وفاء السعيد تكتب عن: “بطيخة” محمد خان ورحلتها المقدسة!
ما كان لأحدٍ أن يتصور أن محمد خان، ذلك الشاب الثلاثيني (1972) الباكستاني الأصل نسبةً لأبيه تاجر الشاي، والمصري النشأة والهوى نسبةً لأمه، حامل جنسية ثالثة هي الجنسية البريطانية أن يأتي أول عمل سينمائي له – فيلمه القصير “البطيخة” من فكرته وإخراجه – بهذا القدر من “المصرية” النابعة من غوص حقيقي لـ”مواطن” يسبح في تفاصيل وثنايا هذا المجتمع يصل إلى قاعه بمهارة سبّاح محترف ويبرز كل تفاصيل القاع ويأتي بها على السطح ممارسًا لعبة الكشف دون أي جَهد ودون فجاجة أيضًا، كشف ما هو مسكوت عنه بوعي أو بدون وعي مما مهّد مبكرًا لما ستكون عليه سينما ذات طابع خاص لمخرج استثنائي قدَّم أوراقه الثبوتية المصرية قبل سنوات عديدة من حصوله عليها فعليًا.
لعبة القص السينمائي
مارس خان في شريطه القصير (الأبيض والأسود) الذي لم يتجاوز التسع دقائق و27 ثانية، لعبة أخرى إلى جانب لعبته في الكشف وبراعة التقاط التفاصيل، هي براعته في السرد القصصي الذي توافرت فيه كل عوامل القصة القصيرة بينما لم تكن أداته فيها الورقة والقلم ولكن الكاميرا وحركتها والمونتاج وشريط الصوت المصاحب لشريط الصورة.
كانت تلك أدواته في “حكي” قصة قصيرة بكل كثافتها وبساطتها وعمقها. قصة قد تبدو عادية في مجملها، إلا أنه استطاع أن يجمع تفاصيلها المتناثرة ليصنع منها ثوبًا جديدًا محكمًا يروي قصة غاية في الواقعية.. يدق بها ناقوس خطر تدهور سينتهي بـ فريد شوقي في فيلم “الموظفين في الأرض” إلى التسول كي يفي بمتطلبات أبنائه، أو كما انتهى الحال بـ محمود مرسي في فيلم “حد السيف” وكيل الوزارة – المنصب الأعلى في الجهاز الإداري للدولة قبل الوزير مباشرةً- الذي عمل سرًا “قانونجي” أي عازف قانون في فرقة راقصة شرقية لكي يفي بنفس المتطلبات التي يحملها الموظف في رأسه ولا تتركه أبدًا.. تلك المطالب التي تزداد مع مرور الزمن ولا تتوقف ولا يتغير الوضع للأفضل!
يمهد لنا شريط الصوت بأصوات واقعية من داخل المكان قبل أن نراه.. طقطقة الآلة الكاتبة.. أجراس التليفونات.. تكشف لنا الكاميرا للوهلة الأولى عن دولاب العمل وعن طريق أسلوب المونتاج الذي استخدمه المونتير أحمد متولي في القطع المتتالي والمكثف، نرى تفاصيل دقيقة تقربنا من التعرف أكثر على طبيعة المكان.. الملفات المُكدسة.. ساقا الموظفة.. ويوم 15 من الشهر يطل علينا من تقويم على أحد المكاتب يوحي لنا بأزمة مالية تلوح في أفق ليس ببعيد، وسلة المهملات الممتلئة بفضلات من أوراق العمل، هي كومة من الأخطاء أيضًا مكدسة.
كل شئ في هذا المكان بالشروخ الظاهرة في جدرانه وآخذة في الاتساع، مُكدس ومختنق تمامًا كالموظفين ومكاتبهم المتلاصقة في تكوين فوضوي، ولقطة لساعة حائط تشير عقاربها إلى الثانية إلا ربع بعد الظهر (تؤذن بموعد اقتراب خروج الموظفين الحكوميين) في جهاز إداري شائخ وعتيق، يتطلع لها “سامي” الذي قام بدوره (محمد قناوي) متعلقًا بأهداب أمل أن تعدو عقارب الساعة ويحين موعد الذهاب المُنتظر!
يجتاح طوفان من الأصوات البشرية موازي لطقطقات الآلة الكاتبة ويزداد ارتفاعًا مع كل نقرة عليها هي نقرة في عقل سامي.. سيل متدفق كقرع طبول في رأس وذهن وأذن سامي المسكين يأمره أن يدبر أمر المصيف في الإسكندرية تلبيةً لرغبة ابنه ربيع ليصطافوا فيها قبل انتهاء الصيف، وأن يجلب قائمة لا نهائية من مشتريات لا نهاية لها إيذانًا ببداية مرحلة السبعينيات بكل ثقافتها الاستهلاكية التي اجتاحت المجتمع المصري واستشرى لهيبها كالنار في الهشيم بعد سياسة الانفتاح.
الجملة التي ينطق بها سامي هي “أنتي عارفة يا ديدي البير وغطاه” مونولوج داخلي يخاطب بها صورة زوجته المُتخيَلة التي لا تكف عن مطالبته بشراء غسّالة كهربائية. وفي خضم ذلك السيل العارم الذي يهاجم موظفا بسيط اقبل نهاية الشهر يأتي صوت ابنته يطالبه بطلب محبب لنفسه، ألا ينسى أن يأتي لهم ببطيخة “بابا متنساش تجيب بطيخة معاك”.
يقلب سامي نظره بين زميليه في المكتب يجدهما في محاولة لإنهاء ما هم مكلفان بإنهائه في نهاية يوم عمل يلفظ أنفاسه الأخيرة فيشعر بخجل ويغلق الجريدة التي كان منهمكا في مطالعتها لكن بعقل شارد وذهن غائب يصارع أمواج أصوات أسرته. يحاول أن يحشد ما تبقى له من تركيز لينهي أي شئ ويفتح ملفًا لكن تظل الأصوات تطارده وتركز الكاميرا على حركة قدمه العصبية القلقة ومروحة المكتب لا تستطيع أن تطفئ نيران حرارة الجو وجحيم الحياة ومطالبها. استطاع خان أن يقدم لنا ما نستطيع أن نسميه بلاغيًا “براعة الاستهلال” ودخول جيد لقصة آلاف “سامي”.
أطول جزء في شريط خان كان رحلة إياب الموظف إلى منزله.. الإيقاع البطئ لحركة سامي البطيئة الأشبه بـ slow motion في الشارع. حركة لإنسان يشقى بأحمّاله الثِقال ينوء عنهما كاهلاه. الصورة النمطية للموظف المصري الذي يطوي جريدته تحت إبطه ويذهب بعد عمله لشراء بطيخة. يقدم لنا خان وصديق عمره مدير التصوير سعيد شيمي وثيقة بصرية عن الشارع القاهري في السبعينيات، جعلت ذا الجزء من الفيلم أقرب إلى أسلوب السينما التسجيلية، تحركت الكاميرا في الشارع لترصد وتعاين وتعرض صورة صادقة دون أي رتوش، تمزج بين ما تبقى في عقل سامي من أصوات ولقطة مقربة من بطل إعلان وثيقة التأمين الذي يحمل أسرته دائمًا في عقله ويفكر في مستقبلها دون توقف تمامًا مثل سامي الذي لا يستطيع أن يؤمن متطلبات الحاضر في منتصف الشهر وإعلان الفتاة الحسناء ممشوقة القوام كزجاجة الـ”سي كولا” المُعلَن عنها، بينما يختار سامي كوبًا من العرقسوس بديلًا رخيصًا لـ”بَل الريق”، وإعلان السيارة الفارهة يجرها حمار.
تعرض لنا كاميرا شيمي زحام المدينة المكدسة كمكاتب الموظفين، والأجساد المتدلية من الأتوبيسات التي تنوء بحملها كعقل سامي، وعربات سيارات التاكسي القديمة المتهالكة. تلتصق الكاميرا بسامي كظله لتؤكد لنا معنى الرحلة والحجيج الذي تبدأ طقوسه بأن يؤم سامي بائع البطيخ ليبتاع منه بطيخته المقدسة ويسير بها مشواره الطويل يحملها تارةً على كتفه ومرة على بطنه كالمرأة الحامل الواقفة بجواره في انتظار الأتوبيس، برغم من أنها حِمل ثقيل إلا أنها الحِمل الوحيد “الحلو” في تلك الرحلة الشاقة التي تصحبها موسيقى مقطوعة شجية على العود، مقطوعة “ذكريات” للموسيقار محمد القصبجي توحي بتكرار الرحلة وتواترها وانطباعها في ذاكرة الموظف المطحون ولا تنسى الكاميرا أن ترصد لنا أكوام البطيخ الجالسة في هدوء على الأرصفة بانتظار موظفين آخرين يحملونها في رحلة إيابهم اليومية.
مونولوجات سامي وأنيس الذاتية
يسير سامي بجوار أسفلت كسرته أيادي الإهمال بعد إنجازه مخاطبًا نفسه في مونولوج داخلي يذكرنا بمونولوجات “أنيس زكي” الداخلية بطل فيلم “ثرثرة فوق النيل” الموظف المُهمَش في نظام الستينيات الذي ألغى دور الفرد وغيّبَه عن الواقع كـ “ إيفان ديمتريفيتش تشرفياكوف“ “موظف” تشيخوف الجالس في الصف “الثاني” للمتفرجين وعليه أن يكتم عطسته كي لا تصل للجنرال وتتسبب في إزعاجه أو يكلفه الاعتذار عن جريمته الشنعاء حياته فيموت كمدً.
كان الحشيش هو ما يعزل أنيس عن الناس ويلقي به في أتون جحيم نفسه وأسئلته اللانهائية التي لا إجابة لها. بينما سامي بطل العصر التالي لعصر أنيس يسير في الشارع بنفس الهيئة التي يسير عليها أنيس لكن مغيب بمونولج داخلي آخر مغيب بحشيش عصر الاستهلاك بالراتب المنتهي قبل نهاية الشهر وارتفاع الأسعار الذي لا تقابله زيادة مماثلة في مرتبات الموظفين..
“12 جنيه إيجار الشقة، 2 جنيه فاتورة النور، 10 جنيه للبقال، 9 جنيه مصاريف المدرسة، كيلو اللحمة بقى ب90 قرش “؟!
ولكن مازالت البطيخة هي الأمل، الحلم، السعادة المنتظرة.
سعادة مؤقتة
زاوية الكاميرا التي اختارها خان للمصعد الذي حمل سامي وحِملَيْه (هموم الحياة المُرة وبطيخته الحلوة)، ثم ابتلعه في جوف ظلام مستقبل مجهول. استقبلت الأسرة البطيخة بابتهاج ترقب في أجواء احتفالية كأنها مولود جديد أفرغه الأب حين وصوله صاحبته موسيقى مرحة والابن الصغير الذي لم يستطع بعد أن يحمل حِمل أبيه يدحرجها ليصل بها لأمه.. الجميع في اشتياق للبطيخة.. الابنة تتلصص على أمها وهي تقطع البطيخة على أنغام “يا عزيز عيني وأنا بدي أروح بلدي “الرثائية” بينما الأب هو الوحيد الممدد على سريره بلباسه الداخلي منهك خائر القوى كأنه مشتاق لشئ لراحة ينشدها من أعباء الحياة.. وهو سعيد لمجرد وصوله أخيرًا لسريره.
في المشهد الختامي تجلب الابنة قطع البطيخة من البراد ليتشارك جميع أفراد الأسرة في التهامها والنشوة بتلك السعادة المؤقتة كنسمات رطبة في قيظ يوم صيفي شديد الحرارة. ويتوقف المشهد فجأة مع عودة أصوات نقر الآلة الكاتبة ليسدل خان الستار على هذا الإحساس المؤقت بسعادة مؤقتة بطعم البطيخ البارد المرطب لأجواف متعطشة للسعادة ليعود بنا كما بدأ، ولتعود رحلة جديدة لا تنتهي مع الموظف إلا في حالتين لا ثالث لهما، عندما يبلغ سن التقاعد أو توافيه المنيّة.
كان خان رحمه الله، وفيًا للتفاصيل، مهتمًا بنقل الصورة الواقعية للمجتمع المصري، فأصبح رائدًا من رواد مدرسة الواقعية الجديدة في السينما المصرية والعربية. رحم الله خان قاص السينما وراوي المدينة الوفي، حكّاء الشارع المصري والإنسان المصري.