“هذه ليلتي” .. لكنَّها ليست حلم حياتي
يقول الشاعر الكبير “إيليا أبو ماضي” في قصيدة شهيرة له مُخاطِبًا الإنسان المُشتكي الهموم:
أيُّهذا الشاكي وما بك داءٌ
كيف تغدو إذا غدوتَ عليلا؟
إنَّ شرَّ الجُناةِ في الأرضِ نفسٌ
تتوخَّى قبلَ الرحيلِ الرحيلا
وترى الشَّوْكَ في الوُرودِ وتعمَى
أنْ ترى فوقَها النَّدى إكليلا
ستطبق “عزة” هذا القول لتخرج في يوم مع ابنها في رحلة سعادة تمتدُّ ساعات يطلعنا فيها فيلم “هذه ليلتي” على معنيَيْن عظيمَيْن. قد بثَّهما فيه المخرج يوسف نعمان، والمؤلف أحمد إيهاب عبد الوارث، وصاحب الموسيقى رهيف الحسّ أحمد الصاوي.
الفيلم المصريّ القصير “هذه ليلتي” يحكي عن يوم من حياة بطلته “عزة” (ناهد السباعي) الفقيرة التي تعمل خادمة في بيوت الأغنياء، والتي تعاني من مشكلات جمَّة؛ ما بين فقرها وعملها المرهق، وزوجها الذي لا ينفق عليها وتشقى معه في علاقة متوترة لها الأثر الكبير على حياتها، وأمّها التي تمارس عليها الضغط من جانب آخر فحينًا تكون معها وحينًا في صفّ زوجها، وبين ابنها الطفل الصغير من جانب آخر الذي يعاني من تأخُّر ذهنيّ ملحوظ، والذي تُشفق عليه كلَّ الشفقة وتريد إسعاده على وجه الخصوص.
ومن أجل لحظات من السعادة لابنها ولنفسها معه خرجتْ بصُحبته في يوم من أحياء الفقراء التي تظهر فيها العشوائيَّة مستوليةً على المشهد في رحلة لحيّ الأغنياء “مصر الجديدة”. هذا اليوم خاصةً كان موعد إحدى المباريات لمُنتخب مصر، وهنا نحن نراها وهي تعد ابنها في فوضى المشهد الأوَّل بشراء قميص أحد اللاعبين -الذي عدَّه المجتمع قدوة في زمن غابت فيه القدوة الحقيقية- حال فوز المنتخب مُحقِّقًا “انتصارًا” على حد تعبيرها. وإنَّ التركيز على هذه المُفردات أداة هامّة جدًّا في هذا الفيلم خاصَّةً.
زمن الفيلم محدود للغاية ثلاث عشرة دقيقة وثلاث عشرة ثانية فقط؛ وكُلَّما قصر الحيِّز في أي عمل فنيّ زاد الاعتماد على قوَّة عناصره ودقَّة اختيارها، وزاد فحص دور كلّ عنصر منها من قِبل الصانعين ومن قِبل المُدقِّقين في المشاهدة أو التلقِّي. ومن هُنا نقف على أوَّل عناصر الفيلم نجاحًا وهو الحوار. فقد استطاع الحوار الذي صنعه المؤلف والمخرج سويًّا أنْ ينقل إلينا -وفي كلمات بسيطة من طرف واحد في حوار هاتفيّ- الكثير من خلفيَّة البطلة ونفسيِّتها ودوافعها ومُبرِّرات أفعالها؛ فعرفنا كلَّ ما يتعلَّق بأسرتها ومشكلاتها وتاريخها الوظيفيّ وسبب خروجها وضيق نفسها العامّ الذي يدفعها إلى السلوك الانفعاليّ تُجاه ابنها وتجاه الآخرين، وعرفنا أيضًا سبب تغاضيها عن بعض إساءات الآخرين -لاستهدافها إسعاد ابنها مهما كان الثمن- من خلال هذا الحوار أُحاديّ الجانب، دون رؤية أيّ شخص آخر ودون سماع صوته. المُرجِّح الآخر في عُنصر الحوار هو أنْ يعرف المُؤلِّف متى يستخدمه ومتى يصمت ليكون الصمت عنصرًا فاعلاً في ذاته ومُخلِيًا الساحة للغة الصورة التي تتولَّى عنه البيان والتعبير.
الفيلم مقسَّم إلى ثلاثة فصول؛ الأوَّل خُصِّص للتمهيد من اللقطة الأولى إلى وصولهما “مصر الجديدة”، والثاني ما حدث معهما في مصر الجديدة انتهاءً بالشجار وضياع الطفل، والثالث منذ إيجاده إلى آخر لقطة أيضًا. وقد استغلَّ المُؤلِّف الفصل الأوَّل ليُمهِّد إلى الهدف الآخر من فيلمه من خلال أداة صوتيَّة وهي صوت المِذياع في الحافلة الصغيرة التي استقلَّاها في طريقهما.
وها نحن نرى الفقر والعشوائيَّة وأصوات الباعة الجائلين يستغلون المباراة لبيع الأعلام وقمصان اللاعبين. في مشهد معنويّ يُغيَّب فيه الفقير عن همومه ويسعد “لانتصار” ليس حقيقيًّا بل على شاشة لنْ ينال منه شيئًا حقيقيًّا إلا كجَرعة المُخدِّر التي يعيش فيها الوهم بصورة الحقيقة، ويشعر حقًّا بنصر! وهو في شقاء ما بعده شقاء. ويضحك بعد المباراة إذا انتصر فريقه ويصفِّق للاعبين سيتقاضون الملايين نظير مشاركتهم في مسرحيَّة الوهم التي يعيشها.
كل هذا في جانب وإذا بنا نسمع صوت المِذياع يؤكِّد أنَّ التعديلات الدستوريَّة تأتي لصالح المواطن؛ خاصَّةً الطبقة الفقيرة المُعدَمة التي لا تفتأ الدولة ومسئولوها مُؤرَّقَي العيون يعانون كلَّ المُعاناة في التفكير في حال هذه الطبقة، والاعتناء بها كلَّ الاعتناء. حتى إنَّها قد بعد أنْ نهبت كلَّ ثرواتهم سمحت لشركات أجنبيَّة أن تعرض شاشات بالغة الضخامة مُنوَّعة الأحجام والإمكانات ليُنفق فيها المواطن البقيَّة الباقية من أمواله ويشتري مُخدِّره الخاصّ الذي سيرى فيه “انتصاره” الحقيقيّ، ويصفِّق بهدوء كي لا تتمزَّق ملابسه البالية.
ولعلَّ لغة الصورة التي تولَّى المُخرج أمرها قد قدَّمتْ بذكاء وحُسن اختيار كلَّ دواعم المعاني التي استهدفها الفيلم. فمنذ اللقطة الأولى نجد أنفسنا غارقين في خضمّ المشهد معنويًا، بل تشعرك الصورة أنَّك تخرج معهما من الصورة العشوائيَّة إلى الحافلة التي تنتظرهما. وقد اهتمّ المُخرج بعنصرَيْن صنعا معًا نجاح الصورة الفيلميَّة: الاختيار الدقيق لأماكن الأحداث -بما في ذلك الأحداث الجُزئيَّة مثل الشِّجار والضياع وعربة السيرك المُتحرِّكة-، وحشد المشهد بعناصر كثيرة تغذيه. مع الانتباه إلى أنَّ تصوير الشارع أمر في غاية الصعوبة خاصةً في الأماكن الحيويَّة.
ومِمَّا اهتمَّ به صانعا الفيلم هو إبراز العلاقة بين الخادمة التي أتتْ من حيّ فقير إلى حيّ الأغنياء وتعامُل بعض الأخيرين معها؛ حيث ينظرون إليها وإلى ابنها نظرة النفور والازدراء، وكأنَّهما مُتطفِّلان على أملاك أسيادهما! مثَّل الفيلم هذا في موقفين متتاليين: مع أمّ وابنتها أمام أحد المحالّ، ومع ابن البطلة وصاحبة المحلّ الذي اقتحمه الولد لهوًا. ثُمَّ تعامل الفقير مع الفقير مثله في شجار بين البطلة وبين صاحب أحد الأكشاك -شريف الدسوقي- والذي تسبَّب في ضياع الولد. فكلاهما يتشاجران بسبب أمور بسيطة جدًّا -تسبُّب الطفل في إيقاع بعض أغراض صاحب الكشك- فيا له من موقف فيه يتشاجر الفقير مع فقير على شيء فقير في وسط أغنياء لا يعلم أحد لِمَ تكرَّس المال في جيوبهم ولِمَ فرغتْ منه جيبا الفقيرَيْن!
وفي مشاهد ضياع الطفل تمهيدًا منذ أوَّل انشغال البطلة في الشجار إلى أنْ وجدته انسحبتْ كلّ العناصر لصالح بطولة موسيقيَّة تولَّاها عن الجميع أحمد الصاوي. وكمْ أحسن اختيار ما فعل؛ حيث أسمعنا مُبرهِنًا على أنَّ الكيف لا الحشد الكَمِّيّ هو الصانع للتأثير في لحظات الذروة الحَدَثيَّة. بإبداع موازٍ بدتْ ناهد السباعي في لياقة تمثيليَّة أدَّتْ إلى نجاح كل مشهد جُزئيّ، وبالتالي تقديم العرض الكُلِّيّ. فلننظر إلى أربعة ملامح: في أوَّل الفيلم وهي تشعر باستشراف السعادة الآتية، وفي منتصفه وهي تتشاجر مع الرجل وتتعامل مع الإساءات، وعند إيجادها الطفل، وفي آخره وهي تحنو على الولد الصغير وتطيع أمر سعادته.
ويدعو الفيلم في هدف آخر -بعد هدف التضاد بين طبقات المجتمع وجهود الدولة التي تذيعها- إلى صناعة السعادة الذاتيَّة السعادة الخاصَّة لكلّ إنسان. تلك السعادة البريئة التي تشعره بأنَّه حيّ، والتي لا تمثِّل مُخدِّرًا -كما المباريات والانتصارات العظيمة التي تحققها- بل تمثل سلوى الإنسان لاستكمال طريقه في الحياة. وهو المعنى الذي ختم به “إيليا أبو ماضي” قصيدته الشهيرة مُناديًا المُشتكي حالَه:
أيُّهذا الشاكي وما بك داءٌ
كُنْ جميلاً ترَ الوجودَ جميلا