“أغنية الغراب”.. أحلام يقظة ناقمة على الواقع
حسام الخولي
قبل عشر سنوات تقريبًا كانت المرة الأولى التي ترشّح السعودية فيلمًا يمثلها في مسابقة جائزة الأوسكار امتثالًا للتقليد المعتاد بترشيح فيلم من كل بلد؛ وكان فيلم “وجدة” للمخرجة هيفاء المنصور، الذي حظي باحتفاء كبير، مرة لجودته وأخرى لوصول السينما السعودية لهذه المنطقة المتقدمة في الصناعة.
حوارات متعددة خاضها المتخصصون عن السينما السعودية التي تتطور وتحاول الوقوف على قدميها. وهذا العام، بعد سنوات طويلة، رشّحت السعودية للمرة الثانية فيلم “أغنية الغراب” للمخرج محمد السلمان، لكن في ظروف مختلفة تمامًا على كافة المستويات الفنية والاجتماعية والسياسية، غيّرت السعودية فيها من جلدها تمامًا، وتوجت ذلك في فيلم ربما تعبّر قصته عن السعودية الجديدة التي يريدها الشباب.
كان فيلم “أغنية الغراب” أساسًا من بين الفائزين في “مسابقة ضوء” للأفلام التابعة لهيئة الأفلام السعودية لاكتشاف ودعم المواهب السعودية الجديدة في صناعة الأفلام، للاستثمار في المخرج المميز الذي قدم قبل ذلك تجارب سينمائية قصيرة مثل “فيما بين”، “لسان”، “ستار”، “27 شعبان”، إلى جانب حصوله على العديد من الجوائز في عدد من المهرجانات الداخلية، مما جعل الرجل رهانا ناجحا للاستثمار في فيلمه الروائي.
فيلم “أغنية الغراب” من بطولة عاصم العواد وإبراهيم الخير الله وعبدالله الجفال وآخرين، ومن إنتاج شركة تلفاز11 التي يبدو الفيلم نوعا بعيدا نسبيًا يدل على جرأة تلك الشركة السعودية التي اشتهرت على مواقع التواصل بحكاياتها الكوميدية الساخرة التي استطاعت أن تصل إلى خارج حدود السعودية.
شركة تلفاز 11 سعت للتجريب قبل سنوات عديدة في أشكال مختلفة من إنتاج المحتوى البصري الذي يجذب الشباب السعودي على مواقع التواصل، برامج متنوعة كان القاسم المشترك بينها جميعًا هو اعتمادها على الخفة والكوميديا في تناول الموضوعات في الداخل السعودي، هذه المرة استثمرت في مساحة تجريب مختلفة، في فيلم يبدو كوميديا لكنه درامي، يبدو نابع من خيال صانعه لكنه واقعي تمامًا، يحكي مشكلة قديمة لدى الشباب السعودي.
لا يبدو الفيلم منفصلا تمامًا عن بعض إنتاجات تلفاز 11 لكنه يأخذ طريقة تناول مختلفة كما يعتمد على موضوع غير معتاد تقديمه، لذلك صاحب عرضه ترقب شديد لمحاولة معرفة إلى أين تذهب الشركة في طريقها الجديد غير المعتاد، وربما ينتج هذا التخوّف ذاته جرأة مستقبلية في محاولة سرد الحكاية بأساليب مختلفة لا تعتمد على الكوميديا فقط دون غيرها.
بداية جيدة ومعبرة
يحكي الفيلم قصة تدور أحداثها في أول الألفية الثانية، داخل الرياض القديمة، عن شاب يدعى ناصر أو “غراب”، لم يُكمل تعليمه، مطرود من كلية الملك فهد للبترول والمعادن، وهي الكلية الأشهر في السعودية، جرى تشخيص مرضه مؤخرًا كورم في الدماغ يستدعي جراحة حرجة لاستئصاله، بينما هو في قرارة ذاته لا يؤمن بأنه مريض لكنه عاجز عن تفسير أحلامه أو حلها مع مجتمعه غير المعتاد على تلك الغرابة.
“أغنية الغراب” هو الفيلم الروائي الطويل الأول للمخرج السعودي محمد السلمان، والأكثر تعبيرًا عن السعودية في لحظة استثنائية يحاول فيها الشباب إعادة جدولة حياتهم التي يريدونها دون امتثال للأعراف القديمة التي لم يكن يُسمح فيها بالتعبير عن الذات الفنية بحرّية ورحابة، وربما من هنا تبدو وجاهة قصة الفيلم الخيالي الروائي في التعبير عن الواقع بشكل ذكي غير مباشر.
يبدأ الفيلم من صوت مطرقة شديدة نسمع أثرها قبل أن نراها، ثم نرى عجوزا يمسك بها بقوة ليهشّم بها عددا من أشرطة الكاسيت والمسجل، يبدو الوضع واضحا فيما بعد من الشكل العام: أب يُفسد شرائط أغاني يستمع إليها ابنه الذي يراه “مثل الحيوان” بينما تحاول الأم أن تهديء من الوضع.
يتورط المشاهد منذ اللحظة الأولى مع البطل؛ عيناه تحدق في ذهول إلى ما يحدث، لا يقبل على أي رد فعل تجاه والده، ينتظر أن ينتهي هذا العنف غير المبرر تجاه شرائط تسجيل لبعض الأغنيات ومجلات فنية، يبدو في وضع شبيه بالمشاهد، ثم يكتشف أنه داخل حُلم.
بداية معبرة عن وضع هذا الشاب الذي يتابع الفيلم قصته حتى النهاية كرجل تائه مشتت يبدو مشتتاً بين الخيال والواقع، فيما يخص سيطرة والده، أو في صلافة المجتمع، أو حتى بالنسبة لحبيبته المتخيلة التي يراها في الفندق، أحلام يقظة لا يخفى أنها تمثل مشكلات حقيقية بالنسبة إلى شاب سعودي في بداية الألفية لا يملك التعبير عن مشاعره تجاه كل هذا بالحب أو الغضب، لا يملك أي وسيلة تواصل لغوي عميق مع المجتمع.
يضعنا هذا التصور عمومًا أمام بطل يوجد حاجزا خفيا بينه وبين المجتمع الذي يعيش فيه، ثمة مسافة غير مرئية في التواصل بين هذا المجتمع البرزخي الذي لا يمكن التواصل معه تمامًا أو تجاهله تمامًا. يصبح أمل البطل في التواصل عمومًا سواء مع صديقه الذي لا يفهمه جيدًا بالرغم من حبه له، أو من خلال كتابة قصيدة إلى حبيبته، ويصبح العجز عن وجود لغة مشتركة مع من يحبه أو يكرهه مأسأة البطل، بالرغم من إحساسه الكامل بكل شيء في “عقله”.
على امتداد الفيلم يخوض الفيلم مسيرة حافلة بالعقبات، تبدو محكمة الصنع يمر من خلالها السيناريو على أزمات متعددة عاشها المجتمع السعودي في أول الألفية، كانت تعتبر طبيعية بالنسبة للجميع بينما من يتمرد عليها كانت تعتبر أن “عقله مريض” تمامًا مثل بطل الفيلم الذي يبدو بين شخصيات الفيلم هو العاقل، هنا والآن.
يقدم الفيلم رحلة تبدو أحيانًا كأنها تمثل شخصا مريضا يحاول علاج أوهامه تجاه سيطرة والده على حياته أو عدم إمكانية التواصل مع فتاة أحبها، ويبدو أحيانًا أخرى ناقما على الواقع بشكل غير مباشر، يعبر عن غضب شديد في التعبير عن تلك الفترة في بداية الألفية التي كان يعيش فيها الشاب السعودي قسوة شعورية بات عليه التخلص منها تمامًا ومسرحتها أمام الجميع.
حقيقة أم خيال؟
على المستوى التقني ساعدت الموسيقى الهادئة في التعاطف أكثر مع البطل المكلوم الوحيد بينما كانت نقطة القوة الأكبر في اللغة البصرية التي اختارها المصور المصري حسام حبيب الذي قدم معادلا بصريا مميزا في الفيلم ساعد في تقديم القصة بالصورة المثالية.
في النهاية يبدو الفيلم محطة تأمل كبيرة في خيالات الشباب السعودي عمومًا التي لا يمكنها تمامًا الهروب من الواقع دون سرده والسعي إلى تجاوزه، كما يبدو نقطة قوة أخرى جاءت مع رحلة تحاول أن تقدم سعودية أخرى ويبدو أنها تسعى للاستمرار.
تغيرت السعودية أكثر من أي وقتٍ مضى، ليس على المستوى الفني فقط، الآن بتنا نشاهد هوليوود تفتح ذراعيها لأموال الخليج، تلك التي كانت تتجنب شركات إنتاج الأفلام المملكة العربية السعودية في السابق، لكن مقاومة المملكة بدأ يتلاشى حسب ما جاء في مقال نشرته بلومبرج، كما أصبحنا نشاهد أفلاما سعودية جريئة تعبّر عن مشكلات هذا المجتمع القديم الذي أًصبح من الضروري التخلص منها للبدء من جديد.
على ما يبدو أصبح في مقدرة الشباب السعودي إنتاج قصص تعبّر عن ماضيها وخيالات مستقبلها حتى لو في سياق فيلم يبدو البطل فيه يعاني من مجرد أحلامه في شكل ملتبس بين الحقيقة والخيال، يبدو سؤال الفيلم الفلسفي هل ما نراه في الفيلم مجرد خيال في عقل المؤلف أم تعبير عن الواقع المأزوم؟ وربما الإجابة الأرجح أنه يمثّل أحلام يقظة ناقمة على الواقع القديم.