يوميات الموسترا (4) بولانسكي وودي آلن

Print Friendly, PDF & Email

أمير العمري- فينيسيا

أمس كان يوم “القصر”، فيلم رومان بولانسكي المنتظر الذي عرض خارج المسابقة في الدورة الـ80 من “الموسترا”. واليوم كان يوم قطب آخر كبير من أقطاب المبدعين المؤلفين، هو وودي آلن وفيلمه الفرنسي “ضربة حظ”.

بولانسكي في التسعين من عمره. وراءه تاريخ حافل بالأفلام البديعة. منذ ثلاث أو أربع سنوات، أصبح الرجل محاصرا داخل منزل في جبال الثلج في سويسرا، لا يمكنه السفر خارج ذلك البلد البارد. لا يستطيع التصوير في باريس التي عاش فيها ردحا من الزمان كما كان يفعل في الماضي، ناهيك بالطبع عن أنه لو حاول دخول فرنسا أو غيرها، يمكن أن تعتقله السلطات وتقم بترحيله مقيدا بالأغلال إلى الولايات المتحدة حيث يواجه أحكاما بالسجن لما يقرب من 80 سنة (!!) عن تهمة تعود إلى سبعينيات القرن الماضي، رغم أن السيدة التي وقع الاعتداء الجنسي عليها عندما كانت مراهقة، ناشدت السلطات القضائية الأمريكية مرارا وتكرارا، بالعفو عنه وأعلنت تسامحها مع بولانسكي، لأن “الجميع” كانوا في ذلك الوقت “أطفالا” أو شبانا في مقتبل العمر، يعبثون.

ربما تكون هذه المشكلة المركبة قد دفعت بولانسكي لكي يختتم مسيرته في عالم السينما التي بدأت في بولندا في ستينيات القرن الماضي بفيلم “السكين في الماء”، بصنع فيلم “القصر” The Palace كملهاة هزلية شبيهة بمسرحيات الفودفيل من القرن التاسع عشر، الذي جاء الفيلم بمثابة صدمة كبرى، ليس للنقاد فقط، بل لجمهور بولانسكي ومحبيه، من النقاد أو غيرهم.

كنت شخصيا أترقب في حماس، عرض هذا الفيلم، وأتطلع إلى رؤية مخرج “ضابط وجاسوس” الذي عرض في دورة مهرجان فينيسيا 2019، متصورا أنه سيتجاوز ما حققه في فيلمه السابق الممتع، ويحلق بنا إلى آفاق عالية في سماء الفن السينمائي مرة أخرى، أما وقد شاهدت الفيلم، وصبرت صبر أيوب عليه، فقد خذلني بولانسكي كما خذل عشاق أفلامه، وخيب آمالنا بعمل ضعيف، رديء، مسلوق، يقوم على سيناريو مفتعل، وشخصيات مزعجة، يحاول أن يوجه لطمة إلى كل أعدائه، داخل وخارج صناعة السينما، في الولايات المتحدة عموما!

“القصر” ليس قصرا بل فندق كبير وسط جبال الألب السويسرية، يستقبل من يفترض أن يكونوا من عُلية القوم، أو بالأحرى الأثرياء ونجوم المجتمع، وغالبيتهم من الأمريكيين. وقد أخذ هؤلاء يتوافدون على “القصر” للاحتفال بليلة رأس السنة التي ستعلن رحيل الألفية الثانية وقدوم الألفية الثالثة، أي عام 2000.

الشخصية الرئيسية التي توجد في قلب الأحداث إن جاز القول إن هناك أحداثا أصلا، هي شخصية مدير هذا الفندق السويسري (مستر كومف). فهو موجود في كل مكان، يحاول العثور على حلول لأكثر المشاكل سخافة وفظاظة. وجوه جروتسكية مشوهة لعجائز، ونساء مترهلات، ورجال متهتكون، منهم المحتالون الذين يخططون للاستيلاء على أموال بنك سويسري، ومنهم أحد نجوم الأفلام الإباحية الذي كان قد أمن على عضوه الذكري بخمسة ملايين دولار، وامرأة فرنسية عجوز شمطاء تعاني من الشبق الجنسي (فاني أردان في دور من أقبح أدوارها وأكثرها تفاهة وسطحية)، تصطحب معها كلبها ثم تصاب بصدمة عقلية عندما يقضي حاجته فوق فراشها، لأنه لا يستطيع أن يقضيها إلا فوق الحشائش، ورجل من أوروبا الشرقية، يظهر مع زوجته وأبنائه يزعم أنه ابناً للمحتال الأمريكي، رجل الأعمال الذي يضع باروكة شقراء سخيفة فوق رأسه تذكرنا بدونالد ترامب (يتضح أنه الممثل الأمريكي ميكي رورك)، الذي يخطط بالتعاون مع موظف بنك سويسري لاستغلال موضوع تغير الأرقام على أجهزة الكومبيوتر لتحويل عدة ملايين إلى حسابه، وعدد من أعضاء المافيا الروسية يحملون حقائب مليئة بالدولارات المهربة من روسيا لكي يسلمونها للسفير الروسي ويطالبون بنصبيهم من الغنيمة.

يقوم جون سليس بدور ملياردير أمريكي ثري تجاوز التسعين من عمره يصطحب زوجته البالغة من العمر 22 عاما، يتناول الفياجرا ولا يكف عن المضاجعة، إلى أن يموت في الفراش، ولكن لكي ترث الزوجة يجب أن تمر الليلة لندخل عاما جديدا- طبقا لوصيته- وإلا تذهب ثروته إلى أسرته، لذلك تتحايل مع مدير الفندق على إخراجه ودفنه صباح اليوم التالي سرا بعد أن يوضع فوق كرسي متحرك، ويظهر بنظارات سوداء كما لو كان في غفوة.

كلها شخصيات شريرة، قبيحة، معتوهة، تدور وتثرثر وتأكل وتفرط في الشراب، وتمارس سلوكيات سخيفة قبيحة يرغب بولانسكي في أن يضحكنا عليها، لكن الضحك يستعصي، والكوميديا المفترضة تصبح مجموعة من الاسكتشات الثقيلة الظل التي لا تضحك ولا تسلي، ولا تنقل أي رسالة سوى غضب بولانسكي على تلك الطبقة، وسخريته من كبار السن، واهانته للمرأة التي تبدو كحيوان جنسي شبق، أو عجوز تتعلق بآمال عمليات التجميل لتجعل وجهها مقبولا، أما الرجل فهو كاذب ومحتال وتافه ومغرور ويتظاهر بالعظمة رغم أنه مفلس، والروس لصوص وعاهرات، وهكذا يسقط الفيلم بعد مرور أقل من 20 دقيقة من بدايته في السطحية والنماذج الكرتونية السخيفة والانتقالات التي تفيض بالسذاجة والرعونة السينمائية، والمشاهد الجامدة التي تمتلئ بالثرثرة، مع الإخراج المستهتر، الذي يمتليء بالأخطاء، والأهم من هذا كله، أن كل هذه الأنماط لا تضحك أحدا، فهي تبدو قادمة من عالم قديم، كما تدعو للنفور والاستهجان.

سنأتي في النهاية بالطبع، إلى الحفل الصاخب الذي يقذف خلاله الجميع بكل ما في جوفهم من قاذورات، لينتهي قرن ويبدأ قرن جديد، يجده بولانسكي مليئا بالأشرار، فكل الناس قبيحون، وأشرار، وكل النساء تافهات أو عاهرات، وكل الأثرياء لصوص، ولا يوجد خير في هذا العالم، ولم يبق سوى أن تبصق عليه، ولكن حتى هذا المعنى لا يصلك من خلال “رؤية” فنية وفلسفية، بل من نظرة مليئة بالقبح والسطحية. خسارة كبيرة أن ينتهي مخرج كبير إلى هذا المستنقع!

قانون الصدفة

أما وودي آلن، فهو على النقيض، لايزال يواصل التعبير عن فلسفته وحبه للحياة وتمسكه بما فيها من جمال حتى مع معرفة بأن الموت قريب، وأن وجودنا فيها مؤقت. وفيلمه الجديد “ضربة حظ” Coup de Chance يتسق تماما مع ما سبق أن عبر عنه في أفلامه السابقة، أي مع إيمانه بالصدفة والقدرية، وبأن الكثير مما يصيب الإنسان، من خير أو سوء، يمكن أن يكون نتاج الصدفة أو الحظ، وليس نتيجة تخطيط وجهد وعمل. وبالتداعي مع هذه الفكرة، هناك فكرة “عبثية الوجود” وفوضى العالم، وأن الاختيار الطبيعي، يقوم على العشوائية والفوضى.

فيلمه الجديد فيلم فرنسي تماما، سواء من حيث اللغة أو المكان أو الممثلين، فهو أيضا اضطر إلى تحويل السيناريو الذي كتبه إلى اللغة الفرنسية والأجواء الفرنسية حتى يستطيع أن يصوره ويخرجه في باريس وضواحيها، بعد أن تخلت عنه شركات الإنتاج الأمريكية، وقاطعه عدد كبير من الممثلين الذين سبق أن عمل معهم، رغم أنه لم يُقدم للمحاكمة، ولم يثبت أنه ارتكب جرما، ولم يصدر عليه حكم قضائي.

إنه يعيد اللعب على نفس الفكرة التي سبق أن عبر عنها في فيلمه البديع “نقطة المباراة” Point Match (2005)، أي فكرة الجريمة المبررة، التي تلعب الصدفة دورا كبيرا في عدم كشفها. مرة أخرى لدينا موضوع يتناول الحياة الزوجية، الملل، الوقوع في الحب الذي يصبح مبررا للخيانة، ثم الجريمة التي لا مناص من وقوعها من دون تخطيط أو قصدية. هذه كوميديا بسيطة تحمل كل فلسفة صانعها، من دون حذلقة أو ادعاء، تدور في جو باريسي يوحي بالأمل والحب.

“فاني” الفتاة الفرنسية الجميلة التي تعمل في تنظيم المعارض الفنية، متزوجة من “جون”، وهو رجل أعمال ناجح ثري لا يؤمن بالحظ بل بأنه صانع حظه، وأن مهنته هي أن يساعد الأثرياء على تحقيق مزيد من الثراء. ورغم أنه يكبرها في العمر، ورغم الخلاف الكبير بينهما، إلا أن فاني تحبه، أو تقنع نفسها بأنها تحبه فقد تزوجته بعد تجربة زواج فاشلة، وانتقلت من الحياة البسيطة لفتاة باريسية متمردة الى حياة البورجوازية الفرنسية، تتمتع بالثراء والحياة السهلة.

تلتقي فاني ذات يوم (بالصدفة) بزميل قديم لها من أيام الجامعة هو “آلان” لا يضيع وقت طويلا قبل أن يصارحها بأنها كانت دائما فتاة أحلامه، وأنه لايزال يحبها ويهيم ويحلم بها. و”آلان” هو النقيض لجون، فهو شخص منبسط تلقائي رومانسي، مرح، يكتب روايته الأولى، ويعيش حياة متواضعة.

وستجد فاني نفسها مشدود إليه وقريبة منه، ويشك جون في انصرافها عنه فيراقب تليفونها ثم يكتشف وجود الشخص الآخر في حياتها، بينما تواصل هي الكذب عليه متسترة على علاقتها الجديدة، لكنه يخطط لقتل آلان، وينجح في ذلك ثم يستأنف حياته مع زوجته الجميلة التي يقدمها في الحفلات العامة التي يدعى إليها إلى رجال الأعمال، كحلية جميلة رقيقة. حماة جون، أم فاني، تشك في أمر جون، وفي سر الاختفاء المفاجئ لآلان، وتتعقب جون إلى أن يقع مع يقع بالصدفة.

الفيلم ليس القصة بل التعبير عن المشاعر خلال القصة، ودس الفلسفة الخاصة لوودي بين الأسطر. ومن “حظ” آلن أن يعود مدير التصوير الإيطالي الكبير فيتوريو ستورارو للعمل معه مجددا (وهو الذي صور له من قبل أفلامه الأربعة السابقة)، فهو يصنع صورة بديعة لأجواء باريس الرومانسية مع مسحة من الغموض والإثارة، بحيث يجعلها تبدو كما لو كانت تحدث في الخمسينيات، زمن جودار الذي يكن له آلن محبة وإعجابا كبيرين، ومزج بديع بين الصورة مع موسيقى الجاز التي تشغل حيزا كبيرا من الفيلم ومن جميع أفلامه.

وفق آلن كثيرا في اختيار طاقم الممثلين جميعا وعلى رأسهم الممثلة الشابة “لو دو لاج” في دور فاني، و”ميلفي بوبو” في دور جون، و”نيلز شنيدر” في دون آلان، وبالطبع “فاليري ليميرسييه” في دور الأم/ الحماة، المتشككة الدؤوبة التي تنقب وتبحث ولا تكف عن السير وراء شكوكها إلى أن يقع كان ما يقع طبقا لمنطق الصدفة أو الحظ!

Visited 2 times, 1 visit(s) today