“أرض الصيد” صدمة الاعتداءات الجنسية
لاشك أن من أهم وظائف الفيلم الوثائقي “كشف الحقيقة”، أي التنقيب والبحث عنها والوصول إليها بشتى السبل، ثم عرضها من زواياها المختلفة، وتوصيلها إلى المشاهدين، مهما كانت صادمة ومرعبة، فالغرض ليس إحداث الصدمة في حد ذاته، بل تنوير الرأي العام: الجمهور، المشاهدين، المسؤولين، وفي الكثير من الحالات- كما في حالة الفيلم الذي نحن بصدده هنا- المطالبة باتخاذ موقف ما من أجل تصحيح الأمور.
الفيلم هو “أرض الصيد” The Hunting Groundالذي أخرجه الأمريكي كيربي ديك، وقد أحدث منذ عرضه في أوائل العام الجاري، ضجة كبرى، بعد أن تحول إلى “ظاهرة” إعلامية، وساهم في دفع الرأي العام إلى المطالبة بإعادة النظر في القواعد والقوانين التي تحكم نظم العمل داخل الجامعات في الأمريكية، ووصل الأمر إلى حد تنظيم عرض خاص للفيلم في البيت الأبيض حيث شاهده الرئيس أوباما وخرج بتصريحات تدعو إلى ضرورة مواجهة التجاوزات الصارخة التي تحدث في نطاق الجامعات.
موضوع الفيلم هو ما تعرضت ولا تزال يتعرض عدد كبير من الطالبات داخل مقار السكن الجامعي في الجامعات الأمريكية من اعتداءات جنسية من جانب زملائهن الطلاب، تصل إلى الاغتصاب، دون أن تتم ملاحقة الجناة، بل وفي أجواء يتم فيها ارهاب الضحايا من الفتيات وتهديدهن ودفعهن إما إلى الصمت أو إلى ترك الدراسة وفي بعض الحالات أيضا، إلى الانتحار، كما نرى في الفيلم.
يبدأ الفيلم بمشهد يبدو للوهلة الأولى كما لو كان مشهدا ساخرا من فيلم هزلي، يتكون من لقطات متفرقة متعاقبة سريعة مصورة بكاميرات الفيديو المنزلية (أي أنها لقطات خاصة)، للحظة استقبال عدد من الفتيات، عبر شبكة الانترنت، ما يفيد قبولهن في الدراسة بعدد من أشهر وأرقى الجامعات الأمريكية، وهو ما يجعلهن يقفزن من السعادة والفرح، ويعبرن بطريقة هستيرية، عن ابتهاجهن أمام أفراد الأسرة، بتحقق الحلم الذي راودهن طويلا في الالتحاق بالدراسة في جامعات محترمة تتمتع بالشهرة والتقدير على المستوى العالمي مثل ييل وهارفارد وشمال كاليفورنيا وكولومبيا وفيرجينيا ونوتردام، وغيرها.
مدخلنا إلى موضوع الفيلم، الذي يُروى في سياق فني متماسك، يتمتع بالحيوية والايقاع السريع، فتاتان ممن تعرضن للاغتصاب هما: “أندريا” (وهي أمريكية من أصل كوبي)، و”آني”، وقد وقع ما وقع لهن أثناء دراستهن في جامعة شمال كارولينا. وتروي كل واحدة تفاصيل ما تعرضت له بشجاعة أمام الكاميرا، وكيف لجأن إلى إدارة الكلية والجامعة إلا أن شكواهما لم تجد استجابة أو حتى تعاطفا من نوع ما، يخفف عنهما ما تعرضن له من صدمة كان يتعين عليهما أن يدفعا ثمنها غاليا، من شعور بالعجز والاكتئاب وعدم القدرة على مواجهة الأهل والمجتمع، وكراهية الدراسة والشعور بالظلم الاجتماعي.
بداية الحملة
ما تعرضت له أندريا وآني، سوف يدفعهن إلى تنظيم حملة تمتد لتصبح حملة قومية على مستوى الولايات المتحدة بأسرها، لدعوة كل الفتيات اللاتي تعرضن لتجارب مشابهة داخل الحرم الجامعي، إلى إرسال تفاصيل ما تعرضن له سواء بالصوت والصورة عبر السكايب (كما نشاهد في الفيلم) أو من خلال البريد الاليكتروني، ثم الانضمام إليهن في سعيهن إلى وقف مثل هذه الممارسات وتنظيم وقفات احتجاج علنية داخل الجامعات، ليس فقط ضد مثل هذه الجرائم، بل وأساسا، ضد سياسة الصمت والتجاهل “المنهجية” التي تتبعها المؤسسة التعليمية إزاء مثل هذه الأفعال الشائنة.
يصف كثير من الطالبات ما تعرضن له من اعتداءات مهينة في ظروف مختلفة، من جانب كلاب من زملائهن في الجامعة، داخل السكن الجامعي، ثم يصفن كيف أصبحن أيضا في وضع الاتهام أمام رؤساء الكليات والجامعات عندما ذهبن يشكون الأمر إليهم. تكرر الطالبات الأسئلة القاسية المتشابهة بدرجة مفزعة، التي ووجهن بها مثل: هل قاومت؟ كيف قاومت؟ هل قلت لا؟ كم مرة قلت لا؟ (نرى لقطات لعشر فتيات أو أكثر) ترددن جميعهن نفس السؤال: كم مرة قلت لا؟ في مونتاج سريع يقفز من مكان إلى آخر، ومن شخصية إلى أخرى، لكي يعرض لنا صورة صادمة مباشرة لما لا يمكن تصديق وقوعه في قلب المؤسسات التعليمية في دولة يحكمها القانون، وقبل ذلك، الذوق العام والكياسة وتقدير خطورة مثل هذه الاعتداءات وما يمكن أن تؤدي إليه من ضياع مستقبل الكثير من الطالبات بعد تدميرهن نفسيا كما يكشف الفيلم.
تصف آني كلارك مثلا صدمتها عندما ذهبت تشكو لعميد الجامعة ما تعرضت له، فقال لها ببساطة إن الأمر يشبه بلعب كرة القدم.. (كان ممكنا أن تكون طريقتك في اللعب مختلفة؟) ولأنه لم يأخذ الموضوع على محمل الجد فقد رفض التحقيق في الموضوع. فتاة أخرى (تدعى كاميلا)، تقول إنها رفعت الأمر للجامعة وتم التحقيق في الحادث، ثم تم فصل الطالب الذي اعتدى عليها من الكلية، إلا أنها شاهدته يعود للدراسة بعد فترة قصيرة. يستعين الفيلم بالكثير من البيانات والإحصاءات التي تقطع المقابلات المصورة، لتظهر على الشاشة، تخبرنا مثلا، بأن نسبة الطالبات اللاتي يتعرض للاغتصاب داخل السكن الجامعي تبلغ 20 في المائة أي طالبة من بين كل خمس طالبات، وأن 100 ألف طالبة جامعية سيتعرضن للاغتصاب في العام الدراسي القادم، وأن الشرطة لم تحقق سوى في 26 في المائة من هذا النوع من الشكاوى. ويعلق على الكثير من مفاصل الفيلم ديفيد ليساك، وهو طبيب نفسي لديه خبرة خاصة في التعامل مع مثل هذه الحالات، فيقول إن الغالبية العظمى من الفتيات التي يتم اغتصابهن لا يذهبن أصلا للشكوى، لأنهن يعرفن أنه لن يترتب على شكواهن أي فعل، وإن الشبان الذين يرتكبون هذه الاعتداءات عادة ما يكررونها، وإن متوسط عدد حالات الاغتصاب التي يمارسها الواحد منهم لا تقل عن 6 حالات، وأن الجامعات لا تقوم بتصعيد الموضوع لأنها تريد صيانة أسمائها والحفاظ على سمعتها.
التستر على نجوم الرياضة
يتوقف الفيلم أمام قصة فتاة تعرضت للاغتصاب من جانب شاب لم تكن تعرفه أصلا، تظاهر بالتطوع بتخليصها من موقف سخيف تعرضت له من شاب كان يضايقها خلال حفل بأحد الأندية الجامعية، ثم قدم لها مشروبا، تعتقد أنه وضع فيه مادة مخدرة ثم جذبها وهي لا تكاد تعي من أمرها شيئا، وأخذها إلى شقة بعيدة ثم اغتصبها. ورغم أنها قاومت كثيرا إلا أنه كان شديد القوة والضخامة بحيث استطاع التغلب عليها خاصة وانها كانت تشعر بالوهن الشديد. يعرض الفيلم هذه القصة من خلال أسلوب إعادة التمثيل من على مسافة معينة، بحيث تبدو الصورة ضبابية ليلية لا تظهر فيها وجوه الشخصيات، وتضيف الفتاة أنها شاهدت بعد ذلك الشاب الذي اغتصبها وهو يدخل الجامعة وعرفت أنه الطالب والنجم الرياضي البارز في لعبة كرة القدم الأمريكية “جيميس وينستون” في فريق جامعة ولاية فلوريدا- وهو الوحيد الذي يذكر اسمه صراحة في الفيلم من بين الشباب المتهمين، فقد شغلت هذه القضية الرأي العام الأمريكي بعد أن أصرت الفتاة التي تعرضت للاعتداء على المضي قدما في قضيتها مهما كلفها الأمر، واستفادت من القانون الذي يفرض على الجامعات ضمان السلوك القويم من جانب الطلاب، ولكنها واجهت مصاعب بالغة لأن وينستون رياضي مرموق يتمتع بشهرة كبيرة، وأصبح أهم لاعب في الفريق القومي الأمريكي أيضا، وقد رفض مدير الجامعة التحقيق معه في البداية، ورفضت الشرطة أخذ عينة من الحامض النووي، ثم مضت القضية ووصلت إلى أجهزة الإعلام، فرضخت الجامعة، وقامت بالتحقيق معه، كما أثبتت التحليلات تطابق الحامض النووي بما وجد عند الفتاة، ورغم ذلك، رفضت الجامعة إدانته أو طرده.
يعلق في الفيلم عدد من المسؤولين السابقين في الإدارة الجامعية، وبعض الأساتذة السابقين، كما يظهر مسؤول أمن في جامعة نوتردام، يقول إن من المحظور علي رجال الأمن تماما بموجب قوانين الجامعة الاتصال بأي رياضي من الرياضيين الذين يلعبون في فرق الجامعة. ويروي كيف أنه اعترض على مثل هذه الممارسات كما رفض التقاعس المتعمد عن التحقيق واتخاذ موقف عملي من مرتكبي هذه الحوادث، وعندما لم يجد أي استجابة، تقدم باستقالته.
نشاط تجاري
يتفق جميع من يتحدثون في الفيلم من الخبراء في النظم الإدارية الجامعية، وفي مقدمتهم الباحثة المتخصصة دانييلا ديركس، صاحبة كتاب “التصدي للاغتصاب في المدن الجامعية”، على أن النشاط الرياضي بين شباب الجامعة هو نشاط تجاري يتضمن مليارات الدولارات، وأن لاعبا مثل ونيستون يجلب وحده ملايين الدولارات سنويا للجامعة، وأنه ليس من مصلحة الجامعة ولا أي جامعة، التعريض بسمعة هؤلاء الرياضيين، كما تحرص على علامتها (التجارية) مضيفا: “أنت عندما تقول (هارفارد) “فأنت تبيع بالإسم، بالماركة، وبالتالي ليس من الممكن الاعتراف بوقوع حالات اغتصاب حتى لا يؤدي هذا إلى نفور “الزبائن” أي أولياء الأمور الذين يدفعون مصاريف باهظة لإلحاق بناتهن بالتعليم في هذه الجامعات.
تعليقا على هذه النقطة تسخر إحدى المتحدثات في الفيلم من الأمر عندما تقول أمام الكاميرا (مخاطبة المخرج): هل تتوقع أن تقول جامعة مثل هارفارد مثلا: مرحبا بارسال بناتكن الى جامعتنا ولكن تأكدوا أن كل اثنتين من بناتكن سيتعرضن للاغتصاب.. حظا سعيدا”.. أي أن الجامعات تحمي سمعتها ومكاسبها التجارية، وأن الموضوع كله يرتبط بنظام رأسمالي يعتبر التعليم “سلعة” للبيع والشراء، ومن هنا يتطرق الفيلم إلى ما يسمى بالعصب المسماة “الأخوة”، وهو شكل من أشكال الأندية الطلابية التي يدفع أعضاؤها الاشتراكات، وتمتد عضويتها بعد التخرج، وهذه المؤسسات تدفع مبالغ طائلة على شكل تبرعات للجامعات. وفي هذه النوادي تقع الكثير من حالات الاغتصاب، فإذا أقرت الجامعات وحققت وأحدثت فضائح علنية، سيتوقف الدعم المالي الذي يعرض الفيلم أرقاما محددة منه، بلغت في إحدى الحالات تقديم 350 مليون دولار لجامعة واحدة!
لا يقتصر الفيلم على اغتصاب الفتيات فقط، بل يقدم أيضا نماذج لشهادات من بعض الطلاب “الذكور” الذين تعرضوا بدورهم للاغتصاب من جانب زملاء لهم. وقد انتهى الأمر في معظم الحالات إلى رفض التحقيق من جانب الجهات المسؤولة، والقاء اللوم على الضحية، كما هو الحال مع الفتيات.
ينجح المخرج والمونتير في جعل موضوع ثقيل الوطاة مثل هذا الموضوع، ممتعا في متابعته، من خلال شكل التحقيق الذي يتخذه الفيلم، والرحلة نحو الوعي، التنوير، التي تبدأ بالفتيات وهن يعبرن عن سعادتهن بالالتحاق بالجامعة، ثم ما وقع لكل من أندريا وآني، ثم بدء حملتهن من أجل كشف الحقائق امام الرأي العام والمطالبة بحقوقهن، والسفر عبر مدن مختلفة، ثم تنظيم الاحتجاجات العلنية في الجامعات، واكتساب قوة ضغط تجعل أعضاء الكونجرس عن بعض الولايات التي وقعت فيها هذه الحوادث، يتبنون القضية. رغم قتامة الموضوع، يتميز الفيلم بروح السخرية والمرح في الكثير من المشاهد والتعليقات والمناظر من خلال أسلوب المونتاج المتوازي أو الفوتومونتاج، والحركة السريعة، أو رسوم الجرافيكس، والاستخدام المميز لأغنية “إلى أن يحدث لك” التي تغنيها ليدي جادا، وقد كتبت خصيصا للفيلم، ورشحت أيضا لجائزة الاوسكار لأحسن أغنية سينمائية.