وودي ألين يعود إلى “كان” بقصة حب جديدة
وسط إجراءات أمنية غير مسبوقة، افتتحت مساء الأربعاء، الدورة التاسعة والستون من مهرجان كان السينمائي بالفيلم الأمريكي “مقهى المجتمع” للمخرج المرموق وودي ألين، وهو فيلمه الثالث الذي يفتتح به المهرجان العريق بعد “نهاية هوليوود” (2002) و”منتصف الليل في باريس” (2011).
مرة أخرى يعود الساحر الكبير الذي لم يعد يظهر كممثل في أفلامه بعد أن تقدم في العمر، بقصة جديدة يضفي عليها هذه المرة الطابع الأدبي، فيبدو الفيلم كما لو كان رواية من تلك الروايات الرومانسية القديمة الساحرة التي كنا نقرأها ونحن أطفال. ويروي ألين بصوته قصة الفيلم من خلال ذلك التعليق الصوتي المصاحب الذي يبرز بين آونة وأخرى، وهو تعليق أحيانا يتسم بالموضوعية في رصده الملامح العامة للفترة خاصة في المشاهد الأولى التي يستعرض فيها عالم هوليوود في الثلاثينيات، وأحيانا أخرى يتخذ التعليق الصوتي طابع السخرية الخفيفة والتعليق المرح على سوكيات الشخصيات بل ومصائرها أيضا.
وودي ألين يهودي ناقم على يهوديته، دائم السخرية منها منذ أفلامه الأولى، متمرد على عائلته وتشبثها الشكلي الي يراه مضحكا، بالتراث، وهو يعود مجددا ليقدم مزيدا من السخرية من عائلته اليهودية وتقاليدها البالية ومعتقداتها الخاصة المرتبطة بمفاهيم دينية لا يؤمن بها ألين، لكنه يلمس تناقضاتها بأسلوبه المحبب الساحر البسيط الذي يتسلل إلى القلب دون أن يكون مفروضا فرضا من الخارج، ودون أن يحمل الفيلم “رسالة” مباشرة جامدة. الفيلم يروي قصة حب ملتبسة، قد تبدو من القصص التي يصعب تصديقها ربما لافتقادها المنطق المألوف، لكن ألين يقدمها في إطارها الإنساني الذي يجعلنا نراها وكأنها يمكن أن تحدث لنا جميعا أيضا رغم غرابتها. الزمان هو ثلاثينيات القرن الماضي، والمكان في البداية، هوليوود التي يتجه إليها بطلنا اليهودي الشاب “بوي دروفمان” (جيسي أيزنبرغ).. إبن حي برونكس النيويوركي، الذي يريج أن يجرب حظه ويعثر على عمل له في قلعة صناعة الأحلام، فيقصد خاله “فيليب” (ستيف كاريل) الذي يدير أحد شركات هوليوود العملاقة، لكن بوبي يقع في غرام سكرتيرة خاله – “فوني” (كريستين ستيوارت)، وفوني من ناحيتها، لا تصد محاولات بوبي التقرب منها، لكنها مرتبطة في الوقت نفسه بعلاقة عاطفية مع خاله الذي يريد أن يترك زوجته بعد 25 عاما من الزواج، ويتزوجها، لكنه متردد في إنهاء علاقته بزوجته التي يحبها أيضا ولكن بشكل مختلف، وهي الحيرة الوجودية التي تشغل بال وودي ألين منذ سنوات ويعكسها في الكثير من أفلامه بأشكال مختلفة.
تعقيدات وتشابكات
هذه القصة التي تبدو بسيطة تصبح تدريجيا أكثر تعقيدا بعد أن يعلم الخال “فيليب” أن ابن شقيقته “بوبي” واقع في غرام حبيبته “فوني”، وأنه اتفق معها على الزواج والعودة الى نيويورك. مشكلة فيليب أنه يحب زوجته لكنه أيضا يحب فوني ويصبح على استعداد لأن يقطع معها الطريق حتى نهايته مهما كلف الأمر وحتى لو كان معنى ذلك هدم مؤسسة الزواج وهو ما سيصل إليه في النهاية. ومشكلة فوني أنها تحب الاثنين: فيليب وبوبي، وبينما تبدو في البداية على استعداد للاستسلام لمشاعرها تجاه بوبي والقبول بالزواج منه وهجر الحياة في هوليوود التي تراها سطحية وزائفة، إلا أنها تميل أيضا إلى فيل رغم فارق السن الكبير بينها وبينه، فهو يمنحها امكانية تحقيق الحلم الذي تفتقده. أما بوبي فهو يفشل في الحصول على “فوني” كما كان يأمل بعد أن يحسم فيليب أمره ويصارح زوجته بالحقيقة وينفصل عنها ثم يعرض الزواج على فوني فتوافق وتتخلى بالتالي عن بوبي الذي يعود إلى نيويورك بعد فشله المزدوج في هوليوود، ليقع في غرام “فيرونيكا” (بليك لايفلي)، وهي مطلقة حسناء، ويتزوجها وينجب منها، ثم يدير الملهى الليلي الذي أسسه شقيقه “بن” وهو مجرم عتيد في الإجرام، يتخلص من خصومه بالقتل لأقل سبب،ويصبح بوبي بمرو الوقت الرجل الأول في الملهى الليلي، وهناك يتعرف على كثير من المشاهير.
معنى الحياة
تمر السنون، ويلتقي بوبي وفيرونيكا مجددا ليستعيدا ذكريات الحب الذي كان فيما مضى، لكن دون أن يقطعا علاقتهما بمؤسسة الزواج. أليست هذه هي الحياة؟ سلسلة من الأحلام التي يقول الفيلم حرفيا أنها تظل “مجرد أحلام”، وأن الحياة ما هي “سوى قصة كوميدية كتبها كاتب كوميدي سادي”، وأننا يمكن أن نفعل الشيء ونقيضه، تماما كما فعلت “فوني” التي تختار العيش في كنف المنتج السينمائي الذي يبلغ عمره ضعف عمرها وتعيش معه حياة صاخبة وسط مشاهير النجوم، في قصر من القصور، تركب طائرة خاصة وتنتقل بين بلدان العالم، وهو نمط الحياة الذي سبق أن أعربت بوضوح في حديثها لبوبي، عن رفضها التام له.
يقطع وودي ألين بحرفيته وأسلوبه الخلاب السلس، مسار قصة الحب ليعود تارة إلى أسرة بوبي اليهودية في نيويورك، إلى مشاجرات الأم والأب، ومشاحنات الشقيقة وزوجها، ثم إلى “بن” الشقيق المجرم الضالع في المافيا اليهودية، وكيف تلجأ إليه شقيقته للشكوى من جارهم حارس الأمن الذي يسكر ويعربد ويرفض أن يخفض صوت المذياع، فما يكون من “بن” سوى أن يقوم بخطف الرجل بمساعدة رجاله، ثم يقتلونه ويدفنون جثته داخل قالب من الأسمنت على طريقة المافيا.
في الثلث الأخير من الفيلم يتركز اهتمام ألين بتصوير عالم الملهى الليلي الذي يجتمع فيه كل ليلة مشاهير المجتمع من السياسيين ونجوم السينما وكبار المجرمين أيضا، ونرى كيف يزدهر نشاطه في تلك الفترة بعد رفع الحظر الذي كان مفروضا في أميركا على القمار، ثم كيف ينتهي “بن” إلى الكرسي الكهربائي بعد القبض عليه وإدانته في كل ما كان منسوبا إليه من جرائم، وعجز الأسرة عن أن تفعل شيئا رغم استعامنها بكبار المحامين. ولكن حتى وهو يصور أكثر المشاهد التي يمكن أن يتوقع المتفرج أن تتسم بالكآبة وهو مشهد ما قبل الإعدام، يحيل وودي ألين المشهد إلى تعليق ساخر على اليهودي الذي يتخلى عن يهوديته ويعتنق المسيحية قبل أن يلقى حتفه، لكي يضمن الحياة الأخرى، بدعوى أن اليهودية لا تعترف – حسب ما يقوله ألين في الفيلم- بالحياة بعد الموت، وهو ما يجعل الأم تعلق في حنق ومرارة على ما هذا السلوك الذي يتخذه ابنها قائلة إنه ربما كان أفضل لليهود في هذه الحالة، أن يؤمنوا بالحياة الأخرى لكي يزيد هذا من فرص اقبال الآخرين على اعتناق اليهودية!
مغزى العنوان
قد لا يبدو عنوان الفيلم “مقهى المجتمع”، دقيقا بالنسبة للمشاهدين، فنحن لسنا بصدد “مقهى” بل ملهى ليلي، وبالتالي يصبح المعنى أقرب إلى “ملهى المشاهير” أو النخبة، وكان تعبير “مقهى المجتمع” شائعا في أميركا في تلك الفترة للتعبير عما نقصده أي نوادي المشاهير والصفوة ولم يكن للأمر علاقة بالتالي بالمقاهي.
يستخدم وودي ألين موسيقى الجاز التي يحبها، بآلة الساكسفون التي يجيد العزف عليها والتي بدأ حياته عازفا لها في أحد الأندية الليلية في مانهاتن كما هو معروف، كما يستخدم نعمات البيانو الرومانسية، في المشاهد التي يصطحب خلالها بوبي حبيبته فونتي بعد لقائهما المتجدد إلى عدد من النوادي الليلية في مانهاتن، وهي موسيقى مرتبطة بتلك الفترة التي يقدمها بملامحها الرومانسية كما لو كان يستعيد ماضيا شخصيا ولى ولن يعود. ومن أفضل النواحي الفنية في الفيلم تصوير المصور الإيطالي الكبير فيتوريو ستورارو (مصور أفلام برتولوتشي الشهيرة) وهو يهتم كثيرا باضفاء اللون الذهبي مع تدرجات من الأخضر والأصفر لاضفاء ملامح أفلام هوليوود الرومانسية القديمة على الفيلم، كما يترك وودي ألين نهاية الفيلم مفتوحة، فنحن لا نعرف ما إذا كان بوبي سيستعيد علاقته بفوني، أم أن كلاهما سيواصل حياته كما هي، مكتفيا من الماضي بالذكريات.
فلسفة وودي ألين المألوفة تتلخص في أن المرء لا يمكنه التنبؤ بحقيقة مشاعره، كما أننا لا نختار دائما مسار حياتنا بموجب قرارات صحيحة، بل كثيرا ما نخطئ، وأن هناك دائما ضوء وسط العتمة فربما ينبثق النجاح من الفشل، كما أن مصائرنا محكومة بالأقدار التي يمكن أن تعبث بها.
إيقاع الفيلم هاديء رصين، تتعاقب المشاهد في سلاسة، مع انتقالات دقيقة ومحسوبة بين الشخصيات والأحداث كما هي عادة وودي ألين في أفلامه، ويمتلئ حوار الفيلم بالسخرية والتعليقات التي تعكس حالة العصاب الجماعي التي تجعل الشخصيات تتحرك وكأنها تعاني من تقلصات داخلية، فهي في حالة معاناة مع النفس، ممزقة بين رغباتها وبين ما تفعله في حياتها، ويبدو الممثل جيسي ايزنبروغ في دور “بوبي” في أفضل حالاته، متماثلا تماما مع شخصية ذلك الفتى الحالم المتمرد الحساس الذي يعاني من العجز عن التحقق، والتوتر الناتج بالضرورة عن هذا كما يبدو بوضوح في المشهد المبكر في الفيلم الذي يستعين فيه بفتاة من بائعات الهوى يطلبها أن تأتي إليه في غرفته بالفندق، لكنها تخطئ في رقم الغرفة، فيدلها رجل من النزلاء على غرفة صاحبنا الذي يشعر بالخجل من افتضاح أمره، ثم يؤدي توتره إلى شعوره بالافتقاد للرغبة فيصر أن يمنحها مبلغا من المال دون أن يمارس معها الجنس رغم إلحاحها بل وبكائها استعطافا، فاليوم يصادف أيضا أول يوم عمل لها في هذه المهنة. إن “بوبي” هنا هو المعادل لشخصية وودي ألين نفسه الذي لم يعد يمكنه القيام بهذا النوع من الشخصيات بعد أن تقدم به العمر وتجاوز الثمانين من عمره. وفي أحيان كثيرة يبدو الممثل وكأنه يتحدث بلسان وودي ألين نفسه بل ويستخدم أيضا طريقته في التعبير بالكلمات وإيقاعه في الحركة، منتقلا من حالة إلى أخرى خلال ثوان معدودات.
لاشك أن “مقهى المجتمع” عودة جيدة للودي ألين تثبت أن هذا المخرج مازال قادرا على الخلق والإبداع والتجديد وابتكار الكثير من الأفكار، والقدرة على التعامل بمهارة عالية مع الممثلين. ربما تبدو كريستين ستيورات في دور فوني هنا أقل مما كان متوقعا، وربما كان من الأفضل أن تقوم الممثلة بليك لايفلي التي أدت دور فيرونيكا، بدور “فوني”، ولكن اختيار ألين لكريستين ستيوارت لاشك أنه جاء لأسباب تجارية لها علاقة بشهرة تلك الممثلة التي لا أراها تتمتع بالموهبة الكبيرة التي تجعلها تضارع عمالقة التمثيل في عصرنا، ولا أراها حتى على هذه الدرجة من الجاذبية والجمال بحيث يصبح كل هذا الولع بها في الفيلم مبررا.