هل ينتمي غودار حقا إلى ما بعد الحداثة؟
يعتقد كثير من النقاد الغربيين، وينقل عنهم الكثير من النقاد العرب أيضا، أن السينمائي الفرنسي الكبير جون لوك غودار، هو نموذج واضح لسينما ما بعد الحداثة. وهم يستندون في ذلك إلى كون أفلامه – الحديثة بوجه خاص- تعتمد بدرجة كبيرة على الإكثار من استخدام التقابلات بين الصور التي تبدو غالبا، متناقضة أو حتى متنافرة، وعلى التلاعب في استخدامه للصوت، وقطعاته السريعة من خلال المونتاج، التي تجعلك تنتقل من صورة إلى صورة أخرى قد لا ترتبط معها بصريا بشكل مباشر، كما أنه يحيل المتفرج أحيانا، إلى أفلام قديمة، أي يدخل لقطات من أفلام أمريكية بوجه خاص، من الأفلام الشعبية التي كانت تنتج في هوليوود في ماضيها الذهبي، خصوصا ما يعرف بأفلام حرف ب رخيصة التكاليف. ويستند هؤلاء هنا إلى اهتمام غودار في كتاباته، وقت أن كان يمارس النقد السينمائي قبيل ظهور “الموجة الجديدة” في فرنسا في الستينات، بالسينما الأمريكية الشعبية.
ويرى الكثير من النقاد أيضا أن غودار كان من بداياته، منتميا إلى سينما ما بعد الحداثة، خصوصا في أفلام مثل “الصينية” و”المرأة هي المرأة” و”الخارجون”، ثم اتسعت نظرته مابعد الحداثية تدريجيا إلى أن بلغت قمتها في أحدث فيلمين له وهما “فيلم الاشتراكية” و”وداعا للغة”.
أولا يتعين القول إن ما بعد الحداثة لا تعني بالضرورة رفض الحداثة رفضا تاما باعتبارها نقيضا لها، بل تميل ما بعد الحداثة أكثر إلى توسيع رؤية الحداثة مع التمرد، في الوقت نفسه، على أساليبها وأفكارها، وخصوصا ذلك الحس “اليقيني” العقلاني الواثق بما يجري في الواقع، أو تلك النظرة النقدية للواقع التي تميل بالضرورة إلى تناول الجانب السياسي.
وإذا كان الأمر كذلك، فكيف يمكن القول إن غودار، الذي يعتبر من أكثر السينمائيين نقدا للواقع السياسي والاجتماعي في الغرب منذ أن بدأ الإخراج السينمائي في أواخر الخمسينات، وحتى اليوم، مخرجا لا يقيم وزنا للنقد السياسي، وهو الذي أبدى في أفلامه اهتماما كبيرا بالقضية الفلسطينية، وبنقد إسرائيل، ويجنح في فيلمه “الاشتراكية” مثلا إلى تحميل دول الغرب الاستعمارية، ذنب ما يعرف بـ “الهولوكوست” اليهودي، ثم يقارن بينه وبين الهولوكوست الفلسطيني!
من أهم عناصر ما بعد الحداثة أيضا، “موت المؤلف” أي أن صانع العمل ينأى بنفسه عنه ويتركه للمشاهدين يكونون هم رأيا بشانه دون أي تدخل منه أو دون أن يكون عمله الفني مدفوعا بمشاعره ورؤاه الخاصة طبقا لتكوينه. ورغم ما في هذه الفكرة من جاذبية نظرية، فهل يغيب غودار- المخرج – المؤلف- المفكر، عن سياق أفلامه؟ أم أنه في الحقيقة يعبر عن فكره النقدي، وسخريته الحادة باستخدام الوسائل الحديثة للسينما بما في ذلك الفيديو وتعدد الشاشات ولقطات الأفلام القديمة (كما نرى مثلا في فيلمه الأحدث “وداعا للغة؟)؟ خصوصا وأن غودار كان بالمناسبة، مولعا بفكرة عجز اللغة وعقمها مع تعقد العالم الحديث منذ فيلم “المرأة هي المرأة” (1960).
كان الخلط بين الأساليب دائما، أحد أسس سينما ما بعد الحداثة كما يتبين في أفلام المخرج كوينتين تارينتينو مثلا: الانتقال بين أسلوب فيلم الويسترن، والفيلم الحربي، والفيلم الكوميدي على طريقة بستر كيتون وميل بروكس، مع التأثر بأفلام قديمة شائعة معروفة مثل “حدث ذات مرة في الغرب” و”مزيد من الدولارات”، و”دستة أقذار”. فهل يهتم غودار بسينما القص واللصق على هذه الشاكلة، لكي يقرب الفيلم من الجمهور الشعبي العام، كما يفعل ما بعد الحداثيون، أم أن أفلامه مازالت تعتبر، بكل المقاييس، أفلاما نخبوية، تكشف عن براعة صانعها وتعبر عن فكره، وهي أفلام يجدها الكثير من نقاد الغرب أيضا “من أكثر الأفلام صعوبة” في الاستيعاب والفهم، نظرا لانتقالات غودار المفاجئة الحادة المرهقة أحيانا للعين، خصوصا وأن شريط الصوت يستمد وجوده من خصوصيته واستقلاليته بمعزل عن شريط الصورة، مما يستدعي الانتباه الشديد من جانب المتفرج لكي يلم بالفكرة من خلال إعادة رسم العلاقة بين الصورة والصوت، وهو ليس أمرا سهلا بسبب التعاقب السريع للصور والأصوات.
لا يستخدم غودار في أفلامه فكرة “التلصص على الجنس” التي تعتبر ركنا مميزا في أفلام ما بعد الحداثة. ونستطيع أن نلمح ذلك بوضوح في الفيلم الإسرائيلي الشهير “زيارة الفرقة الموسيقية” الذي كان يحاول تقديم صورة ما بعد حداثية للعلاقة بين المصريين (في زمن ما بعد الحروب) والإسرائيليين الافتراضيين، من خلال تصوير علاقة حسية مباشرة، واستخدام الكثير من الرموز والاستعارات، مع العنصر المهم الآخر الذي يميز سينما ما بعد الحداثة وهو عنصر “السخرية من التاريخ” وكأنه قدر غاشم يجب أن نضحك عليه ونرفضه ونقلل من شأنه، فهل يسخر غودار من التاريخ، أم يتوقف في أفلامه الحديثة أمام مفارقاته وأحداثه العنيفة، لكي يدين الظلم، والعنصرية، والقسوة الإنسانية، والاستغلال البشري، والأنماط الاستهلاكية في مجتمعات الغرب التي لا تشبع. وكلها أشياء صنعها الإنسان ورسخها ولم تفرض عليه فرضا؟
غودار يستخدم أساليب مختلفة في السرد، قد لا تنسجم مع الأساليب التقليدية المعتادة في رواية قصة تسير في مسارات محددة متوقعة سلفا أو حسب الوصف الشائع “منطقية”، على الشاشة، بل يبتكر في أشكال السرد، وإن ظل طيلة الوقت، مرتبطا بشكل سردي، فهو لا يحطم ولا يدمر بل يبتكر في إطار المحافظة على فكرة السرد نفسها.
يمكن القول أخيرا إن غودار هو بلاشك، من أعظم السينمائيين “التجريبيين” في عصرنا، أي أنه يجرب في الشكل، ولكن دون أن يتنازل قط عن وجود “المضمون” في أفلامه. إنه يصوغ المضمون صياغة جديدة، تعتمد على رفض اللغة الشائعة التي أصبحت تعجز بنيويا، عن تقديم صورة حقيقية صادقة لما يحدث في الواقع، أي أن ما يهم غودار أكثر، هو الواقع: واقع التاريخ الإنساني، وواقع السينما أيضا. وهو بهذا المعنى، يغير السينما بالسينما، بعد أن عجز عن تغيير الواقع بالسياسة!