!هز وسط البلد”.. الصنعة تهزم الجرأة”
يعانى فيلم “هزّ وسط البلد” لمؤلفه ومخرجه محمد أبو سيف من مشاكل فنية واضحة هزمت جرأة العمل ونوايا صناعه الطيبة، فمن سيناريو تتوه بين شخصياته الكثيرة، وينتهى الى ميلودراما مزعجة، الى تنفيذ فى ديكورات تفقد الحكاية نبض الشارع وحيويته، ومن أداء إجتهادى مفتعل لتجسيد شخصيات شعبية نراها ونقابلها كل يوم الى مونتاج لم يستطع ضبط إيقاع أحداث تتم فى يوم واحد، ومن استخدام مباشر للوحات أرقام السيارات الى سذاجة التعبير عن المواقف بكلمات مكتوبة، تراكمت كما ترى المشاكل بصورة أضرت كثيرا بالتجربة التى تشهد على انهيار وفوضى نعرفها منذ سنوات طويلة.
محمد أبو سيف مخرج يقدم دوما موضوعات مختلفة تماما عن السائد والمألوف، بصرف النظر عن مستوى تجاربه، ونصيبها من التكامل الفنى، أفضلها فيلم “خالى من الكوليسترول” بطولة أشرف عبد الباقى وإلهام شاهين، الذى فضح فيه عالم النصب من خلال الإعلانات، وأكثرها جرأة (بمعايير السينما المصرية طبعا) هو فيلم “النعامة والطاووس” بطولة لبلبة ومصطفى شعبان وبسمة، وكان موضوعه الثقافة الجنسية المفقودة، يحسب دوما لهذا المخرج المجتهد هذا التنوع، وتلك الجرأة، ولكن ذلك لايعفيه من المحاسبة على الجودة الفنية، الفكرة أو الموضوع لا يكفيان، غالبا ما يكون إنتاج أفلام محمد أبو سيف محدودا، مما يؤثر على صورة العمل فى النهاية، كما أن بعض أعماله لا تأخذ حظها من الكتابة العميقة، فتجىء المعالجات سطحية وسريعة، واقرب ما تكون الى عناوين الصحف ، كما شاهدنا مثلا فى فيلمه “خللى الدماغ صاحى”.
فيلم “هز وسط البلد” كان اسمه الأول “وسط هزّ البلد” استلهاما من واقعة حقيقية حدثت فى السنوات الأخيرة من عصر مبارك، عندما استعانت شركة إنتاج سينمائى مشهورة ببطلة الفيلم الراقصة ذائعة الصيت، لكى تفتتح فيلمها الجديد برقصة أمام سينما مترو فى وسط البلد، ونتيجة الزحام والتدافع، سُجلت حوادث تحرش بالفتيات، أصبحت حديث الصحف والرأى العام لفترة طويلة.
نماذج كثيرة
اعتبر أبو سيف إن دلالة الواقعة أهم وأخطر من تفاصيلها، وجد أنها دليل إنهيار تام سياسيا وأخلاقيا واجتماعيا، احتفظ فقط فى السيناريو بوجود حفلة افتتاح لفيلم جديد يبيع للمتفرج لحم بطلاته، واطلق على الفيلم اسم “الصدر والورك”، وجعل بطلة الفيلم ترقص فى حفل الإفتتاح دون ذكر لعمليات التحرش.
بدلا من التحرش، قدم أبو سيف ما لايقل عن 35 شخصية فى شارع بجوار هذه السينما التى أطلق عليها سينما رويال، الفكرة جيدة جدا كما ترى، فالتحرش لن يضيف الكثير الى حالة الفساد والبيع والشراء التى سنراها من خلال كل الشخصيات تقريبا، انهيار شامل وفى تنويعات مختلفة لنماذج تنتمى بالأساس الى الطبقات الفقيرة، والى بقايا ما كنا نطلق عليه “الطبقة الوسطى” التى تكدس بعض عناصرها فى المقهى.
ينتمى “هز وسط البلد” بذلك الى تلك الأفلام التى تتنبأ بالإنهيار من خلال تفاصيل الشخصيات، ولحظات فسادها وسقوطها، إنه جزء من سينما الفساد إذا جاز التعبير، التى شاهدناها من قبل فى أفلام جريئة وهامة مثل “المذنبون” لسعيد مرزوق، و”عمارة يعقوبيان” لمروان حامد.
لكن المشاكل تبدو واضحة منذ اللقطات الأولى للفيلم، نفتقد لأول وهلة لمسة ورائحة الواقع التى يفترض أن ينقلها لنا الفيلم، فهذا الديكور الواضح ( فى مدينة الإنتاج الإعلامى على الأغلب) يذكرنا بمسلسلات التليفزيون، وهذه الأرض الملساء لا علاقة لها بشوارع وسط البلد التى نعرفها، بل إن ما نراه من محلات وشخصيات أقرب ما يكون الى جزء من حارة مصرية تقليدية، وليس من شوارع وسط البلد التى يحمل الفيلم اسمها.
فى اللقطات الأولى أيضا سيبدأ تعليق المؤلف/ المخرج على مشاهده بصورة ساذجة ومباشرة من خلال التركيز على لوحات السيارات المارة، والحروف التى اختيرت بعناية على اللوحات لكى تعطى كلمات ذات معنى مثل “طين” و”فُجْر”، بل وصلت السذاجة الى ابتكار المؤلف لكلمات أكثر من ثلاثة أحرف ، تخيلوا مثلا لوحة سيارة كتبت على لوحتها المعدنية كلمة “قوادة” ؟!
هذه الطريقة التعليمية البائسة التى تكشف عن عدم ثقة المؤلف فى صورته أو فى الدراما أو فى ذكاء الجمهور، وهذا الخليط المكانى الغريب الذى لاعلاقة له بوسط البلد (هناك ساعة معلقة فى قلب الشارع لا أعرف مثيلا لها على الإطلاق) ، كل ذلك كشف لنا مبكرا عن معالجة مرتبكة رغم أهمية وخطورة الفكرة.
جاءت المشكلة الثانية بعد قليل، حيث لم ينجح محمد أبو سيف سوى فى ربط عدد قليل من الشخصيات معا، بينما ظلت بعض الشخصيات تكمل الصورة أو على هامشها، يمكن أن نتحدث عن الشحاذة الفقيرة حورية (إلهام شاهين) التى تفشل فى العمل بسبب وجود أطفالها معها فى كل مكان، فتوافق على عرض حسين مؤنس (فتحى عبد الوهاب) بأن تبيع أحد أطفالها لامرأة ثرية لاتنجب تلعب دورها أنوشكا، ويمكن بالكاد أن نتبين خطا دراميا لراقصة معتزلة تحولت الى صاحبة محل ملابس تحمل اسم انتصار (هياتم)، نشك فى أنها تدير أعمالا مشبوهة، حتى نكتشف بعد طول انتظار أنها أقرب الى قوادة، تبعث الفتيات لمن يطلبهن ، وخصوصا من خلال علاقة مع سيدة خليجية ثرية.
هناك أيضا بالكاد علاقة بين الفتاة ابتسام (زينة) التى تبدو أقرب الى الشراسة دفاعا عن نفسها، وبين كرم (أمير شاهين) الذى يعمل فى مقهى بالشارع، يصر كرم على خطبتها، ثم يتركها بعد أن يسرق أموال الشارع كله.
خطوط مبتورة
ظلت الخطوط مبتورة لكثرة الشخصيات، ولعدم القدرة على رسم معالمها فى يوم واحد فقط تدور فيه الأحداث، كما فشلت حكاية افتتاح الفيلم، وعملية تحضير شاب متزمت يدعى رفاعة (عمر حسن يوسف) لقنابل ستنفجر فى الشارع، فى منحنا ذلك الشعور بمرور الوقت، أو فى تحقيق تصاعد درامى وصولا الى نقطة واحدة كما حدث مثلا فى فيلم “كباريه” من تأليف أحمد عبد الله.
لم ينجح المونتاج فى ضبط الإيقاع فترهل السرد، وظهرت شخوص ثم اختفت مثل المدرس الذى يعطى دروسا خصوصية فى المقهى، صحيح أننا كنا فى حاجة لبانوراما تقدم تنويعات على نغمة الفساد، إلا أن الحبكة لم تنضبط بالقدر الكافى، هناك أكثر من مقهى فى مكان محدود، فى إحداها تتجاور صور عبد الناصر، وهناك قسم للشرطة تمر الشخصيات من أمامه، وهناك لوحات السيارات المزعجة التى يعلق المخرج من خلالها على ما نراه، فيزيد ذلك من ترهل الفيلم ومن سذاجته.
ثم تأتى المشكلة الثاثلة الأخطر بالوقوع فى فخ الميلودرامأ ، لايكتفى الفيلم ببيع ابنة حورية البائسة، ولكنه يجعل ابنها الثانى يتوه منها فى شارع هو أقرب الى الحارة، ثم يموت ابنها الثالث أمامها فى حادث سيارة، وتقوم هى بنفسها بإلقاء طفلتها الرضيعة فى القمامة، ثم تصاب بما يشبه اللوثة العقلية، لتسير هائمة فى الشارع تطلب العمل، يحدث كل ذلك فى ثلاث ساعات فقط!
كان واضحا أن الحبكة أفلتت، وأن هناك محاولة يائسة لإغلاق الحكاية بأى وسيلة، لعل أخطر نتائج هذه الصنعة أن قيام الشاب الإرهابى بتوزيع قنابله على أماكن مختلفة من الشارع الفاسد، قد اكتسب منطقا وجيها بعد أن شاهدنا سوقا يباع فيه كل شىء، طبعا محمد ابو سيف لا يقصد ذلك، ولكن الطريق التى سار فيه الفيلم أوصل هذا المعنى غير المقصود، رغم أن رفاعة الإرهابى نفسه هو أحد تجليات الأوضاع الكارثية التى انتهينا إليها.
يضاف إلى ذلك الطريقة التى تؤدى بها الممثلون شخصياتهم، إنهم يهتمون بالأداء الحركى، وليس بالإنفعال الداخلى للشخصيات، منشغلون هم دوما بلمسات تقليدية مفتعلة وخصوصا فيما يتعلق بالمرأة الشعبية، تكرر ذلك فى أداء كل من زينة وحورية فرغلى وإلهام شاهين، الأداء أصبح يبعث على الضحك، وزاد من لا واقعية الحكاية، ورغم أن مولف الموسيقى التصويرية حسين على اسماعيل كتب جملة موسيقية تثير الشجن، إلا أن المخرج لم يستخدمها إلا بصورة شحيحة ومتباعدة، يدين الفيلم الفساد بلا شك، ولكن بطريقة مباشرة وساذجة أحيانا، كما يفتقد البعد السياسى الذى ساهم بالتأكيد فى أن يكون حاضنا لهذه الفوضى الأخلاقية والإجتماعية.
“هز وسط البلد” ينتهى وقد حملت حورية قنبلة، تريد أن تبيعها للناس اعتقادا منها أنها ساعة، المؤسف أن المشاهد، وقد رأى هذا المجتمع الفاسد، سيتمنى فعلا تفجيره بالقنابل الإرهابية، هذه نتيجة المعالجة المتعسفة لقضية خطيرة، الأفلام ليست مجرد نوايا طيبة، ولكنها ايضا فى حاجة الى احتراف فنى حتى لا نتورط فى تلك الركاكة الدرامية غير المقصودة، والتى لم تنقذها لافتات السيارات المعدنية المضحكة.