هل انتهى الجمال… أم اختطفته الخوارزمية؟
فارس الذهبي
أرسل صديق لي عنوان فيلم وطلب مني مشاهدته وألحقه فوراً برابط يأخذني إلى موقع تقييمات عالمي كي يمنحني الثقة بمنح جزء من وقتي لهذا العمل. عشرات الآلاف صوّتوا، والنجوم تبرق بهدوء: «شاهده مطمئنّاً». شاهدت. خرجتُ بانطباعٍ نقيضٍ تماماً. من هنا يبدأ السؤال الحقيقي: هل انتهى الجمال، أم انتهت طقوس الوصول إليه؟ هل صادرَت التكنولوجيا «مسار المغامرة» التي كانت تصنع ذائقتنا، واستبدلتها بمقاييس جاهزة، و«إجماع» مُعلَّب على هيئة تقييمات ومعدلاتٍ ورسوم بيانية؟
التقييم رقم. والرأي خبرة. الرقم يُطمئننا لأنه سريع، مقارن، قابل للفرز. لكن حين يصبح الرقم هدفاً في ذاته—عندها ستُصنع الأفلام والأغاني والكتب لتحصيل نقاط أعلى لا لتجربة أعمق—يفسد الرقم دلالته. هذا منطق «القابل للقياس»: ما لا يُقاس يُهمَّش، وما يُقاس يُصنَّع ليستوفي معيار القياس. هكذا يتسلّل منطق المنصّة إلى قلب العمل الفني: مدةٌ مثالية للاحتفاظ بالمشاهد، حبكاتٌ متوقّعة تضمن مشاركةً أكثر، وجوهٌ قابلة للترند، إيقاعٌ يراهن على الإدمان لا على الدهشة.
في الزمن المنصرم، زمننا، كان القارئ يطارد كتاباً ممنوعاً في مدينةٍ مكتظة، أو يعثر على شاعرٍ يكره الشهرة في أمسيةٍ صغيرة في مقهى هامشي. مسرحية متوحشة خارج الإطار الرسمي المعمّد بالإيديولوجيا، مثل أغنية راب في زمن إعادة تدوير الكلاسيكيات هباًء، رواية هاربة من السياق المُكرّس تقول كل ما ترغب أن تقرأه، ولكن كنا نعلم أن تلك الأعمال ليست لزماننا ذاك، بل صنعها أصحابها لزمن آخر سيأتي وسيعلن عن نفسه يومًا ما. كانت الحكاية حول العمل جزءاً من جاذبيته: جهد الاكتشاف، المصادفة السعيدة، الدليل الشفهي، التجربة الإنسانية والطريق الذي أوصل الفنان إلى تلك النتيجة جزءًا من المتعة. أرفف المكتبة المستعملة، دكان الأشرطة الذي يُقرضك تحفةً طواها الدهر بحذر. اليوم تعِدُنا الخوارزمية بأنها تعرفنا أكثر مما نعرف أنفسنا. لكنها، عملياً، تعرّفنا بما يُشبهنا أمسَ لا بما قد يُفاجئنا غداً. تقلّ مساحة المجهول لأن آليات الاقتراح مبنية لتُكثر من «المتوقع». ومع كل ضغطة “أعجبني” تُغلق “دائرة”، وتتسع “الفقاعة”.

الجموع تسير خلف ما تريده الخوارزمية، إن أحببت المزاح فستقودك إلى بحور لا متناهية من الضحك المبتذل، وإن أردت النُصح، فهنالك آلاف المختزلات المشفاة من عمق التجربة ستظهر أمامك في لحظات. لقد امتجت ثقافة الترند حتى وصلت إلى شغاف الفنانين أنفسهم و بات التقليد الذي يمنحك نتائجاً حتمية هو السبيل الأسرع والأسهل لوصول الفنانين، والكل يصفق. بعدها تقلصت مساحات التجريب حتى باتت القوالب الثابتة جاهزة لكتابة أي فيلم سينمائي أو عمل تلفزيوني، في الموسيقى الكومبيوتر يساهم في تحسين الصوت و دمج الآلات، الأوركسترا باتت عنصراً نادراً في تسجيل الأغنية، يكفيك جهاز كومبيوتر جيد و برامج حديثة كي تنطلق في عالم الموسيقى و حتما ستنتظرك الملايين من المشاهدات في عداد النجاح. والكل يصفق. ورشات تعليم الكتابة والتمثيل التي تطبع الكائن الراغب بالفن وتقولبه ضمن قوالب جاهزة. هكذا تكتب الرواية! فقط. دليلك السريع لكتابة السيناريو. حركة، اثنتان ورابعة و سابعة. ستوصلك إلى قلب الخوارزمية التي تنجح عملك. دورات سريعة للممثلين،كتب و كتب. دليل خلف دليل. مسارات تقود الآلاف إلى خطى مشاها قبلهم آخرون. لا تجارب شخصية ولا فردية ولا رأي. والكل يصفق.
“الجمهور عايز كده”: نبوءة تُحقّق نفسها
حين تُموِّل شركاتٌ كبرى المحتوى وتوزّعه وتقيس نجاحه بالمقاييس ذاتها، ينشأ أسلوبٌ مُعمّم: لغة بصريّة واحدة، نبرات صوتٍ مكرورة، ذروةٌ كل ثلاث دقائق، «hook» في أول خمس ثوانٍ. وجهة الحبكة و الذروة وتوقُعك لحدث المنتصف أفقد الفن غموضه وتوقعه، ليس لأن «الفن» هكذا، بل لأن «المنصّة» تريد هكذا. ومع الزمن تُخلط الرغبة بالاعتياد: ما يُعرض كثيراً يبدو مطلوباً، وما يُطلَب كثيراً يُعرض أكثر. تتشكّل ذائقةٌ جماعية بالاستمرار لا بالاختيار. عبارة «الجمهور عايز كده» تتحوّل من تشخيصٍ ساخر إلى نظام تشغيل. والتقليد هو الوصفة السحرية لنجاح سريع بعيدًا عن الإبتكار.
فهل انتهت السينما المستقلة و الأغنية المتمردة والتجريب في الفن التشكيلي؟ هل إنتهى زمن المسلسل المتمرد القافز فوق التوقعات؟ طالما أن نظرية (الجمهور عايز كده) تسيطر على الإنتاج فإن توقعنا لخروقات فنية عابرة، أو طفرات فنية ستبقى ضرباً من الخيال، كل من طور الفن كسر القاعدة، وكل فنان عظيم ساهم بدوره بدفع هامش الرقابة والمنتجين سنتيمترات إلى الأمام. وهكذا ما كنا نقبله في منتصف القرن العشرين بات مضحكاً اليوم. لأن الجمهور تجاوزه بكل بساطة وباتت عقول القراء تبحث عن كل جديد وجيد، لا عن كميات المشاهدات وتراكمها. النجاح لا يقاس بكم اللايكات أو المشاهدات. بل هنالك من يسير عكس السائد كي يغير الوجهة تماماً. وليس من باب المصادفة أن مقالات كبار الصحافيين العرب لا تحظى إلا بالقليل من الاهتمام، وليس من السهو أن الجوائز العربية تتجاهل التجارب الجادة في الأدب. ويمكننا القياس على هذا طويلًا.
وعليه أضحت السوشيال ميديا، التي يسير خلفها المنتجون، وحشود الجماهير، نسخة ودودة من (الأخ الأكبر). نسخة تمنع و تسمح، تهمش و تقود، تفسح المجال و تزيد من شهرة من تراه مطابقاً لمعايير هذا الزمان، حتى غدا كل شيء متشابهاً، ولكن وكما يقال لكل نظام ثغرات، وفي هذا النظام يمكنك رشوة هذا الأخ الأكبر بشراء ترويجه وبالتالي السماح له بدعم ما تفكر فيه حتى لو كان غير مطابق لما يفكر فيه هذا الأخ الأكبر.الذي يتغذى على الحشود والتي تغذيه بذات الوقت بكل ماهو شعبوي وبسيط.
الأخ الأكبر بنسخةٍ ودودة
السوشيال ميديا تُكافئ وتؤنّب: لايك وباند، ترند وظلّ. يمكن رشوتها (إعلانات، ترويج، جيوش حسابات)، ويمكن كذلك العمل، «بشرف» أو كـ«مخبر صغير»، لإطعامها مادّةً يومية: تقارير، اقتطافات، فضائح، تصنيفات. وهنا تتسع «مساحة التقرير» لتبلغ الذائقة ذاتها: تُشيطن رأياً، تُقدّس آخر، تُحوِّل النقاش إلى شتائم، والمعارضة إلى تحشيد. تصبح «سمعة» العمل لا العمل نفسه هي موضوع التداول. يغيب السؤال: ماذا فعل بي هذا النص؟ ماذا أضاف لخبرتي بالعالم؟
هل انتهى الجمال حقاً؟
لا. ما يتآكل ليس الجمال بل “طرائق الالتقاء به”. الجمال ليس جوهراً ثابتاً ولا تصويتاً بالأغلبية. هو علاقةٌ حيّة بين عملٍ ومتلقٍ في لحظةٍ ومكان. ما تغيّر أنّ “وسيط” هذه العلاقة تضخّم حتى صار يظن نفسه صاحب الحقّ في الاختيار بالنيابة عنا. ومع ذلك، ما يزال الهامش موجوداً: أفلامٌ صغيرة تُصنع بميزانياتٍ زهيدة وتُحدث أثرها البطيء؛ مجلّات متخصّصة، إذاعاتٌ ومهرجاناتٌ مستقلة، قوائم قراءةٍ شخصية تتداول في مجموعاتٍ ضيّقة، أرشيفات مفتوحة، بودكاستات عميقة، مسارح حيّة تقاوم اقتصاد الشاشة. التكنولوجيا نفسها هي أداة الهامش أيضاً: أرشفة، إتاحة، ترجمة، توزيع بديل—حين تُستخدم ضد منطق القطيع لا لتوسيعه.
تمارين إنقاذ الذائقة

- شاهد/اقرأ دون أي مراجعة أو أن تستقوي بتقييم الغير أو قراءة التعليقات. جرّب أن تُعيد للفضول سلطته الأولى.
- اكتب بعد كل عمل خمس جمل عمّا «حدث لك» لا عمّا «قيل عنه». الرأي الشخصي هو تقاليد شخصية.
- قوائم غير قابلة للمشاركة: احتفظ بقائمةٍ خاصة للأعمال التي تحبها لأسبابٍ لا تودّ تبريرها. حساسيةٌ صغيرة ضد “إشهار الذوق”.فما يعجبك أنت هو ما يعنيك، وليس بالضرورة ما يعجب غيرك سينال منك. المشاعر شخصية وليست حالة جماعية.
- مسارات عميقة بدل القفز الأفقي: اختر مخرجاً أو شاعراً أو ملحّناً واذهب « عبر كامل الفيلموغرافيا/الديوان/الأعمال الكاملة». العمق يولّد شبكة معاني تتخطّى المعدّل العام.
- نادي مشاهدة/قراءة مصغّر: ثلاثة أو أربعة أصدقاء فقط. في نقاش بحضور فيزيائي، وجهاً لوجه بلا شاشات. الاختلاف هنا ليس صراع علامات بل تربية مشترك. التصريح عما يعجبك وما لم يعجبهم سيعزز فهمك للجمال وتذوقك له، ضمن ذائقتك الخاصة.
- قاعدة “عمل واحد طويل”: استبدل يومياً مئة محتوى قصير! بعملٍ طويل واحد (رواية، عرض، فيلم ثلاث ساعات). أعطِ الزمن فرصةً ليصنع الأثر.
- تنويع المنابع: مصدرٌ واحد يساوي ذوقاً واحداً. امزج بين مكتبات، أرشيفات، نشرٍ مستقل، توصيات أصدقاء من بلدان متباعدة، ثقافات غير أميركية، لا تبني الحكاية بطريقة البلاتفورم. دع التأمل يأخذ مداه.
- إبحث عن الفن المتين بعيدًا عن المنصات السائدة، السينما المستقلة سترويك، الكتب خارج التقييمات ستمتعك، شعر الصعاليك، وموسيقيي بارات الجاز الأسبوعي.
الجمال لا يُكتشف بالنُصح. يحتاج إلى عنادٍ شخصي، إلى أخطاءٍ حميمة، إلى مللٍ منتج، إلى “وقتٍ فارغ” لا تلتهمه المقاطع القصيرة. يحتاج إلى أن نسمح لأنفسنا بأن نخالف “الإجماع”، وأن نحتفظ بحقّنا في “لا يعجبني” حتى لو كان الإجماع ساحقاً. التجربة التي رافقت حادثة الفيلم—تباعدُ إحساسك عمّا قالته الجموع—ليست فشلاً في القراءة، بل دليلُ حياة: ثمة ذاتٌ هنا لم تُسلِّم مفاتيحها لمنطق القياس.
لا تسَلِّم رأيك لمنصّةٍ مهما ادّعت العلم بنا. سنُخطئ وحدنا ونُصيب وحدنا، ونترك للمفاجأة حصّتها، وللصمت مساحته، وللندرة حقّها. سنحمي الهامش لأنه المكان الذي تتنفّس فيه الأشكال الجديدة قبل أن تُلتقط وتُسطّح. سنُميّز بين «شعبيةٍ صحّية» تولِّد المشترك و«شعبويةٍ مفترسة» تُلغيه. راجع الأرقام بلا قداسة، وأصغي لما يحدث لنا أثناء القراءة والمشاهدة والسماع.
لم ينتهِ الجمال. الذي يوشك أن ينتهي هو استعدادُنا لبذل الجهد كي نصل إليه. كلّما استعادت أيدينا «طقوس القصد»—الاختيار البطيء، الشكّ، الطريق الجانبي، الرفّ السفلي في المكتبة—عاد الجمال إلى مكانه الطبيعي: ليس في معدّلٍ عامّ، بل في لحظةٍ فريدة تتكرّر بطرقٍ لا تُحصى. هذه ليست رومانسيّةً ضد التكنولوجيا، بل دعوةٌ لاستخدامها كأداةٍ لا كوصيّ. ومن يدري؟ ربما داخل جهازك نفسه، على بعد نقرةٍ لا تقترحها أي خوارزمية، تقبع التحفة المقبلة التي ستخالف الإجماع وتضيف حجراً جديداً إلى بيت ذائقتك.
