“يا مهلبية يا”.. ياخسارة الوطنية !
هذا الفيلم المصري الذي كان عرضه الأول في ديسمبر من العام 1991 يمثل واحدا من أنضج أفلام الثنائي ماهر عواد وشريف عرفة شكلا ومضمونا: فيه مغامرة فنية بعمل فيلم داخل فيلم، وبتكامل الشكل التهكمي الخيالي الإستعراضي الكوميدي الذي يميز كتابة ماهر عواد، وفيه أيضا هجائية عنيفة لمن يستغلون ذاكرة النضال الوطني، اختلط في هذه الذاكرة الحابل بالنابل، والنضال بالتجارة، والشعارات بالحقائق، وكان هناك أيضا من لم يأخذوا حقهم، موضوع صعب وشائك، ولكن التعبير عنه بالخيال والموسيقى والغناء كان قويا مدهشا.
الفيلم هو “يا مهلبية يا”، وهو ثالث أفلام عواد وعرفة بعد “الأقزام قادمون” و”الدرجة الثالثة”، الأول بطولة يحيى الفخراني وليلى علوي مع مجموعة من الأقزام، وقد كان بداية هامة لتجارب عواد وعرفة المختلفة، والفيلم الثاني من بطولة سعاد حسني وأحمد زكي، ولكنه حقق فشلا ذريعا، وهو أيضا تنويعة على هذا الصراع بين المهمشين والكبار، بين العالم الأول والعالم الثالث، ودوما ينتصر عواد للمهمشين، يراهم قوة قادرة على الإتحاد وتغيير الأمور، ودوما هناك نظرة تهكمية قوية، تنتقد عدم التوازن في العلاقات، وتدين المجتمع الإستهلاكي، وفي فيلمهما الرابع “سمع هس” بطولة ممدوح عبد العليم وليلى وعلوي، ستظهر نفس التنويعة، بعد أن يسرق مغني كبير لحنا من اثنين من المغنيين المهمشين، وسيثور المهمشون بسبب ذلك، وهو ما نراه أيضا في نهاية فيلم “الحب في الثلاجة”، كتابة ماهر عود وإخراج سعيد حامد، حيث تتشكل ثورة جديدة عنيفة، بعد طول تجميد وتهميش في الثلاجات.
أما “يا مهلبية يا” فهو أيضا يدير صراعين متوازيين: مهمشون في كباريه في مواجهة الإنجليز ثم الملك، ومخرج وكاتب سيناريو من ناحية في مواجهة رجل أعمال من ناحية أخرى، يريد شراء مخزن ورثه المخرج عن عمه، واتضح بعد ذلك أن المخزن ليس إلا استديو سينمائي عتيق، كان ينتج أفلاما طوال نصف قرن.
صراع وانتصار
الصراع بين المهمشين في الكباريه والإنجليز والملك ينتهي بتحولهم فعلا الى مناضلين، يصلون في النهاية الى القيام باغتيال الملك، والصراع بين رجل الأعمال سيد بعكوك من ناحية، وبين المخرج شكري الصافي والمؤلف مرعي من ناحية أخرى، سينتهي بإنجاز الفيلم الذي تخيلاه رغم أنف وتهديدات بعكوك، ورغم تهديدات نقابة الموسيقيين، ورجال الضرائب، ورجال الشرطة الذين سيقبضون على الجميع في مشهد النهاية، ولكن بعد أن نكون قد شاهدنا الفيلم عن المهمشين وزعيمتهم عنّاب في مواجهة الإنجليز والملك.
هنا تنوعية جديدة بين أهل الفن وتجار العالم الإستهلاكي، وبين المهمشين والكبار في سنوات الأربعينيات، لعبة أخرى مبتكرة ولكنها مركبة ومعقدة نسبيا، لأن هناك فيلما عن الوطنية داخل فيلم يحكي عن محاولة إعادة استديو سينمائي الى الحياة، ثم صناعة فيلم داخل هذا الأستديو، والفيلمان ممتزجان ومختلطان، فكأن الصراع ضد الزيف وصيادي البيزنس امتداد للصراع ضد أعداء الوطن في الأربعينيات، ومخرج الفيلم وزميله المؤلف يحاربان بالفن، مثلما حارب الوطنيون بالسلاح.
ومثلما يحدث في أفلام عواد وشريف فإن التمرد والإنفجار لا يحدث فجأة، ولكنه يكون نتيجة تحول: المهمشون لم يتغيروا إلا بعد تجربة حرب فلسطين، ومقتل زميلهم زلومة بسلاح فاسد، والمخرج والمؤلف لم يرفضوا بيع المخزن، إلا بعد أن اكتشفوا اللافتة التي تؤكد أن المكان استديو قديم.
وضع القصة الوطنية كفيلم يصوره مؤلف ومخرج حقق تواصلا مدهشا بين نضال الماضي ونضال الحاضر، بين أحوال الأمس وأحوال اليوم، نري سيد بعكوك مثلا في الأربعينات كغني حرب يكسب من بيع السجائر، هذا الشكل قدم التحية كذلك للمهمشين ولأهل الفن قديما وحديثا، ولكن دون الإبتعاد عن تلك النظرة التهكمية اللاذعة سواء في لامبالاة المهمشين قبل أن يأخذوا اللعبة بجدية، أو في مطاردة الدولة لعملية إنجاز فيلم سينمائي، مرة بحجة الضرائب، ومرة لأن عودة نشاط الاستديو يحتاج الى إجراءات، ومرة لأن المغنيين في الفيلم يحتاجون الى تصريح بالغناء، ومرة لأن مفرقعات الفيلم ليست سوى ديناميت، يمكن استخدامه في أي عمليات إرهابية.
الخيط الواصل بين الفيلم، والفيلم الآخر بداخله، هو حياتنا التي تحكمها الفوضى، وعنوان الفيلم “يا مهلبية يا” هو جزء من أغنية يرددها المهمشون في الأربعينيات، ثم يرددها الممثلون في نهاية الفيلم، وقد كانت العبارة جزءا من إعلان تليفزيوني قديم عن المهلبية، وهي نوع من الحلوى اللذيذة، ولكن مصطلح “مهلبية” يستخدمه المصريون بمعنى الفوضى والتسيب، والملاحظ أيضا أن سيد بعكوك يستخدم في كلامه شعارا شهير لأحد إعلانات البسكويت التليفزيونية في تلك الفترة هو ” زي ما بتحبه .. بيحبك كمان”.
كانت حيانتا وستظل محكومة بالفوضى، يختلط فيها الهزل بالجد، حتى في تاريخنا الوطني اختلطت الأمور، وفي الحاضر صار كل شيء قابلا للبيع والشراء، استديو السينما صار مخزنا للدقيق، وصناعة فيلم سينمائي تتم بمشقة، ويتم تصويره سرا واختلاسا، مهلبية في الوطنية، وفي السينما، وفي ماضينا، وفي حاضرنا، أبطال فيلم الأربعينيات يقسمون أموال النضال عليهم، سواء من وراء سيدة الكباريه مراهم، أو من أموال ابنة اختها عنّاب، وموظفو الإدارة يمكن أن يغيروا رأيهم ، وأن يسمحوا بتصوير الفيلم، إذا حصلوا على رشوة، فوضى كاملة تصنع كوميديا سوداء ، سواء تأملا لنضال الأربعينيات، أو تأملا لحال الفن في بداية التسعينيات من القرن العشرين.
في تجارب تالية سيطور ماهر عواد هذه الفوضي ليجعل مغنيا شهيرا يحول أغنية “أنا حمص يا حلاوة” الى أغنية وطنية تقول كلماتها ” أنا وطني وبطنطن “، حدث ذلك في فيلم “مسع هس” الذي يتهكم على ما وصل إليه حال الفن، وحال التجارة بالأغاني الوطنية، وسنجد هذه الفوضى أو المهلبية في فيلم “رشة جريئة” تأليف ماهر عواد وإخراج سعيد حامد، وبطولة أشرف عبد الباقي وياسمين عبد العزيز، وتعبير رشة جريئة مصطلح مصري يشير الى انفاق الفلوس ببذخ، ويشير أيضا الى معنى “الرشوة”، والفيلم بأكمله رؤية تهكمية لحال الفن وأهل الفن، في ظل مجتمع انقلبت فيه الأحوال، وصعد فيه غير الموهوبين.
خفة لا تحتمل
” يامهلبية يا” إذن يتأمل الماضي والحاضر، ويكتشف الفوضى والخفة التي لا تحتمل، والتي ندير بها حياتنا، المهلبية في الأربعينيات كان أداة سخيفة لقتل الملك، وضعوا الشطة في المهلبية بدلا من السم، ولكن المهلبية كانت أصلا في هذا التنظيم العجيب من أبناء الشوارع، الذي ترأسه مراهم ثم عنأب لقتل الإنجليز، نراهم وقد أضافوا لهم لص اسمه مليم فقر ناشف، ثم أطلقوا عليه اسم أحمد، هو الذي سيقنع زملاءه الأربعة بادعاء قتل الإنجليز، وبادعاء كتابة المنشورات، ثم يقتسم الأموال مع بقية الفريق، صار النضال تجارة وبيزنس، مجرد لعبة خرجت من الكباريه الى الشارع.
عنّاب وحدها أخذت الموضوع على محمل الجد، أرادت قتل الملك باستدارجه الى الكباريه، ولكن أحمد لم يقتله، وعندما ذهبوا إليه في القصر لم يضع السم في المهلبية،اعتدى الملك عل عناب، فقال لها أحمد أنه ضحى بشرفها من أجل شرف الوطن.
قاسية جدا الصورة التي تهكم بها عواد على تجار النضال الوطني في الفيلم، أحسب أنه يترجم هنا فوضى الحديث الدائم عن الوطن في سياقات علاقة لها إلا بالمصلحة، منظمة “سيب وانا أسيب” أعضاؤها من المهمشين والغلابة، ومن يعملون في الملهى أيضا من الفئة الدنيا، أحدهم يغني متسائلا: لماذا لم أصبح ملكا؟ فيقبضون عليه، لن يتغير حال فريق عناب إلا بعد إرسالهم الى حرب فلسطين، يعودون وقد صمموا على الإنتقام، فيفجرون قصر الملك بالديناميت.
في هذا الفيلم داخل الفيلم كل أيقونات سنوات الأربعينيات، مثل زمن الراقصات والأرتيستات، وعالم الجمعيات السرية، وما تردد عن وجود أسلحة فاسدة في حرب فلسطين، وتغير التأييد الشعبي في اتجاه كراهية الملك، بعد الترحيب به في سنوات حكمه الأولى، ويقدم الفيلم أيضا صورة الملك الشعبية كزير للنساء، وكشخص شديد الخفة يسرق الملاعق والسكاكين، وكضيف دائم على الملاهي والكباريهات، صورة الملك في “يا مهلبية يا” من أسوأ ما قدمت السينما المصرية عنه، واغتياله ذروة مقصودة تمثل انتقام الغلابة في صورتها القصوى، ومحاولة للتخلص من كل هو سيء ورديء.
يختلط الجد بالهزل في حياتنا وفي الفيلم أيضا، ويتقاطع فيلم تدور أحداثه في الأربعينات مع مشاكل صناعة الفيلم نفسه، تنتقل الفوضى من الواقع الى الفيلم وبالعكس، عناب في الفيلم تلعب دورها عاهرة بالفعل وجدها المخرج والمؤلف في إحدى الكازينوهات، ومحاولة اغتيال الملك في الفيلم، توازيها محاولة أرادها عم عبيد حارس الأستديو، وقت افتتاح الملك للمكان، عم عبيد أيضا حلقة وصل بين خيال فيلم الأربعينيات، وواقع سنوات التسعينيات.
في بداية الفيلم ينتقد سيد بعكوك، رجل الأعمال الذي يشتري كل شيء، أفلام المؤلف مرعي لأن الخير ينتصر في نهايتها، فيرد مرعي منفعلا بأن الشر ينتصر في الواقع، فهل ينتصر على الشاشة أيضا؟ يقول له: اتركوا الخير ينتصر ولو على الشاشة، ويضيف صارخا :” أنتوا عايزين تكوّشوا على كل حاجة؟!!”
“يا مهلبية يا” يحقق نفس المنطق، فيجعل المهمشين يقتلون الملك عقابا له، وهو ما لم يحدث في الواقع طبعا، ينتصر المهمشون على الشاشة في أفلام عواد وعرفة، بينما ينتصر الحيتان والكبار في الواقع، وحتى في فيلم الأربعينيات فإن عناوين النهاية تقول إن أحمد استشهد في حرب ،56 ثم عاد فاستشهد في حرب1967، ثم عاد فانتصر في حرب73، وأن عناب قد صارت زعيمة فيما بعد لأحد أحزاب المعارضة، وأن اثنين من أعضاء الفريق قد عادوا الى السجون في قضايا غير سياسية، ما زالت المهلبية والفوضى عنوانا لكل شيء، ومازال المواطن مليم فقر ناشف المدعو ب أحمد يدفع الثمن.
النضج والتكامل
حققت خلطة عواد وعرفة الخيالية التهكمية والإستعراضية الكوميدية هنا درجة عالية من النضج والتكامل، بالذات في توظيف الأغنيات، وفي ضبط مشاهد الذهاب الى فيلم الأربعينيات، والعودة الى الأستديو، كسر الإيهام يعمل في الفيلم بصورة ذكية تدعو الى تأمل الماضي والحاضر معا، وشريف عرفة كمخرج، وبهاء جاهين ككاتب للأغاني، ومودي الإمام كملحن وكواضع للموسيقى التصويرية، ومحسن نصر مديرا للتصوير، ورشدي حامد مهندسا للديكور ومشاركا في تصميم الملابس مع ليلى علوي، وعادل منير كمونتير، كل هؤلاء تعاونا معا في منح الفيلم ككل، واستعراضاته بشكل خاص، هذا الإيقاع والطابع شديد الحيوية، لا تنافر ولا ترهل، الإنتقال من الواقع الى استعراضات الكبارية يذكرنا بأفلام هامة في عالم الميوزيكال مثل فيلم “كباريه” الأمريكي ، ولكن بالطبع في سياق آخر، بالنسبة لنا فإن “يا مهلبية يا” بصمة هامة في سبيل تقديم فيلم ميوزيكال مصري، بعيدا عن الموضوعات الرومانسية التقليدية، إنه فيلم يقدم نضال الأربعينيات وحرب فلسطين في صورة استعراضية وموسيقية، ورغم تقديم مشاهد للحرب، وإطلاق المدافع، وموت الجنود، لم نفقد الإحساس أبدا بأننا نشاهد فيلما موسيقيا، لأن عرفة ومحسن نصر ومودي الإمام نجحوا في تحويل الحرب الى مسرح بالإضاءة والأنغام، هناك دوما هذا المعادل الخاص للأماكن وللمواقع، حتى أغنيات الكباريه بإضاءتها الناعمة، أخذتنا طوال الوقت الى عالم ساحر وغامض، ولقاء الملك مع عناب في القصر بدا أقرب الى لقاء في عالم ألف ليلة وليله وليس لقاء في قصر واقعي، وبين خيال فيلم الأربعينيات، وواقعية عالم الأستديو، نعيش الضحك والمأساة بكل قوة وبراعة.
الممثلون أيضا كانوا مميزون: هشام سليم في شخصية أحمد، دور يستلزم الحضور والخفة والظرف، الى حد كبير نجح هشام في تقديمه، ليلى علوي ليست فقط بطلة الفيلم في دور عناب، ولكنها أيضا منتجة الفيلم، اجتهدت كثيرا ولكن وزنها الزائد كراقصة لم يكن متوافقا مع أوزان راقصات الأربعينيات، الرباعي المرح أحمد آدم وأشرف عبد الباقي وصلاح عبد الله وعلاء ولي الدين كانوا الأكثر تألقا ولمعانا في أدوارهم، وبالذات علاء في دور زلومة، مواهب حقيقية أثبتت قدراتها فيما بعد في أفلام وأدوار أخرى كثيرة.
هناك أيضا الثنائي عبد العزيز مخيون في دور المخرج شكري الصافي، وأحمد راتب في دور مرعي المؤلف، كانا مناسبين تماما للشخصيتين، ومعهما أيقونات أفلام عواد وعرفة الذين لمعوا في أفلامهم مثل أحمد عقل (سيد بعكوك)، و القدير محمد يوسف (عبيد حارس الأستديو)، ويوسف عيد (مغاوري)، وعثمان عبد المنعم ( شاويش الجيش)، وهناك أيضا علية الجباس التي قدمت دور العالمة مراهم بحضور وخفة ظل.
“يا مهلبية يا” يبدو أقرب الى مسخرة استعراضية، توهمك بالخفة والهزار، بينما تقوم بالتشريح والتهكم والتأمل ماضيا وحاضرا، تبدأ باللعب وتنتهي بثورة المهمشين العنيفة كالمعتاد، فوضى تنتهي بانفجار، ومهلبية لذيذة في صورة حكاية ظريفة، ولكنها هجائية عنيفة وخطيرة، لا تقنع بالمتعة فقط، ولكنها تريد لك أيضا أن تفكر وتناقش ، قبل أن تغني للمهلبية وللملوخية.