“يهوذا والمسيح الأسود”.. عصر القوة السوداء

Print Friendly, PDF & Email

أمير العمري

في يوم الرابع من ديسمير 1969، داهمت قوة ضخمة من عناصر الشرطة فرع منظمة “الفهود السوداء” في ولاية إلينوي، وقتلت زعيم الفرع وهو أيضا نائب المنظمة على المستوى الأمريكي، فريد هامبتون ومجموعة من رفاقه، دون أي إنذار. وكانت تلك نقطة جديدة سوداء، تلت اغتيال زعيم حركة الحقوق المدنية الأمريكية مارتن لوثر كنج في نيويورك في العام السابق.

في أواخر الستينيات، كانت الحرب قد اشتعلت بشدة، بين حركة الوعي الأسود أو القوة السوداء وعلى رأسها جماعة “الفهود السود” Black Panthers من ناحية، والمؤسسة الأمنية الأمريكية وعلى رأسها وكالة التحقيقات الفيدرالية (FBI) التي كان لايزال يرأسها مؤسسها المعروف بتشدده المقيت، وعنصريته الفظة، إدجار هوفر.

ظهرت أفلام وثائقية كثيرة تروي جوانب مختلفة من تاريخ “الفهود السوداء”، ربما يكون من أشهرها بل وأفضلها، فيلم “الفهود السوداء: طليعة الثورة 2016. ولكن ها نحن أمام فيلم روائي طويل يأتي من قلب صناعة السينما الأمريكية في هوليوود، هو فيلم “يهوذا والمسيح الأسود”Judas and the Black Messiah، من إخراج شاكا كنغ، وهو الفيلم الروائي الطويل الثاني لهذا المخرج الأفرو- أمريكي، بعد عدد من الأفلام القصيرة ومسلسلات التليفزيون وفيلم طويل واحد في 2013.

من النادر للغاية أن تتاح لمخرج من الجماعات الأفرو- أمريكية، فرصة تقديم عمل سينمائي احترافي كبير من إنتاج إحدى شركات هوليوود الكبرى، هي شركة وورنر، التي أتاحت إمكانيات كبيرة لتنفيذ هذا الفيلم مع مجموعة كبيرة من الممثلين الأمريكيين، ومع إسناد دور إدجار هوفر إلى الممثل الكبير مارتن شين. لذلك كان يتعين على مخرجه وصاحب فكرته، شاكا كنغ Shaka King أن يتعامل مع المادة السياسية في الفيلم من خلال شكل يمكنه أن يجذب الجمهور.

يروي الفيلم قصة درامية متعددة الجوانب، تتخذ شكل فيلم الإثارة البوليسية (الثريللر)، تتابع المراحل المختلفة التي سبقت اغتيال فريد هامبتون، وتقدم صورة بانورامية من داخل حركة الفهود السوداء، وحالة الحرب التي أعلنت ضد هذه الحركة من الطرف الآخر، من جانب وكالة التحقيقات الفيدرالية، التي أستباحت استخدام جميع الوسائل القذرة غير القانونية، لتصفية نشاط الحركة التي أقلقت مضاجع “المؤسسة” الأمريكية، واعتبرت حسب ما يأتي على لسان إدغار هوفر في الفيلم (الذي يقوم بدوره الممثل الكبير مارتن شين): تهديدا لوجود أمريكا.

مدخلنا للتعرف على الحركة، وسياستها، شخصية “فريد هامبتون” نفسه. وهو شاب شديد التوهج فكريا، وهب نفسه للنضال من أجل تحقيق العدالة للسود الأمريكيين، ووقف الاضطهاد العنصري السائد في المجتمع الأمريكي، وذلك على أرضية يسارية (ماركسية- ماوية)، تضع نضال السود في قلب نضال الطبقات الكادحة المهمشة، من الملونين والمهاجرين والمشردين والبؤساء والعاطلين. ويفخر هامبتون- كما نرى في الفيلم- بأن حركته أسست “برنامج الإفطار” الذي يشمل تقديم وجبة الإفطار يوميا وبالمجان، لأكثر من 3 آلاف طفل من أطفال المناطق المحرومة. وسوف يسعى هامبتون أيضا إلى توحيد الفرق والجماعات المختلفة التي كانت تتحرك على أرضية النضال ضد الظلم الاجتماعي، حتى من داخل الأمريكيين البيض، بل ونجح في إقناع عصابة “التيجان” الاجرامية، بنبذ العنف الاجرامي، والانضمام إلى حركة النضال (بالعنف) لتغيير المجتمع فيما عرف بــ”العنف الثوري”، وكان يجده مبررا كونه كان يتجه أساسا لمواجهة عنف الشرطة المجاني ضد الشكل التنظيمي لجماعته، من الناحية الأخرى.

كان هامبتون، كما يظهر في الفيلم، خطيبا مفوها، يعرف كيف يستخدم عبارات التحريض والشحن المعنوي وإيقاظ الوعي بين جماعات السود والملونين. وكان من حسن الطالع أن يسند المخرج كنج دور “هامبتون” إلى الممثل المتألق الموهوب “دانييل كالويا”، الذي نجح في إكساب الشخصية ملامحها الإنسانية، مع مسحة من الحزن الخفي، بل وأظهر التناقض بين جرأته الشديدة وقوة شكيمته وهو يلقي خطاباته التحريضية الملتهبة في الاجتماعات العامة، وبين نزوعه إلى التأمل، مع خجله الطبيعي عندما يختلي بحبيبته “ديبورا جونسون” وعي الفتاة التي وقعت في غرامه بعد أن استمعت إلى كلماته وعباراته التي تتدفق بشكل تلقائي تماما، واعتبرت أنه “شاعر” أكثر منه مناضل، رغم أنه القائل بأن “إن القوة السياسية تتدفق من فوهة بندقية”، و”أنا ثوري أحب ناسي ومن غير الناس لا توجد قوة، فالقوة تأتي من الناس”. وقد نجح كالويا في التعبير عن مشاعر هذا الشاب الذي أخلص لقضيته، ولم يتنازل أو يرضخ بل عندما سيأتي الوقت الذي يتعين أن يختار فيه بين الفرار إلى خارج البلاد، إلى كوبا أو الجزائر كما اقترح عليه زملاؤه واصدقاؤه، أو البقاء ومواجهة الموت الوشيك، فإنه سيفضل البقاء والموت، فالقضية كما يرى، ليست قضية شخص: “يمكنهم قتل الثوري لكن لا يمكنهم قتل الثورة”.

وإذا كان “هامبتون” هو “البطل”، فالبطل المضاد anti-hero هو “وليم أونيل” وهو شاب أسود من نفس طبقة المقهورين، لكنه اختار طريق الجريمة، فهو سارق سيارات محترف. نراه في المشهد الأول من الفيلم يستخدم “بادج” أو “علامة” مزورة للشرطة الفيدرالية، أي ينتحل شخصية ضابط في التحقيقات الفيدرالية لكي يسرق سيارة، ومن دون استغراق فيي تفاصيل، نراه بعد أن وقع في قبضة الشرطة وتم تسليمه لضابط فيدرالي يستجوبه، ويعلنه بأن الجرائم التي ارتكبها ومنها انتحال شخصية ضابط وسرقة السيارات.. تضمن له البقاء في السجن بقية عمره. ولكن يمكنه أن يكون حرا.. فالخيار له. كيف؟ أن يصبح مرشدا يتعاون مع الوكالة. مهمته أن يخترق حزب الفهود السوداء ويصبح قريبا من هامبتون، يسجل وينقل المعلومات أولا بأول. ومن هذه اللحظة نصبح أمام شخصية أوقعها القدر في مأزق لا يمكنها الخروج منه.

ينجح “أونيل” في الحصول على ثقة “هامبتون”، ويصبح مقنعا تماما في دوره كعضو متشدد في “الفهود السوداء”، يشارك في تظاهراتهم ومؤتمراتهم، وبعد أن يتم القبض على هامبتون بتهمة مضحكة هي سرقة ما يساوي 71 دولار من قوالب المرطبات (الأيس كريم)، يتم تصعيد “هامبتون” ليصبح رئيس الأمن في التنظيم، وهو سيستمر في العمل كمخبر واش أو كما يوصف أمثاله (كفأر)، يشي ويسجل ويلتقي في لقاءات سرية بالضابط المسؤول عن تشغيله (روي ميتشيل). إلا أمه مع مرور الوقت ومع زيادة جرعة العنف ضد أبناء جلدته نتيجة وشاياته، يقع في حيرة واضطراب ذهني وعاطفي شديد، فهو قد بدأ يشعر بالتعاطف مع قضية الفهود السوداء، ولكنه في الوقت نفسه، مضطر للرضوخ لما يطلبه منه الضابط “ميتشيل”.

إلا أن الفيلم لا يقدم شخصية “أونيل” أبدا، باعتباره ضحية، فهو يعرف ما يفعل وهو أيضا يجني ثمار خيانته لمن وضعوا ثقتهم فيه.. فلديه نهم للمال بل إنه بل قد يتعلم أيضا كيف يساوم “ميتشيل” ويطلب المزيد مقابل الخدمات التي تكبر تدريجيا.

ولأننا أمام فيلم يستخدم أسلوب الإثارة البوليسية لكي يجعل موضوعه قريبا من الجمهور، سيقع أونيل في بعض المواقف بحيث يكاد ينكشف أمره، لكنه ينجو، ويستمر رغم أنه يصل في لحظة ما قرب النهاية، أي بعد أن يصبح مطلوبا منه المساهمة في اغتيال هامبتون، إلى التراجع. لكن ميتشيل يهدده بما يمكن أن يلحقه من جانب الفهود السوداء إذا علموا بأنه “فأز” مزروع من قبل المباحث الفيدرالية في وسطهم، وهو تهديد مباشر كفيل بأن يجعله يرتجف فزعا!

سيخرج هامبتون من السجن بعد ثلاثة أشهر على ذمة القضية.. ولكن هوفر المدير الحديدي الشرس لجهاز التحقيقات الفيدرالية، سيسفر عن وجهه العنصري القبيح عندما يطلب من “ميتشيل” التخلص من “هامبتون” قبل أن يعود إلى السجن مجددا (فوجوده خطر على وجودنا).. وليس هناك لدى ميتشيل سوى “أونيل” لكي يساعد في قتل هامبتون.

يستخدم المخرج مقابلة تليفزيونية مع “أونيل” يوزع مقاطع منها على مدار الفيلم، ونعود في نهاية الفيلم لكي نشاهد المقابلة الحقيقية الوحيدة التي أجريت مع أونيل في عام 1989 التي يشرح فيها قصته مع الفهود السوداء. وسنعرف مع نزول عناوين النهاية، أنه انتحر في الليلة التي سبقت بث هذه المقابلة. أما هامبتون، فسنعرف أنبنه تولى قيادة الجماعة بعد ان أصبح شابا.

إنه فصل شديد الدموية من تاريخ النضال من أجل الحقوق المدنية للسود الأمريكيين. وفي الفيلم الكثير من التفاصيل التي تجعل الجمهور يدرك ويعرف ماذا كانت قضية تلك الجماعة.. وأنها لم تكن تسعى للعنف بل كانت فقط ترد العنف بالعنف، وأن المباحث الفيدرالية لجأت إلى قذر الوسائل للقضاء على الحركة وتشويهها. وسنعرف أيضا أن عائلات الضحايا رفعوا في عام 1970 قضية ضد التحقيقات الفيدرالية، استغرق 12 عاما، وانتهت بتعويض 1.85 مليون دولار. وهو ما يؤكد وقوع تجاوزات وصفت بأنها “مذبحة” مدبرة سلفا!

جدير بالذكر أن الممثل دانييل كالويا حصل على جائزة الأوسكار لأفضل ممثل مساعد عن دوره في الفيلم الذي رشح لعدد كبير من الجوائز منها جائزة أفضل فيلم. وكالويا يظل السبب الرئيسي في جاذبية هذا الفيلم وصورته المقنعة المؤثرة. إن أداءه في دور “هامبتون” يرقى إلى أفضل مستويات التمثيل في العالم. وهو بريطاني من أصل أوغندي، قادم بالطبع، من عالم المسرح شأن جميع عمالقة التمثيل.

Visited 11 times, 1 visit(s) today