“هابي بيرث داي..” حلم طفلة بالخلاص
أمير العمري
لست من الذين يهتمون كثيرا بجوائز المهرجانات، ولا بالترشيحات الكثيرة للأفلام التي تتقدم بها الدول المختلفة لجوائز الأوسكار، وكلا الأمرين، الجوائز والترشيح، نالها الفيلم المصري الجديد “هابي بيرث داي”، وهو عمل أول للمخرجة سارة جوهر، ومن كتابتها مع زوجها المخرج محمد دياب.
الفيلم من الأفلام المستقلة “البسيطة”ـ أي التي تعتمد على موضوع يسير في سلاسة وبساطة، من دون أي مستويات كثيرة معقدة، وفي سياق واضح يأتينا أساسا، من عيني طفلة في الثامنة من عمرها، هي “توحة” التي تبدو في تصرفاتها وأفعالها، أكبر من سنها. فهي تنتمي لبيئة فقيرة للغاية، لأم وحيدة (لا يأتي الفيلم على ذكر ما حدث لأبيها)، وهذه الأم تعول وحدها عددا من كبيرا من الأبناء، تعيش على هامش المدينة قرب نهر النيل، ولذلك دفعت ابنتها للعمل لدى أسرة ثرية تقطن داخل كمباوند مغلق في ضاحية راقية من ضواحي القاهرة.
هذه الطفلة “توحة” تعيش في الواقع تجربة أكبر من سنها، وهو ما يتم التعبير عنه من خلال تصرفاتها وتعليقاتها وطريقتها في الحديث والجدال، لكنها في نفس الوقت، تتشبث بالحلم الجميل الذي تتصور أنه يمكن أن ينقلها من عالم البؤس والفقر والضعة، إلى عالم آخر تتحقق فيه، وتتمتع بإنسانيتها. الثراء ليس هو ما يشغلها، بل الحب والدفء والشعور بالتحقق في مجتمع يسحق الفقراء والمنتمين للطبقات السفلى.
في الفيلا الأنيقة التي تعمل فيها توحة لدى “مدام ليلى” (نيللي كريم) هناك تبنة ليلى أي “نيللي” وهي طفلة في مثل عمر توحة، تتطلع للاحتفال بعيد ميلادها لكن أمها التي انفصلت حديثا عن زوجها، لا تريد أي احتفالات، بدعوى عدم توفر المال الضروري لمثل هذه الاحتفالات الباذخة التي تقيمها الطبقة الثرية في مصر من سكان الأحياء المغلقة المحطة بالأسوار. ومدام ليلى تعمل لكننا لا تعرف ماذا تعمل تحديدا. وهي نقطة يتجاهلها السيناريو عن عمد، لأن الفيلم ليس مجال اهتمامه ليلى وزوجها وخلافاتها معه رغم أن أمها المريضة بداء السكري، تحاول إصلاح ذات البين فيما بينهما، لكن مجال اهتمام الفيلم كما ترى، هو “توحة” نفسها، عالمها وأحلامها. والفيلم في معظمه- يأتينا من خلال عيني توحة.
إنها تتماهى مع فكرة عيد ميلاد نيللي، فتسعى بكل الطرق لأن يتحقق الاحتفال خصوصا بعد أن قالت لها نيللي إنها يمكن أن تغمض عينيها وتتمنى حدوث شيء لكي تتحقق أمنيتها، وإن مثل هذه الأمنيات لا تتحقق سوى عند إطفاء الشموع في أعياد الميلاد.

عيد ميلاد نيللي الصغيرة يصبح إذن، هو عيد ميلاد توحة. فهي تتوق لأن تتمنى أمنية تحقق لها الخروج من عالم الفقر، ونيل قسط من التعليم (فهي أمية لا تعرف القراءة ولا الكتابة) ولذلك نراها تتمسك بشدة بالبقاء في منزل هذه الأسرة التي تتعامل معها ربتها في معظم الأحوال، باللين والرقة والعطف، ونادرا ببعض الشدة والصرامة. ولكن يصبح الآن مطلوبا من توحة أن ترحل وتعود إلى أمها قبل إقامة حفل عيد ميلاد نيللي، والسبب أن زوج ليلى أو طليقها، لن يتحمل وجودها- كما تقول ليلى. ولكن توحة ستذهب ثم ستجد وسيلة للعودة والحضور والرقص والاستمتاع إلى أن يتم إبعادها خارج تلك “الجنة” إلى عالمها قبل أن تتمكن من إبداء الأمنية أثناء إطفاء الشموع.
الفيلم إذن يلمس في بساطة شديدة وعن مسافة، التناقضات الطبقية، كما تنعكس على طفلة صغيرة في بداية مشوار الحياة. ولكن من دون إصدار أحكام تدين أو تستهجن. إنه فقط يصف ويوضح ويكشف.
وإذا كان “هابي بيرث داي” يبدو لأول وهلة كفيلم من أفلام الأطفال، وهو يصلح أن يكون كذلك بالفعل، إلا أن البعد الاجتماعي والنفسي الأعمق يرتفع به لكي يصبح فيلما صالحا للصغار والكبار.
هناك بعض الاستطرادات والإطالة. وهناك أيضا بعض المشاهد المرتبكة مثل مشهد التسلل إلى الفيلا ليلا، كما يبدو مشهد استعادة الطفلة توحة من جانب أمها في النهاية مبتورا، لكن هناك مشاهد أخرى كثيرة مصاغة جيدا ربما يكون من أفضلها مشهد اصطياد السمك باليد في منطقة ضحلة من مياه النيل: هنا تقوم الأم مع أبنائها باصطياد الأسماك والاستعانة بوعاء بلاستيكي كتوع من العوامة أو ربما لوضع الأسماك فيه: هذه النقطة أيضا غير واضحة، فنحن نفهم في البداية عندما تبحث الأم “نادية” (حنان مطاوع) مع ابنتها، عن وعاء من البلاستيك، تلفت توحة نظرها إنه يجب ألا يكون ملوثا بالبنزين حتى لا يسبب الضرر للأسماك. ونفهم أنه لحفظ السمك الذي سيتم اصطياده، لكننا لن نرى الأطفال يضعون أي سمكة في داخله في مشهد الصيد الفعلي، بل يستخدم غالبا كعوامة للتشبث به وتفادي الغرق.
يجب القول إن أفضل عناصر الفيلم الفنية هو عنصر التصوير الذي ينسب لمدير التصوير سيف الدين خالد. هنا فيلم مصري، لا تبدو صوره ومناظره شاحبة وألوانه باهتة نزفت خارج الصورة كما في كعظم أفلام السينما المستقلة التي نراها في المهرجانات الدولية وتصدمنا بفقرها البصري المخيف مقارنة مع أفلام العالم، بل صور واضحة وإضاءة متقنة، تسطع تارة لكي تضفي على المشاهد أجواء الحلم الخرافي الذي تعيش فيه توحة، من خلال ألوان مثل الأحمر والأصفر والأزرق، أو اللجوء إلى إضاءة قاتمة تجسد لا تخفي مشاعر الإحباط والخيبة والحزن التي ترتسم على وجه الطفلة الصغيرة عندما ترغم على الخروج من دائرة “الحلم”. وهنا أيضا يتم التعامل بدقة وبراعة مع تكوين الكادر السينمائي: ففي أحد المشاهد نرى توحة على اليسار داخل المطبخ وعلى اليمين ليلى وأمها.. أي حدثان في وقت واحد مرتبطان دراميا يفصل بينهما حاجز.
أداء نيللي كريم في دور السيدة التي تعيش في فيلا أنيقة مع أمها بعد انفصالها عن زوجها، هو أداء رصين محسوب واثق لا مجال للمبالغة فيه، سواء في ردود الفعل، أو التعامل مع توحة نفسها التي يمكن أن تثير الغضب أحيانا كونها تتمتع أيضا بالرغبة في المشاكسة والمجادلة.
أداء حنان مطاوع في دور والدة توحة الفقيرة “نادية” غير موفق وغير مقنع، فهي تقوم بدور ليس دورها، وكان يجب إسناده إلى ممثلة يمكنها أن تكون أكثر إقناعا، كما أن هناك سوء اختيار واضح لملابسها والقبعة الغريبة أو ذلك الغطاء الذي تضعه على رأسها (لم أفهم كنهه بالضبط) بل بدت غريبة تماما عن الدور، وقامت بأدائه بطريقة رتيبة فاقدة أي حرارة.
طبعا هناك سوء اختيار لبعض الممثلين الآخرين مثل الطفل الذي يقود التوكتوك في الحي الشعبي وهو الذي يرتبط بصداقة مع توحة ويسعى لإنقاذها من سائق آخر حاول استغلالها والتحرش بها، ثم يقوم هو بنقلها إلى حيث توجد فيلا الأسرة. هذا الطفل بدا منتميا أكثر الى الطبقة الوسطى لا إلى الطبقة الشعبية الفقيرة، في صوته وأدائه وتكوينه الشكلي.
لدي أيضا تحفظ على احتيار هذا الاسم للفيلم، أي “هابي بيرث داي”، فلمن يوجه الفيلم بالضبط؟ هل للطبقة التي تعرف هذا التعبير الأجنبي؟ أم لكل الناس، أم للعالم الخارجي الذي حصل الفيلم على تمويل منه؟ كان الأفضل بكل تأكيد، احتيار اسم عربي- مصري يليق بموضوع الفيلم.

أداء شريف سلامة في دور “آسر” زوج ليلى المنفصل عنها أو طليقها (لا نعرف بالضبط وليس مهما) هو أداء زائد مبالغ فيه، يشوبه التشنج والاستعراض الذي يفرغه من جوهره، بل إن غضبه الشديد واتهامه لزوجته بتشغيل واستغلال طفلة لا يتضح دافعه أيضا، فالذين ينتمون عادة إلى هذه الطبقة لا يقيمون وزنا كبيرا لمثل هذا الأمر، بل ويمكن ألا تلفت “توحة” نظره أصلا.. فما سر انفعاله الشديد عندما يلمح هذه الفتاة في حفل عيد ميلاد ابنته؟!
يبقى الأداء الأهم والأقوى والأكثر بروزا في الفيلم، هو أداء الطفلة الوافدة “ضحى رمضان” التي قامت بدور توحة، فهي تتمتع- ليس فقط بالحيوية والتلقائية- بل وبالقدرة على الرقص والتعبير الحركي. إنها دون شك، محور الفيلم، وروحه، ومن دونها لم يكن الفيلم ليوجد أو يتمتع بكل هذا التأثير الذي لا شك فيه. لكن يجب أن نضيف أن الفضل في هذه السيطرة المدهشة على أداء ضحى رمضان يرجع دون شك، إلى المخرجة.
التجربة الأولى لا تخلو من بعض الهنات والمشاكل. لكن لا بأس. وقد لا يكون الموضوع جديدا تماما، لكن ما يمنحه تأثيره القوي، هو الصياغة المختلفة، تلك النظرة التي تتطلع من خلالها طفلة صغيرة إلى عالم لا تستطيع أن تفهمه، ولذا فإنها تلجأ إلى تلك الأمنية الخاصة الغامضة، أو الحلم الخرافي بالانعتاق والخروج من عنق الزجاجة.. وليت الأمر كان بهذه البساطة!
