويل وتنتهي بضيق مساحة العرض، مرورا بوصمة التمثيلية الحتمية التي يحاكم على ضوءها كل فيلم أفروأمريكي بناء على القيمة الإضافية التي يقدّمها في الطرح الإشكالي الذي يتناول وضعية وثقافة السود في الولايات المتحدة، بغض النظر عن نوايا ومقاصد المخرج نفسه.   

كل مخرج أمريكي من أصول إفريقية يشتغل، انطلاقا من درجة ثقل الوعي لتجربتين تارخيتين، الأولى تنتمي لتاريخ الإنسانية وهي ما يزيد عن ثلاث مائة سنة من الرق؛ والثانية تقترن بتاريخ السينما  وتكمن في قرن من الزمن شكلّت فيه السينما الروائية، وراكمت، صورة نمطية عن الأسود الأمريكي كفرد وكمجتمع. منذ ظهور فيلم ميلاد أمة والأبيض في السينما يحتلُّ حيّز المركز تاركا للأسود هامش الحضور بجانبه وفقط من داخل الشروط التي تبرز تفوقه الرمزي وسيادته الواقعية. في هذا الفيلم أطل الأسود من الشاشة بهذه الصورة المستقطبة التي تختزل فيه كل معاني الخطر من جهة، وكل أشكال الوداعة ونكران الذات من جهة ثانية. فهو إن لم يكن المجرم الحاقد والمغتصب، كان هذا العبد الطيِّع والمخلص لسيده الأبيض، أو هذا الفرد الوديع المتميز بنكران الذات.  فضاء الأسود الأول بامتياز هو الفضاء الداخلي للمطبخ حيث يحضر الوجبات الشهية لسيده القديم والجديد، أو خشبة العرض حيث يمتعه بالطرب والرقص؛ وحين يتواجد في الفضاء الخارجي، يلعب دوره النموذجي كهذا الكائن المتوحش الذي يوقض بشكله كل المخاوف الأسطورية المرتبطة باللون الأسود، ويُعتبر تهديدا لأمن ونظام المجتمع يستوجب إقصاءه، أو السّيطرة عليه وترويضه كما يُروّض أي حيوان جامح.

في هذا السياق، تحفظ الذاكرة السينمائية فيلم ميلاد أمة كهذا السجل التمنيطي الذي حدّد وظيفة الأسود في السينما. هذا الفيلم تحفظه هذه الذاكرة كذلك كنقطة بداية السينما الروائية حين اعتمدت سرديته النسق الثلاثي للرواية الواقعية الديكينسية. انطلاقا من هذا الفيلم ترسخت فكرة السينما الروائية كتمثل اختزالي للسينما عامة، ليترسخ معها كذلك الدور المحوري للرجل الأبيض وبناء نظرة للكون انطلاقا من مركزية هذا الأخير. في عوالم هذا الكون السينمائية، لم تكن هناك حكاية عن السود فيها الحب والكراهية، يتمتّعون فيها بما هو خاص بهم وما هو عام بخصوصهم، بدون الإطار المرجعي لعالم الرجل الأبيض. حضور السود في أدوار جانبية ومنمطة بهذا الشكل يعني إختفاءهم عن الأنظار. تحضر ملامح عنهم ويغيب وجههم إذا أسعفتنا فلسفة إيمانويل ليفيناس في هذا السياق.

غياب الأسود كفاعل إيجابي في الشاشة يعني كذلك غيابه كمواطن مكتمل الهوية في الولايات المتحدة التي صنعها المخيال الهوليودي. من هذا المنطلق ظلت علاقة الأفروأمريكي بالسينما محكومة بهذا التشنّج الناتج عن كون صورته ظلت رهينة الإستغلال الوظيفي والتسخيري  Blaxploitation داخلة الشاشة ، وموضوع رفض وصدام خارجها.  في هذه الخلفية الفصامية وجد الأسود الأمريكي سببه الوجودي الأول la raison d’êtreلتأسيس سينماه الخاصة وصياغة روايته عن ذاته بناء على سردية تستمد مضامينها وأشكالها من عالمه الخاص. وراين كوغلير استمرار لإجراء سينمائي ينطلق من هذا الوعي، الذي جسّدته أكثر من غيرها سينما المخرج أوسكار ميشو والمخرجة جولي داش Julie Dash، وفي نفس الآن استثناء مهم في هذه الإجراء.

عبّد المخرج أوسكار ميشو الطريق لسينما السود الأمريكية باقتراح صورة بديلة عن صورة السود المستهلكة في الشاشة الفضية. في بناء هذه الصورة اعتمد هذا المخرج  صياغة سينماتوغرافية  توظّف الرصيد الفلكلوري والأدبي الأفروأمريكي في خطاب سينمائي يندّد بالتمييز العنصري، ويدعو السود للاعتماد على أنفسهم  وتحقيق اكتفاءهم الذاتي. كسبت سينما السود مع هذا المخرج هذا الطابع البورجوازي الوطني حين موقعت أبطالها في خانة الطبقة الوسطى ومدّتهم بمهمة خلق هذا الأسود الأمريكي الجديد الذي يتحكّم في مصيره ويحقق استقلاليته المادية والرمزية داخل قماشة المجتمع الأمريكي. إلا أن إجراءه السينمائي التقدمي هذا كان يعيبه التمركز حول بطل ذكوري بالدرجة الأولى، مهمشا للمرأة في أدوار ثانوية ومنمّطة.

في نفس اتجاه أوسكار ميشو، مع اختلاف صارخ في هوية الأبطال، اقترحت المخرجة الأفروأمريكية جولي داش في تجربتها المتميزة بنات الغبارDaughters of Dust  (1991) سردية بديلة عبر الإشتغال على الفضاء السردي كحيز يتقاطع فيه الماضي المغتصب بالحاضر عبر ثلاثة أجيال من النسوة تتمثلن في أدروارهن التاريخ الإفريقي ومرحلة انفتاح الأسود على الحداثة بصورتها المشوهة والأكثر عنفا وتسلطا، ثم المستقبل الإستشرافي كمجال يحقق فيه الأسود الأمريكي ذاته عبر تحقيق الإستمرارية لماضيه الإفريقي في حاضره الأمريكي الجديد.

اعتمد جل المخرجين السود، من شاكلة اوسكار ميشو وجولي داش، على سرديات بديلة لترميم صورة الأسود في السينما.  وهو ما جعل سينما السود الأمريكية تحمل طابع السينما المستقلة الأقرب لسينما المؤلف منها للسينما التجارية التي كان الأفروأمريكي يستسيغها أكثر ويستأنس بقالبها السردي. كانت أفلام المخرجين السود تجربية في روحها وتقارب الفيلم كوسيلة بحث، معالجة لمواضيعها العامة بصيغة نقدية يسمها الغموض والإنعكاسية. لم تكن سردية هذه الأفلام خطية، وكانت تعتمد شخصيات تنطق بأصوات تتداخل فيها الخطابات الأدبية بالسياسية، حيث يتجاور فيها ويليام إدوارد دوبوا مع كارل ماركس، وتوني موريسون مع مالكوم إيكس وأنجيلا ديفيس مع أليكس والكر. ضيق حيّز المشاهدة لهذه السينما جعلها كذلك معرضة للإقصاء في عالم المشاهدة الواعية للنقد والدراسة.

مع المخرج المؤلف سبايك لي حققت سينما السود قفزة نوعية مهمة حين تناولت تيمات وجودية تتعلق بالأسود الأمريكي الواقعي وفي وضعيته الآنية، وعبر سردية تعتمد الواقعية في رؤيتها وإجراءها. تجاوبت سينما هذا المخرج مع شريحة أكبر من الجمهور وأصبحت تتجاوز دائرة المجتمع الأفروأمريكي إلى أفاق الجمهور الأمريكي والدولي عامة، وبذلك حققت لسينما السود الأمريكية طموح التوزيع الشامل، وشكلت مرجعية اعتمدها الجيل الجديد من المخرجين الذي يمتد من جون سينغلتون  John Singletonوأيس كيوب Ice Cubeإلى راين كوغلير.  

يجتمع هذا الجيل في كونه يحمل نفس الرؤية الإيديولوجية والتصور الإبداعي الذي ينطلق من قناعة أن طريق تغيير نظرة الأبيض لسوده في أمريكا تبدأ بتغيير نظرة الأسود لنفسه. وهو ما يعني في الطرح، البحث عن بديل في ترميم الذات خارج فلك معاناة ما يزيد عن ثلاث قرون من العبودية في الماضي، والحاضر الذي تقرحت فيه هذه التجربة في سلوك العنصرية والتهميش؛ وما يعني في البراكسيس استنفاد الفن السينمائي بكل ما يمنحه في الطاقة والفعل من أساليب وصيغ بما فيها الأسلوب الهوليودي التجاري.

في هذا الرهان الجديد لسينما السود الأمريكية يشكّل مخرج الفهد الأسود راين كوغلير استثناء مهما حين استطاع في فيلموغرافية مقتضبة كثلاثة أفلام الجمع بين طرح سينما السود المستقلة، بأسلوبها التأليفي، والمغامرة في الصيغ الأكثر نجاحا في السينما الهوليودية ككوميك مارفيل الفيلمي.

في فيلم محطة فروتفيل تناول هذا المخرج قضية اعتداء الشرطة المنظم على الشباب السود، بتباعته النفسية والإجتماعية والسياسية، وبأسلوب إخراجي أقحم الصورة السينمائية نفسها في صلب الموضوع. لكنه، عبر فيلم “كريد” بالخصوص، فاجأ هذا المخرج الشاب جمهورا مستأنسا بقصة الملاكم “راكي” وبطله سيلفيستر ستالون، ببنيتها السردية الخطية التي التي تكرست عبر خمسة فصول، بمعالجة فيلمية جديدة ومختلفة محورها يدور في فلك شخصية ثانوية كأبولو كريد، الملاكم الأسود الذي نافس راكي في إحدى الحلقات. باسلوب السينما المباشرة Direct Cinema،  وبحكاية تدور حول إبن البطل الغير الشرعي، عالج راين كوغلير انعكاسات الأبعاد السيكولوجية والإجتماعية للشاب الأسود الذي يحاول إيجاد معنى لكيانه في واقع الرفض الذي يحيطه من كل ناحية. في هذه الحكاية يقحم المخرج الرجل الأبيض في شخصية راكي بالبوا، في أول فيلم عن راكي لم يكن سيلفيستر ستالون نفسه وراء كتابته أوإنتاجه، ويركن فيه في وضعية الدور المساعد، كهذه الحلقة التي تربط الماضي بالحاضر، بكونه الوحيد الذي يتقبض بخيوط السردية التي تمد الإبن بأجوبة عن الأسئلة التي تؤرقه والتي قد تعطي معنى لكيانه. في العناية بتدريب الإبن وتكوينه كملاكم محترف كان راكي بالبوا ينسج خيوط علاقة تصحيحية مع ماضيه نفسه يعيد فيها رؤية كريد الأب، ليس كملاكم منافس، أو كقرينة تحفيزية تساعده على مواجهة الخصم الأيديولوجي، بل كإنسان. عبر إمداد كريد الإبن، أدونيس جونسون (مايكل ب جوردن)، بالإمكانيات والمهارات التي تجعل منه ملاكما محترفا، كان كذلك يساعده في تكوين شخصيته الخاصة كفرد في المجتمع، من داخل الصيغة الجديدة التي تتلخص في نصيحة أمه بالتبني حين ذكّرته أنه إبن أبيه، وجزء منه، ولكنه ليس مطالبا  بأن يكون نسخة له. راكي بالبوا ساعد في تشكيل كريد الإنسان الذي غاب في أدوار كريد الأب الذي كان مجرّد منافس أومحفز يحضر في دور ثانوي يقترن بدوره كبطل ذكوري أبيض. في كريد كان راكي بالبوا هو الدور الثانوي، وبشحنة قوية من الفتور السلبي التي تتجه بالفيلم في إطاره التصحيحي. فتور الرجل الأبيض ومرضه في سينما السياقات المماثلة يعني قبل كل شيء صعقات الضمير.   

عبر محطة فروتفيل وكريد، أثبت راين كوغلير طاقته في إنجاز سينما سود جديدة تستجيب لحساسية الجيل من السود الذي يحمل شعار “حياة السود محسوبة كذلك” Black Life Matters، ويتمتع بتصور واضح عن دوره في النسيج الإجتماعي الأمريكي، جيل يؤهل نفسه بكل المهارات والإمكانيات محققا نجاحات مهمة من داخل شروط العالم الأبيض، مسخّرا إياها في مجابهة مشاكل الماضي دون التردد في الإنخراط في مجابهة مشاكل الحاضر كذلك. إنه الجيل الذي رفض أبطاله الرياضيين دعوة الرئيس ترامب لزيارة البيت الأبيض، ويرفض الوقوف أثناء تأدية النشيد الوطني الأمريكي، ويهيكل قوة دفاعية لا تقل عنفا وعدوانية ضد اعتداءات اليمين المتطرف في المظاهرات الإحتجاجية. إنه كذلك الجيل نفسه الذي غزت التيكنولوجيا الحديثة حياته بكل تفاصيلها، وأصبح يبحث في السينما عن حد أدنى من الإثارة البصرية يتناسب مع حساسيته الوسائطية، ما يجعله يُقبل أكثر فأكثر على روايات مارفيل الفيلمية. من تمّ كان  إستثناء راين كوغلير في سياق سينما السود الأمريكية،  هو رهانه على سردية جديدة عن هذا الأفروأمريكي  الجديد، تدور في محور همومه واهتماماته الخاصة، وتقترح أجوبة جديدة عن سؤال الهوية المتجدّد ومجالا جديدا لتمثلها، بعيدا عن مراوغة التيمات المستهلكة والسرديات العامة لخطاب الهوية والعنصرية والتمثيلية والحق في الشراكة.

في فيلم “الفهد الأسود”، يقترح المخرج هذا الجواب في مجال هذا الحيز الفضائي الطوباوي الذي  يعيد فيه الأسود الأمريكي تجديد ارتباطه مع الفضاء الرمزي لأرضه الأم إفريقيا وفي الشرط التاريخي الذي ألغته تجربة الرق من الذاكرة وطمسته الرواية التاريخية العامة والسائدة. في هذا الفضاء الطوباوي يتداخل الماضي المشرق مع الحاضر المتأزم في جدلية يتولد عنها رؤية جديدة للمستقبل. يتشكّل هذا الفضاء الطوباوي في المدينة الفاضلة واكاندا التي تتجاور فيها إفريقيا الكائنة مع إفريقيا الممكنة، لتخلق بديلا ميتافيزيقيا يعوض السردية الوجودية التي تحصر الأسود الأمريكي في شرنقة الصراع الواقعي واليومي من أجل البقاء، والتاريخية المؤطرة في تجربة الرق الميركانتيلية. في هذا البديل المثالي، يستغني المخرج عن بطله الواقعي الإشكالي ويعوّضه بهذا البطل الجديد إبن القارة الأم كنموذج أطلسي يجمع القوة والذكاء، وتتماهى معه أجيال السود الصاعدة، وتمتح منه فكرة عن الذات تتجاوز الحاضر بأزماته وتعبر للماضي التاريخي بأيقوناته ورموزه.

مستفيدا من إمكانيات هوليود ومستنفذا لطاقتها وقدرتها في مجال خلق الطوباويات وتسويقها، اعتمد راين كوغلير في تصميم فضاءه الطوباوي كذلك على مرجعية فنية وإبداعية تتجذر في  الثقافة الأفروأمريكية  ومن إنتاجها الخاص كتيار  الأفرومستقبلية Afrofuturismليكون بهذه الطريقة أول مخرج  أمريكي أسود  يقطع مع المرجعيات الثقافية الأوروأمريكية التي ظلت تسند سينما  السود الأمريكية تصوّرا وعمليا. توجد إفريقيا الفهد الأسود في هذا الحيز التخيّلي الناتج عن هذا التصوّر الإبداعي والإستطيقي التقدّمي المقترن بهذا التيّار الذي دشّن عهده بالسينما مع فيلم الفهد الأسود. في الأفرومستقبلية يقترح الفنان الأفروأمريكي الخيال العلمي كإمكانية ووسيلة جديدة يمكن الإعتماد على طاقتها الفضولية والإبداعية، وطريقة إثارتها القوية، في إعادة التفكير في الماضي من خلال التصور الإحتمالي للمستقبل. من هذا المنطلق ينخرط المبدعون الأفروأمريكيون كتابا وموسيقيين في تشكيل سردية جديدة تتمركز حول حكايتهم الخاصة ومن منطلق تجربتهم الواقعية ومن خلال منظور تفاؤلي يؤثت لعوالم جديدة ووقائع مختلفة تتنبأ بالعقود المستقبلية.

يمكن أن نقف على رؤية راين كوغلير الإخراجية الجديدة في فيلم “الفهد الأسود” من خلال تعريف الأفرومستقبلية الذي اقترحته كاتبة الخيال العلمي الأفروأمريكية إنغريد لافولور  Ingrid Lafleur. تجد الروائية الأفروأمريكية في هذه الموجة طريقة لتخيُّل المستقبل من خلال منظار الثقافية الإفريقية الأمريكية، وبعيدا عن أي تمثل ثوري يمكن أن ينتج عن هذا الترابط في الدلالات السياقية. حسب الكاتبة، تكمن قوة هذا التيار الفني في قدرته على إحداث التغيير المنشود في واقع الأمريكي الأسود دون التدخل في واقع الغير، وهو ما جعله يتناسب أكثر مع حساسية الجيل الجديد، والذي ينتمي له المخرج راين كوغلير.  من ميزة المرونة التي يتمتع بها هذا التيار، يمكن مقاربة الأفرومستقبلية كمنهجية أكثر منها كحركة، يحاول من خلالها الجيل الجديد إعادة ترتيب العالم خارج إطار سردية الرجل الأبيض، والنسق القيمي والمثل العليا التي تحملها هذه السردية، ودون إحداث أي قلقلات اجتماعية.

ارتبط هذا التيار بأسامي إبداعية أفروأمريكية ككاتبة رواية الخيال العلمي أوكتافيا باتلير Octavia Butlerوالروائي سامويل ديلني Samuel Delany، وبالخصوص موسيقار الجاز الشهير سان راع  Sun Raالذي استلهم إسمه من إله الشمس في مصر الفرعونية، وهو تقمص يعبّر عن روح وأبعاد هذه الموجة الفنية. هذه الأسامي تشكّل أعمالها الخلفية الجمالية والتعبيرية التي يستند عليها فيلم “الفهد الأسود” وتقدّم المفاتيح  الأولى لقرائته واستقراءه في اتجاه القيمة التي أظافها كميا ونوعيا في سينما السود الأمريكية، وفي الثقافة الأفروأمريكية عامة، وهو ما لا يتحصل في حصر أفقه التأويلي داخل عالم مارفيل السينمائي أو سينما الحركة والإثارة البصرية.

في هذا الصدد يجد فيلم “الفهد الأسود” أرضيته المرجعية في بناء فضاءه الفيلمي في التصاميم الديكورية التي ييبتكرها سان راع  كخلفية مسرحية لأداء فرقته أركيسترا Arkestra. في  التصاميم الموحية  بالخيال العلمي و الواقع السيبراني الذي يعتمد نموذج مصر الفرعونية وإفريقيا الحضارات القديمة وحقبة ما قبل الكولونيالية، لن يتيه مشاهد فيلم الفهد الأسود في العثور على مرجعية التصاميم الهندسية لمدينة واكندا بديكوراتها الباروكية الجديدة، كما لن يصعب عليه العثور على المعادل الهندامي  لأزياء سكان هذه المدينة الطوباوية في أزياء التي يصممها سان راع لأعضاء فرقته.  

بناء على مرجعية الأفرومستقبلية، ركّب راين كوغلير فضاء الطوباوية الإفريقية في شكل فسيفساء سمعي بصري يعتمد في تشكيله على عناصر موجودة في الأرضية الثقافية والطبيعية للقارة. في هذا الفسيفساء تتناغم الموسيقى الإفريقية المدروسة والموظفة بعناية مع المشاهد الخارجية الطبيعية. وهي تمسح هذا الفضاء في بانوراميات ديناميكية، حرّرت حركة الكاميرا سهوب وهضاب إفريقيا وشلالاتها من ترسبات النظرة الإعلامية، دون أن تسقط في إعادة إنتاج النمط الإبتدالي الفولكلوري الذي حاصر القارة وعرضها كنموذج للفضاء الماقبل صناعي المسخر للوظيفة السياحية. من خلال القماشة السينماتوغرافية قدّم الفيلم إفريقيا جديدة بين المتخيل والواقع، تجمع عنصر الطبيعة والثقافة وتصهرهما في رؤية جديدة للتقدّم تضع الإنسان والإنسانية في محورها الأساس. في عمران واكندا تتجاور الحواضر العالمية كسيدني ونيويورك ودبي وشنغاي مع الرموز الحضارية للقارة كمصر الفرعونية ومملكة أكسوم الحبشية وحاضرة تمبوكتو التاريخية. في بناءه للشخصية الفيلمية خرج الملك تتشالا عن نمط الفهد الأسود، البطل الخارق، الذي عرفناه في حلقات السلسلة السابقة، لنكتشف شخصية جديدة تتمتع برؤية الزعيم الإفريقي التقدمي، كموسى داديس كامرا أوباتريس لومومبا وبصفات الملك الإفريقي الأيقوني كرمسيس المصري، ومنسا موسى المالي. نظام حكم هذه المملكة الطوباوية هو الآخر هجين بين الأفكار الأممية التي تزدهر بها الأدبيات الإفريقاوية عبر العالم، مثل طروحات ماركوس غارفي Marcus Garvey ، ونماذج النظام القبلي الإفريقي الزراعي ما قبل الكولونيالي الذي حافظ على التوازن الإجتماعي  والسياسي للقارة قبل الغزو الأروبي.

في معادلة الأفرومستقبلية وكوميك مارفيل الفيلمي  حتما يجد الأفروأمريكي سردية نموذجية للتماهي تربط إفريقيا الأرض بإفريقيا التيه، يعيد من خلالها الأفروأمريكي ارتباطه مع  تاريخه المشرق ويستبصر مستقبلا جديدا يلعب فيه الدور الإيجابي للبطل عوض دور الضحية. ما أكدته اكتشافات الفضاء العلمية هو نجاعة ونجاح سلسلة حرب النجوم الهوليودية في تحفيز الأطفال والشباب نحو الدراسات الفضائية، والشيء نفسه قد يتحقق حين تتجه سينما السود نحو الصورة  المستقبلية للأسود في خطة ونهج فيلم الفهد الأسود. فطوباوية إفريقيا في الفيلم تدخل في حيز ما اصطلح عليه إيرنيست بلوخ Ernest Blochبالطوباوية الملموسةconcrete utopia (3)، أي كنظرة للمستقبل لا تتأتى عن الوهم المثالي أكثر مما هي متجذرة في الصراع التاريخي.    

الحضور الإفريقي

إفريقيا الفهد الأسود هي هذا الفضاء الطوباوي الذي يحمل معه شروط تحققه في الواقع الفعلي. في استبصارها لمستقبل أفضل، تتأثت هذه الطوباوية على المعطيات الغنية التي تتمتع بها حضارة القارة السمراء وتعرضها من منطلق يحتفي بها ويسطّر على أبعادها الجمالية المتفرّدة.

فيلم الفهد الأسود قد يكون قطعا الإنتاج السينمائي المثالي لو تعهدت فرضيا مجموعة الحضور الإفريقي الباريزية لهوليوود بإنجاز فيلم عن إفريقيا بنفس دافع الإحتفاء بأم القارات وعرض مميزاتها، كما فعلت مع كريس ماركر في الستينات.  وسَيْرا في الخط الذي رسمه منطق هذه الفرضية، قد نشاهد في فيلم الفهد الأسود كذلك سينما السود الإفريقية التي كانت ستغزوا القاعات الأمريكية والشاشات العلمية والمعولمة، لو وضع أباطرة الإنتاج الهوليودي المنظار العنصري جانبا، ونظروا لسليمان سيسي وعصمان سمبين كما نظروا لملوش فورمان وبرناردو بيرتولوتشي، أو مُنِحت لإدريسا ودراوغو الذي ودعنا مؤخرا، ومحمد هارون أو عمر سيساكو نفس الفرصة التي منحت لغييرمو ديل طورو، واليخاندرو إنياريتو وألفونسو غوارون. حتما بهذا الإنفتاح الذي لم يتحقق كانت هوليود ستؤسس مرجعية بصرية إفريقية يبني عليها المخرجين من الأجيال السابقة والحالية واللاحقة.

فيلم الفهد الأسود من هذه الأعمال الفنية التي تموه وتخدع  من عنوانها. قد يجد فيه بعض البيض من أمريكا الشمالية تدويرا آخرا لحكاية ترتبط بمجموعة عنصرية من السود تؤمن بالعنف الثوري وتتسم بالتطرف والتعصب العرقي!وطبعا لم ينجو فيلما كهذا يحمل عنوانه كتهمة من الأحكام المسبقة والآراء الإستباقية. نفس التمويه قد تسقط فيه هذه الفئة من المشاهدين المقنّيين، أي النقاد، الذين قد يشاهدونه كمجرّد كوميك فيلمي آخر من سلسلة مارفيل، أي قصة هوليودية أخرى خاصة بالأطفال، الصغار منهم والكبار، دون أن يرون داخله تجربة سينمائية جديدة وجديرة بمقارباتهم الإستقرائية المجنّدة  لأفلام هوانغ تسو وجعفر بناهي وبلا تار.

فهذا الفيلم أثبت أن مارفيل السينمائي هو لغة هوليود في الألفية الجديدة، وأن حبكة قصصية وصيغة مرتبطة بعالم الأطفال قد تكون أكثر نجاعة في تحقيق هذا الفن الذي يحمل مشروعا سياسيا واجتماعيا مستقبليا، ويحقق في نفس الآن نقلة نوعية في الرؤية والممارسة لا تقل ثورية وتجديدا.

هيوستن 10 يونيو 2018 

الهوامش

*العنوان الرئيسي للمقال لعب لفظي على كلمتي إثيوبيا البلد الإفريقي، ويوتوبيا أحد تنويعات كلمة الطوباوية في اللغة العربية. المغزى من هذا المزج هو تركيب ما هو كائن في إفريقيا مع ما هو ممكن وموجود في البعد المخيالي المستقبلي، أي ما يلي في العنوان الفرعي.

1- حسب التصنيف الإثني المتداول في الولايات المتحدة الأمريكية، يدخل كل أمريكي من جذور أفريقية في خانة الأفروأمريكي، في حين يطلق نعت الإفريقي على النازح من إفريقيا ما تحت الصحراء الكبرى كمهاجر مثل النجيري أو الكاميروني. أما سكان شمال إفريقيا، يضعهم التصنيف الفيدرالي في خانة البيض، فيما يُتمثلون اجتماعيا كعرب أو سكان الشرق الأوسط. في كل هذه الحالات تسقط عنهم خاصية الإفريقاوية التي تشكل عنصرا مهما في تركيبة هويتهم بحكم الجغرافيا والتاريخ.

2- أشير هنا بالأساس إلى المرجع النظري المهم في الدراسات السينمائية للباحثة مانثيا ديوارا Manthia Diawara  Black American Cinema (1993)والذي أعادت فيه تقييم النظرية السينمائية من خلال منظور سينما أقلية السود في الولايات المتحدة الأمريكية. مشروعها هذا يعتمد ويكمّل نظرية ثقافية تصحيحية تعيد النظر في المتن التنظيري والنقدي الأدبي الذي ظل حصير المركزية الأروبية، والتي نجدها في مؤلف بالغ الأهمية في هذا الحيز ككتاب أدب السود والنظرية الأدبية للناقد هينري لويز غيت، Black Literature & Literary Theory (1990).

3- Robert Stam, Keywords in Subversive Film/Media Aesthetics (Wiley Blackwell, 2015)

Visited 141 times, 1 visit(s) today