“22 يوليو”.. أحلك يوم في تاريخ النرويج في فيلمين
جاء فيلم “22 يوليو” للمخرج البريطاني بول غرينغراس مفاجأة سارة لعشاق الأفلام التي تقوم على وقائع حقيقية عرفها العالم ومازالت محفورة في ذاكرة الملايين، من دون أن نغفل التساؤل عن الجديد الذي يمكن أن يقدمه عمل سينمائي عن الحدث الحقيقي الذي يعرفه الجميع وربما يعرفون تفاصيله أيضا.
المخرج بول غرينغراس مغرم بتناول القضايا الساخنة ذات الأبعاد السياسية. وقد حقق نجاحا كبيرا من خلال هذا النوع من الأفلام خلال السنوات القليلة الماضية مثل “يونايتد 93″ (2006)، و”انذار بورن” (2007)، و”المنطقة الخضراء” (2010)، و”القبطان فيليبس” (2013). وهو يعود اليوم بفيلم من نفس النوعية، هو “22 يوليو” 22 Julyوهو تاريخ أكبر حدث من أحداث العنف منذ الحرب العالمية الثانية تتعرض له دولة النرويج المعروفة بأجوائها السلمية وطبيعتها الخلابة ومناخ الاسترخاء العام الذي يعيش فيه شعبها البالغ خمسة ملايين ونصف المليون نسمة، يتمتعون جميعا في مجتمع الوفرة والرخاء. ورغم ذلك ضربها سلاح الإرهاب الأسود بقوة في هجوم غاشم مزدوج وقع في ذلك اليوم من شهر يوليو عام 2011 شنه مسلح ينتمي لليمين العنصري المتطرف يدعى أنديرس بريفيك على مبنى حكومي في العاصمة أوسلو ثم انتقل إلى جزيرة “يوتويا” Utoyaالواقعة على بعد 40 كيلومترا من أوسلو حيث أخذ يطلق النار على شباب الأحزاب اليسارية الذين كانوا يقيمون في معسكر صيفي ترفيهي. وكانت حصيلة الهجومين 77 قتيلا ومائتي جريح.
أصبح يشار إلى هذا الحدث المأساوي بتاريخ وقوع التفجير الذي استهدف المبني الحكومي وراح ضحيته 8 أشخاص، ثم إطلاق النار على عشرات الطلاب في يوتويا الذي أسفر عن مقتل 69 طالبا وطالبة. وبذلك صبغ الحداد في ذلك اليوم حياة عشرات الأسر في ذلك اليوم، وخيم مناخ من الصدمة والحزن على النرويج كلها.
ما الذي حدث بالضبط، ومن أي زاوية يمكن تناول الحدث سينمائيا ودراميا، وماذا كانت دوافع القاتل الإرهابي الذي ثبت أنه ارتكب جريمته المزدوجة الرهيبة بمفرده؟ وهل كان هناك تقصير من جانب قوات الأمن؟ وما هي تداعيات الحادث؟
الفيلم الأول
قبل تناول فيلم “22 يوليو” يجب التوقف أولا أمام الفيلم الأول عن الحادث نفسه وهو فيلم “يوتويا 22 يوليو” (90 دقيقة) الذي عرضه مهرجان برلين في فبراير الماضي، وهو فيلم نرويجي من اخراج إريك بوبي. يركز هذا الفيلم على ما وقع في الجزيرة من وجهة نظر فتاة شابة في مقتبل العمر هي “كايا” التي كانت هناك مع شقيقتها الصغرى “إيميليا” وقت اندلاع الأحداث العنيفة. وقد فقدت ايميليا وأخذت تبحث عنها بجنون فقد وعدت والديها بالعودة معها لكنه لم تعثر عليها في خضم حالة الفوضى والفزع التي عمت في أرجاء الجزيرة، ثم اختبأت مع بعض الشباب قرب شاطئ البحيرة، وقفز الكثيرون في الماء طلبا للنجاة ولقي الكثيرون منهم مصرعه.
الفتاة محور الحدث في الفيلم الأول
تنتقل كايا من مكان إلى آخر بصحبة شاب كانت قد تعرفت عليه قبل يوم واحد من وقوع الأحداث، لتشاهد عشرات الجثث منتشرة على الشاطئ. وبينما يتمكن صديقها من الفرار في قارب صغير جاء لانتشال الشباب، أصرت مايا على البقاء ومواصلة البحث عن شقيقتها، فاستهدفها القاتل برصاصاته وتمكن منها وأصابها في مقتل.
كان المخرج النرويجي إريك بوبي يسعى لجعل الحادث الرهيب مادة بصرية فنية أقرب إلى أفلام الفن التجريبية، فهو يستخدم الكاميرا الحرة المهتزة في الجزيرة كما لو كان يصور فيلما تسجيليا، ويوحي للمشاهد بأن الفيلم مصور في لقطة واحدة طويلة متصلة على غرار فيلم “فيكتوريا” الألماني الشهير، وفي نطاق الزمن الطبيعي للحدث أي حوالي 72 دقيقة (مع بعض التفاصيل الأخرى التي تكمل زمنه النهائي مثل الإشارة إلى تفجير أوسلو). ويعتمد الفيلم فيما يصوره على شهادات الناجين من تلك الحادثة الرهيبة. إلا أن هذا الأسلوب الفني الذي اختاره صناع الفيلم الذي يتمثل في التركيز على شخصية واحدة هي “كايا” ذات الوجه الجميل المعبر، ومن خلال الأداء الواثق للممثلة الشابة الجديدة “أندريا بيرنتزين”، لم يكن لصالح الفيلم بل على العكس أضر الفيلم وقلل من قيمته الفنية كثيرا.
أسلوب تصوير الفيلم ومحدودية شخصياته وتجريديته إلى حد ما، جعلت الفيلم أقرب ما يكون إلى أفلام الرعب والفزع والإثارة، مبتعدا عن التحليل وتحقيق بناء متوازن بين مختلف جوانبه وأطرافه، كما قام المخرج بتهميش وجود الفاعل في الفيلم، فنحن لا نشاهده سوى بعد بدء إطلاق النار بفترة طويلة، وفي لقطات بعيدة يبدو فيها كشبح غامض. لهذه الأسباب فشل الفيلم في تسليط الضوء على الحدث كما كان ينبغي.
على العكس من ذلك تماما، جاء فيلم “22 يوليو” (143 دقيقة) الناطق بالإنكليزية (من الإنتاج الأميركي مع مشاركة من النرويج وأيسلندا) الذي عرض أولا في مهرجان فينيسيا ثم بثته شبكة نتفليكس مؤخرا، مختلفا تماما في بنائه وأسلوبه ومضمونه عن الفيلم السابق. فهو يتميز بالتوازن والدقة في التصوير والتجسيد، وكذلك بصوره القوية والمؤثرة، وشخصياته التي يردها دائما إلى منطقها الواضح البسيط بما في ذلك شخصية القاتل المتطرف.
العقل المتطرف
إنه يبدأ من البداية الطبيعية للأحداث، أي من قيام القاتل الشاب “أنديرس” بإعداد القنابل والأسلحة ووضعها في الشاحنة الصغيرة التي سيقودها صبيحة الثاني والعشرين من يوليو ويقوم بتفجيرها بالريموت كونترول، قرب المبنى الحكومي القريب من مقر رئيس الحكومة ليحدث انفجار مروع يصوره الفيلم ببراعة من زواياه المختلفة وبكل تفاصيله التي تقترب من التطابق. ويهيمن الطابع التسجيلي على الجزء الأول من الفيلم، حينما ينتقل أنديرس إلى الجزيرة وهو متنكر في زي شرطي لكي يبدأ حفل إطلاق النار وقتل الشباب اليساري، إلى حين نراه يستسلم بعد ذلك بإرادته لرجال الشرطة وهو رابط الجأش تماما، ثم يعلن أنه “يناضل من أجل استعادة أوروبا وتخليصها من “الإسلام” والقضاء على دعاة التعدد الثقافي الذين يشجعون قدوم اللاجئين الأجانب. ونعرف أن أنديرس استهدف شباب المعسكر الصيفي “أبناء النخبة” لأنه يرى أنهم سيكونون نخبة المستقبل أي القادة الجدد للبلاد. وهو يقول إنه مجرد واحد من جيش كبير منتشر في أوروبا، متأهب لبدء “ثورة” مسلحة عنيفة من أجل التغيير، وما هذا الذي قام به سوى البداية فقط.
أنديرس يعرف تماما ما يفعله. وهو مستعد لأن يدفع الثمن، بل يتجرأ ويطلب من الحكومة التفاوض معه على شروط وقف وقوع هجمات في أماكن أخرى. وفي لقطة شديدة الذكاء من جانب السيناريو الذي كتبه غرينغراس مع الصحافية النرويجية “أزنه سيشتادت”، يطلب أنديرس من المحققة التي تستجوبه في حضور محاميه، ضرورة تطهير الجرح البسيط الذي أصاب إصبعه بسبب تطاير جزء من جمجمة شخص ممن قتلهم. هكذا بكل بساطة وفي برود تام. أما والدة أنديرس فهي تقول للمحامي إنها لم تكن تعرف ما يدبره ابنها، وتصر على أنه كان دائما طفلا ثم شابا رائعا مسالما، لكنها تعبر في نهاية المقابلة عن استيائها مما تشهده النرويج: “ولكن ما فعله مفهوم أيضا. فالبلاد لم تعد على ما كانت عليه” أي أنها تغيرت كثيرا وأصبحت مفتوحة أمام اللاجئين.
أنديرس على هذا النحو ليس مجنونا كما سيحاول محاميه أن يثبت فيما بعد كوسيلة وحيدة لتخفيف الحكم عليه الأمر الذي يرفضه أنديرس تماما مصرا على أنه عاقل تماما، و”صاحب قضية”. وهو لا يمثل نفسه بل يمثل قطاعا قائما في أوروبا كما يقول، هذا القطاع يعتبر وجود المسلمين في أوروبا خطرا على الهوية الأوروبية.
أما المحامي فهو شخصية مركبة، فأنديرس هو الذي يطلبه بالإسم لكي يتولى الدفاع عنه. والسبب؟ أنه كان قد قابله قبل سنوات خلال محاكمة أحد أصدقائه من النازيين الجدد. لكن المحامي يحاول التنصل من أي صلة له باليمين المتطرف، فيقول إنه عضو فاعل في حزب العمال، وانه لا يوافق على ما قام به أنديرس لكنه سيدافع عنه بحكم التزامه المهني فقط. إلا أنه أيضا لا يدينه أبدا بل يطلب له جميع الضمانات التي تمنح للسجناء العاديين. هل كان المحامي يخفي حقيقة مشاعره، أم أنه صادق فيما يظهره؟ الفيلم يبقي على قدر من الغموض ليوحي بشتى الاحتمالات.
في الفيلم إضاءات كثيرة على شخصية أنديرس منذ طفولته، وكيف كان يعيش حياة منعزلة بعد انفصال والديه، ومع ذلك فهناك ما يوحي أيضا في تكوينه بنوع من الجنون: جنون الفكرة الواحدة.. أي أنه مهووس بفكرة “تحرير أوروبا” التي يرى أنها قد أصبحت “محتلة” واعادتها “إلينا”. والفيلم هنا شديد المعاصرة، فما يصوره تتردد أصداؤه في الوقت الحالي في أماكن كثيرة من العالم في ظل صعود اليمين وأقصى اليمين وفي ضوء ما وقع من أحداث عنف عنصرية مؤخرا في الولايات المتحدة.
ينجح الفيلم في تصوير الواقعة ومرتكبها، ويصور موقف الحكومة ورئيسها وكيف يواجه أولا الرأي العام والإعلام مع الإصرار على ضرورة الصمود في وجه الإرهاب وعندما يعرض رئيس الحكومة فيما بعد على الهيئة العليا لحزبه الاستقالة بعد الكشف عن وجود تقصير من جانب جهاز الشرطة أدى إلى تأخر في وصول قوة الإنقاذ الى الجزيرة، يرفضون ويصرون على استمراره. وتحقيقا للتوازن بين مختلف الأطراف يركز الفيلم في الجزء الثاني على جانب الضحايا، وعلى أسر الناجين، ويتوقف بوجه خاص أمام شخصية طالب شاب هو “فيليار” الذي أًصيب إصابات بالغة في رأسه، ففقد الإبصار في إحدى عينيه، وأجريت له عدة عمليات جراحية لكن الأطباء فشلوا في اخراج جميع الشظايا من داخل جمجمته وبقي بعضها بالقرب من جذع المخ مما يمكن يؤدي مستقبلا إلى مزيد من المتاعب الصحية القاسية. يصاب “فيليار” بشلل جزئي ويصبح عاجزا عن السير، لكنه يتمتع بإرادة صلبة تتيح له أن يقهر حالته، ويتمكن من السير ويواصل تعليمه وارتقائه، متمسكا بمبادئه الإنسانية التي تربى ونشأ عليها. وهي النهاية المتفائلة للفيلم.
المخرج بول غرينغراس أثناء اخراج الفيلم
أسلوب الإخراج
يصنع غرينغراس عملا شديد التماسك دراميا وبصريا، فهو يستخدم الكاميرا الثابتة واللقطات الواسعة ويحيط بالطبيعة الخلابة للنرويج كما تصور مدينة أوسلو في لقطات مصورة من عين الطائر تقطع الأحداث بين وقت وآخر، على خلفية موسيقية حزينة مؤثرة، وينجح في إعادة تجسيد طبيعة جزيرة يوتويا بكل تفاصيلها وقت وقوع الحادث، ويستخدم الكثير من النماذج للطلاب الشباب ويحركهم في تناغم مدهش وأداء شديد الإقناع، وينتقل بين المواقع المختلفة عبر إيقاع سريع لاهث، كما يظل ينتقل، خاصة في النصف الأول من الفيلم بين الداخل والخارج، أي بين ما يحدث في مقر رئيس الوزراء وما يقع في وسط أوسلو ثم في يوتويا، وبين الضحايا وأسرهم وخاصة والدي بطلنا الصغير “فيليار”، وبين القاتل والضحية، من دون أن تفلت منه تفصيلة أو شخصية ثانوية من شخصيات الفيلم.
لم يؤثر استخدام اللغة الإنكليزية (بلكنة أوروبية شمالية واضحة) على مستوى الفيلم بل لعله أفاد في اقناع المشاهدين خاصة الأميركيين الذين يتابعون ما تبثه شبكة “نتفليكس”، بمصداقية الأحداث التي يشاهدونها من خلال تلك الدراما العنيفة، كما كان انتقاء الممثلين بدقة من البلدان الاسكندنافية المختلفة، موفقا خاصة الممثل النرويجي “أنديرس دانيلسن لاي” في دور القاتل العنصري الفاشي “أندريس برفيك” الذي تمكن من تقمص الشخصية وعبر عنها بنظراته الجامدة التي تشع بالإصرار الذي يشي بنوع من الجنون يجعل صاحبه يمضي في طريقه غبر عابئ بمغبة يفعله. إنه ببساطة، لا يكترث، ولا يتوقف ليفكر بل يمضي في المهمة التي حملها على عاتقه حتى النهاية الدموية. صحيح أننا أمام شخصية أحادية مدانة من لحظة ظهورها على الشاشة منذ أن نراه يتحرك في الظلام داخل منزله، يعد العدة لجريمته البشعة، إلا أنه لا يبدو أيضا كمجرد مجرم سادي مجنون فقط بل كشخص يتحرك مدفوعا بأيديولوجية الكراهية ومعاداة الآخر.
والفيلم في النهاية درس في بلاغة الصورة السينمائية وقدرتها الهائلة على التعبير عن أحداث الواقع، بكل ما لها من تأثير.