“26 يومًا من حياة دوستويفسكي”.. الإبداع بين ظلمة الروح وضياء العاطفة

يبدو النظر في تفاصيل السيرة الشخصية للكاتب الروسي الكبير فيودور دوستويفسكي أقرب للولوج في تعقيدات الاشتباك بين ازماته الذاتية وبين الصياغة الادبية لنفسيات ابطال رواياته. من هذا المدخل يصبح الفيلم السوفيتي ” 26 يومًا من حياة دوستويفسكي” (1981) دعوة مشوقة الى رحبة الفناء الروحي الداخلي لواحد من أكثر الشخصيات الادبية التباسًا وإشكاليات.

يأخذنا المخرج الكسندر غريغوريفيتش زارخي في انتقالات سردية متوازنة تتحرك مشهديًا من الواقع الحياتي المرير والهواجس الشخصية المضنية للكاتب الروسي نحو تمثلاتها في الكشوفات الوجودية العميقة التي تنتجها رواياته. يحتكم الفيلم على سيناريو جيد يحمل الصورة السينمائية الى مراتب الجودة بفضل عبء العبقرية وصراعات الخلق الادبي التي يعيشها دوستويفسكي وسط واقع معيشي مضطرب يتكرس عزلة وديون وعجز عن الخروج من شرنقة الاكتئاب مع متوالية الفقد.

كان الفيلم قد صدر في العام 1981 بمناسبة مرور قرن على وفاة دوستويفسكي حيث عُرض في مهرجان برلين السينمائي وعنه حاز الممثل القدير اناتولي سولونيتسين على جائزة أفضل ممثل. سولونيتسين الذي سجل حضوره التمثيلي البارز في العديد من افلام المخرج الايقوني تاركوفسكي يتجلى من خلال ادائه المتفاني -جسد شخصيتين، دوستويفسكي والشخصية الرئيسية لرواية المقامر- اقترابه من روح الكاتب الروسي، فيأخذنا الى اعماق متاهة افكاره ومخاوفه وحماسته الابداعية خلال تلك الايام الستة والعشرين مستخدمًا ببراعة نظرات عيونه وتقاسيم وجهه لخلق المظهر التعبيري للمتغيرات الشعورية الداخلية فيعرج الى ممرات عقله المسكونة بأشباح رواياته ليكشف من خلالها عن طبيعة صراعاته مع اليأس الوجودي والخراب المالي واندفاعات ثوراته السلوكية مجسدًا مزيج الضعف والخيبة والقسوة المُلقية بظلالها على واقعه المضطرب.

كانت كاريزما حضوره التمثيلي العصب الرئيس للفيلم مع اشراقة ادائية مميزة للممثلة الروسية يفجينيا سيمونوفا التي ادت شخصية آنا غريغوريفنا سنيتكينا خصوصًا مع محدودية المكان -تعبير اخر عن الضيق والحصار الزمني المنقادة له الحكاية وشخصياتها- ما يسمح للجمهور رؤية الغربة والوحدة والاحباط التي انشبت مخالبها في روح الاديب العملاق.

تروي حكاية الفيلم السلوك الاحتيالي للناشر ستيلوفسكي مع الكاتب دوستويفسكي حين حدده بموعد نهائي اقصاه نهاية شهر اكتوبر من العام 1866 لتسليم مخطوطة روايته الجديدة وفي حالة تخلفه عن التاريخ المحدد فإنه سيستولي على حقوق نشر أعماله الأدبية لمدة عشر سنوات. اواخر شهر سبتمبر يقترح أحد أصدقائه عليه لتسريع عملية انجازه لروايته القصيرة (المُقامر) الاستعانة بكاتب اختزال. تصل الشابة آنا غريغوريفنا ذات التسعة عشر عامًا الى منزل الكاتب الكبير للمساعدة بهذا العمل وهي ممتلئة بالرهبة من صدى اسمه ونجاح روايته الجريمة والعقاب فتتفاجأ بحدة طباعه وسلوكه الغاضب لكنها مع الوقت لا تلبث إلا أن تتحول لحافز وملاذ له من خلال حيويتها وذكائها وجرأتها في إيجاد الحلول لمشاكله. من خلالها بات دوستويفسكي قادرًا على تجاوز (وحدته وكآبته واحساسه بالعجز كشخص كهل) كما يصف نفسه فينشط في سبيل تحقيق المستحيل وإكمال (المُقامر) بستة وعشرين يومًا وفيها يروي قصة ادمانه المقامرة في ايام رحلته لأوربا حيث انتهى مفلسًا ومدينًا بالكثير ما اثر على وضعه المادي في المتبقي من حياته.

يقدم سيناريو الفيلم رغم نمطيته السردية مواقف درامية تسعى لتكون مثابات الربط العميق بين الحياة الواقعية للكاتب ورواياته، فيعيد انشاء مشاهد من (المقامر) اثناء سعيه للانتهاء منها وذلك لتصوير مزاج دوستويفسكي لحظات عملية الخلق الابداعي لوصل الخيط بين اساسها الشخصي ووجودها الدرامي الخيالي.

يمثل الخط السردي لكتابة رواية (المُقامر) المحور الرئيس لسيناريو الفيلم غير ان مجيئها بعد انجازه جزئين من روايته الاشهر (الجريمة والعقاب) جعل الجمهور غارقًا في جدل التكوين الاجرامي لشخصية راسكولينكوف الذي سيظل شبحه يهيم على طول دقائق الفيلم، مرة كعنصر اساسي في النقاشات الاجتماعية حول الرواية وكيفية مآل نهايتها، وأخرى في إسقاط تبدل حال راسكولينكوف اثر غمر الحب واشراقة النور العاطفي على ظلام روحه حيث التجدد النفسي والسلوكي لطبيعة حياة ومزاج وتصرفات دوستويفسكي بعد ظهور آنا غريغوريفنا في عالمه.

تمتليء البيئة المكانية في مشهد الفيلم بكل ابعاد الحقبة حيث اظهر تصميم الانتاج القدرة على استعادة الطبيعة الحضارية والواقع المعاشي بشكل اكثر من مقنع يأخذ المشاهد الى الزمن الذي عاش فيه الكاتب الروسي، فيما يبدو واضحًا ان المخرج زارخي وفريق العمل استندوا كثيرًا على اظهار المزاج الفني والرؤية البصرية للصورة من خلال استلهام لوحات فناني الواقعية الروس أمثال إيليا ريبين وفاسيلي بيروف وايفان كرامسكوي التي امتدت تأثيراتها على اسلوب الرسم المحلي من اربعينيات القرن التاسع عشر حتى اواخر عقد الثمانينات منه.

كانت الاستفادة من طبيعة اللوحات لرسامي الواقعية الروسية مُغنية للفيلم شعوريًا بسبب ان تمثيلهم للواقع لم يمنعهم من الاستمرار في اظهار التقدير لفيض الذاتية والميل العاطفي تجاه موضوعة اللوحة عكس نظرائهم الفرنسيين الذين ترتكز واقعيتهم على تمثيلات موضوعية محايدة للحياة المعاصرة. لقد منح ذلك الفيلم وصانعيه القدرة على تأسيس مشاهدهم ضمن السياق الاجتماعي والتاريخي للعصر منتفعين من تصميم ديكور وازياء اصيل لتحقيق الشكل البصري للموضوعة وهو ما يزيد الرسوخ العاطفي للحكاية.

اعتمد الصانع السوفيتي على كثافة درامية للحفاظ على ايقاع يخلق الواقع النفسي للأديب الروسي مع نهج بصري مُبسط تقنيًا الى حد ما كحركة كاميرا يسعى لترك فضاءات مناسبة داخل الكادر امام ممثليه لإتاحة المجال لهم في استخراج قدراتهم الادائية للتقمص الكامل لشخصياتهم ما يُعطي الصراع الوجودي لشخصية دوستويفسكي في مسعاه لتجاوز اضطرابه الابداعي كل الزمن السينمائي اللازم للتبلور دراميًا على الشاشة حيث الروح المتحمسة والنفس المعذبة تحت وطأة عيوبها التي تتحول الى عنصر قوة يجلب العمق المطلوب في إظهار شياطين الخلق الادبي على الصورة حين يتردد من خلالها صدى اصوات وهواجس وأفكار وعواطف شخوص رواياته.

مَثَّلَ وقت الفيلم القصير نسبيًا كفيلم روائي طويل (82 دقيقة) عنصر مُحدِد نوعًا ما في تصوير الكثير من الآراء الفلسفية والالهامات الشعورية للأديب الروسي خصوصًا في ابراز مخاوفه الوجودية بمدى موسع بعد ان ركز المخرج زارخي على التأمل في اظهار الاوجه المتعددة لشخصيته الهائمة والمُعذبة في بحثها عن خلاص ادبي لما يؤرق ذاته فيقيده إبداعيًا بشخصيات قصصه الرازحة تحت عبء اخطائها المعلنة بين دفتي كتاب ليخلد بها الى الابد. ان المعاناة الانسانية تأخذ صداها الاوسع من خلال التأمل الذاتي الذي ينتهجه الفيلم ليكوّن صورة نافذة لموضوعات مثل معنى الحياة والصراع بين المادي والروحي ومتواليات خيبات الامل وصدمات الفقد لخلق توليفة تؤكد فرادة شخصية دوستويفسكي وقدرته المُلهمة لتجسيد ثنائية اليأس والامل الزاخرة بها رواياته.

يستلهم دوستويفسكي المدينة وناسها ومناخها في اعماله بما يجعلها شخصية مساوية، بمعنى ان المكان له هيمنة تمد سطوتها من خلال (التأثير القاتم والحاد والغريب على الروح البشرية) كما يصفه في الجريمة والعقاب، وكما قال راسكولينكوف في الرواية “أحب الطريقة التي يغنون بها على آلة الأرغن في الأمسيات الخريفية الباردة والمظلمة والرطبة.” في الفيلم يعمل المخرج وكادره على ابراز تلك النظرة العضوية للمكان والبشر من خلال مشهد الاطلالة على فناء الشارع عِبْرَ نافذة المنزل حيث الصبية الصغيرة ترقص على أنغام الموسيقى تحت السقوط المتواصل لندف الثلج الرطب حين يقتطع دوستوفيسكي قصاصة من ورقة ليلف بها قطعة نقدية فيرميها للفتاة التي تنحني بتهذيب لتشكره فيما يواصل إلقاء احداث روايته (المُقامر) على آنا غريغوريفنا لتسجيل وقائعها.  

Visited 50 times, 3 visit(s) today