نوري بيلجي جيلان: صورت 200 ساعة حتى أنجزت “سبات شتوي”
– كيف تحوّلت عندك عملية صنع الأفلام بحيث صارت معتمدة أكثر على السيناريو؟ في أفلامك الأولى، “البعيد” Distant على سبيل المثال، كان التأمل ينبني أثناء عملية التصوير.. هكذا فهمت. لذلك أتساءل إن كان الفعل التأملي يحدث الآن عبر عملية كتابة السيناريو.
* عملية كتابة النص تغيّرت كثيراً ضمن مسار عملي السينمائي. فيلماً بعد فيلم، كنت أشعر أن ثقتي بالنفس تتزايد تدريجياً. أصبحت أكثر شجاعةً في المضي نحو طرائق ومعضلات أكثر تعقيداً.. ومن أجل ذلك، تحتاج إلى سيناريو أفضل، سيناريو يعتني بالتفاصيل. وهذا لا يعني أن السيناريو يظل كما هو أثناء التصوير، بل يكون عرضةً للتغيير. كتابة السيناريو، بالنسبة لي، عملية لا نهاية لها حتى أنتهي من المونتاج، بل حتى في التسجيل الصوتي يمكنك أن تجري تعديلات على الحوار. في الوقت الحاضر أحاول أن أكتب بتفصيل أكثر، قدر الإمكان، لكي أشعر بالأمان أثناء التصوير.
أنا في البداية أصور ما كتبته، ثم أشرع في التفكير ثانيةً وأحاول أن أجرب أشياء جديدة. إنني دائماً “أكتب” حين أراقب المشهد فيما أصوره. أحاول أن أهتم أكثر بتفاصيل المشهد، لأنك إن وجدت هناك تنويعات في التصوير فإن احتمالات ما تستطيع أن تفعله في عملية المونتاج سوف تزداد أكثر. كما في لعبة الشطرنج، كذلك في عملية المونتاج، بإمكانك أن تجلب معاً الكثير من الأشياء المختلفة. في ما يتصل بتحقيقي للفيلم، المونتاج هو كتابة، عملية مهمة، وليس شيئاً آلياً كما في مونتاج ياسوجيرو أوزو. أنا أحب أوزو وأفلامه كثيراً، لكن مونتاجه سهل. لقد اعتاد أن يصوّر ما كان يكتبه، ولا شيء يتغيّر أثناء التصوير أو في المونتاج. عملي في صنع الفيلم يختلف. أحاول دائماً أن أجد شيئاً أفضل، شيئاً أكثر واقعية، أكثر حقيقية.
عندما تكتب نصاً سينمائياً ربما تشعر بنزوع إلى أن تكون تعليمياً بعض الشيء، لكن أثناء التصوير، يشتغل دماغك بطريقة مختلفة. قد ترى شيئاً، وربما تشعر بأن ثمة خللاً. إن شعرت بذلك، يتعيّن عليك أن تجد شيئاً. حتى لو لم تستطع إيجاد هذا الشيء، عليك أن تحاول. أحياناً نقيض ما تقصده يعمل بشكل أفضل. إنك تشعر بذلك أثناء التصوير.
– عندما تقوم بإجراء تغييرات وتعديلات أثناء التصوير، هل يكون ذلك متصلاً، في المقام الأول، بالعمل مع الممثلين أم أن ذلك يشمل أيضاً تغيير البنى الشكلية؟
* فيما يتعلق بالممثلين، ليس من السهل فهم ما يحدث. هم يشعرون بالضياع بعض الشيء إزاء طريقتي في التصوير. إني أطلب منهم شيئاً وهم ينفّذون ذلك لكنهم في الحقيقة لا يفهمون السبب لأنه، من وجهة نظرهم، تصعب عليهم الرؤية. أحياناً، بالطبع، يقدّمون لي عوناً كبيراً، وإذا كان الممثل شجاعاً وحدسه قوياً فبمقدوره أن يخلق شيئاً. أحياناً عندما أنتهي من كل شيء في التصوير، أدع لهم مجالاً للارتجال إن وجدت لديهم قابلية وإمكانية. عند بعض الممثلين، قد تجد ما يفاجئك ويدهشك، لكنني لا أدعهم يرتجلون إلا بعد أن أحصل على كل ما أريده.
– في عملية المونتاج، هل تغيّر الكتابة من نواح عديدة؟
* نعم، كل شيء يمكن أن يتغيّر. أحياناً تحذف حوارات أو تغيّرها. المونتاج هو الموضع الوحيد الذي يمكنك فيه أن تكون واثقاً ومتأكداً. أثناء التصوير، هناك دائماً قيود الوقت وضغوطه، وغالباً ما تشعر بالشك واللايقين. قد يكون هناك خلل ما في هذا المشهد أو ذاك. وأنت غير متأكد. لكن في المونتاج، أنت ترى كل شيء. قد تضيف أصواتاً، وتجرّب أشياء عديدة، وتلاحظ التوازن. تكون هناك وحيداً في غرفة المونتاج، ولديك كل الوقت. على الأقل، هذا ما أشعره. فلا أحد يضغط عليّ ويفرض وقتاً معيّناً لتجهيز الفيلم للعرض.
– كم من وقت تقضيه في عملية المونتاج؟
* لفيلم “سبات شتوي” أمضيت ستة شهور، ذلك لأنني صوّرت مادة تستغرق 200 ساعة. لقد بذلت جهداً شاقاً حتى انتهيت منه في ظرف ستة شهور.
– هل البناء هو نفسه كما في السيناريو؟
* البناء هو نفسه، لكن هناك العديد من المشاهد التي حذفتها من الفيلم. البناء لم يتغيّر كثيراً لأن السيناريو كان تفصيلياً. في أفلامي السابقة، كان البناء يتغيّر كثيراً لأن السيناريوهات كانت غير مربوطة بإحكام.
– زوجتك إيبرو شاركتك في كتابة سيناريو “سبات شتوي”، كيف كان عملكما معاً؟
* أنا لم أعمل إلا مع زوجتي. يتعيّن على من يشاركني الكتابة أن يكون قوي الشخصية، وليس شخصاً يتفق معي في كل شيء، ويقبل كل مقترحاتي. إيبرو، بسبب علاقتنا، تعرفني بشكل أفضل. هي تصرّ على رأيها وتقاتل في سبيل الدفاع عن وجهة نظرها. هي لا تستسلم ولا تيأس أبداً. وبالطبع هي كاتبة بارعة جداً. إنها واقعية جداً، واعتقد أن هذا مهم. هي ربما أكثر واقعية مني.
– هل تعملان معاً في كل ما يتصل بالسيناريو، في البناء وفي الحوار مثلاً؟
* لا، من المستحيل أن نعمل معاً. كلانا لا يحب الشيء ذاته في الوقت ذاته. لو كنت مصراً على شيء، وهي تعارضني في الأمر، فسوف أكون صاحب القرار النهائي، بما إنه فيلمي.
– صرّحت بأنك استوحيت الفيلم من عدة قصص لتشيخوف، لكن المشهد الطويل الذي يجمع بين آيدين وأخته جعلني أتذكر مشهداً من فيلم برجمان “ضوء الشتاء” Winter Light والذي فيه يقوم القسيس بتدمير حبيبته بإخبارها عن كل ما يكرهه فيها.
* أنا أحب برجمان كثيراً، لكنني أظن أن هذا المشهد لا يشبه ذاك المشهد من فيلمي. أظن أننا كلما شاهدنا أفراد عائلة يلتهم بعضهم البعض، نتذكر مباشرة أفلام بيرجمان. هو بارع جداً في تصوير العلاقات العائلية. في فيلمي، العلاقة بين الأخ والأخت مستمدة من قصة تشيخوف ” أناس رائعون”. ونحن قمنا بتمديد القصة وكتبنا العديد من الحوارات الجديدة. ليس هناك تماثل بين المشهدين. في “ضوء الشتاء” تقوم العلاقة على الإذلال. القسيس يذلّ المرأة وهي تقبل ذلك ولا تعترض أو تحتج. في فيلمنا ليس ثمة إذلال، كل شخص يحاول أن يحمي نفسه. إن كان هناك إذلال فإن الأخت هي التي تمارس الإذلال.
**********
حوار آخر مع جيلان
(من المؤتمر الصحفي المنعقد في مهرجان كان، في 2 يوليو 2014، تحرير: فابيان ليمرسيه، والمنشور في Cineuropa)
– فيلمك “سبات شتوي” مدعوم بوافر من الحوار، والذي يعد توجهاً جديداً في مسيرتك كمخرج. لم هذا التغيّر في طريقة العمل؟
* أميل إلى الحوار كثيراً. وفي الواقع، هناك وفرة من الحوار حتى في أول أفلامي “بلدة صغيرة”. لكن لأننا كنا نفتقر إلى التسجيل الصوتي الحيّ فقد واجهنا بعض المشاكل والصعوبات، ومنذ ذلك الحين، صرت أشعر بشيء من الخوف في استخدام الحوار.
شخصياً أحب المسرح. وهذه المرة لم استخدم الكثير من الحوار فحسب، بل أن الحوار يتسم بالنزوع الأدبي حيث اللغة ذاتها الموظفة في المسرح وفي الأدب. ولا شك أن استخدام هذه اللغة في السينما يعد مجازفة كبيرة، وقد لا تنجح المهمة.
في أفلامي الأولى، كنت حريصاً جداً على تنفيذ أشياء طبيعية وواقعية. لكنني أدركت أن هذا ما نجده منتشراً اليوم بشكل واسع في الأفلام وحتى في الإعلانات التلفزيونية، حيث غالباً ما يتم توظيف لغة الشارع. بسبب ذلك قررت الانتقال في اتجاه النموذج الأدبي من الحوار، ورؤية ما إذا كان بإمكان شكسبير ودوستويفسكي أن ينجحا على الشاشة الفضية.
من جهة أخرى، توظيف هذا النوع من الحوار يقتضي توفر ممثلين محترفين لأن الممثلين الهواة سيواجهون صعوبة شديدة في التعبير وتوصيل حواراتهم.
– الفيلم يعالج العديد من الثيمات الكبيرة والمهمة، من العلاقات الزوجية إلى القضايا الاجتماعية، مروراً بالشؤون السياسية. هل هذا انعكاس لأحداث تشهدها الساحة التركية في الوقت الراهن؟
* في فيلمي أنا لا أقدّم أي إشارة إلى الوضع الراهن في تركيا. في الواقع، أنا لا أعتقد بأن المخرج يتعيّن عليه التلميح إلى الأحداث السائدة في بلاده، لأن من مهماته أن يمتحن ويستنطق الأشياء على مستوى أرحب. لكن كل ما يحدث، أينما يكون في العالم، يمكن تفسيره من خلال تأويل الطبيعة الإنسانية. أعتقد أن واجب صانع الفيلم يختلف عن واجب الصحفي. بالطبع، يمكن للسينمائي أن يقوم بعمل الصحفي، لكن أكثر من هذا، أظن أن عليه مخاطبة روح المتفرج، ومحاولة حقنه بجرعات من المشاعر والعواطف. إذا شعر الجمهور بشيء من الخجل إزاء أمور معينة تدعو إلى الخجل فذلك يعني أن الفيلم نجح في تحقيق غايته. إن محاولة فهم الروح الإنسانية هي ما تحثني على صنع الأفلام.
– لم اخترت مثل ذلك الموقع الرائع لتصوير فيلمك؟
* لم أكن أرغب في التصوير في ذلك المكان، لكن لم يكن لديّ أي خيار بعد أن قمت بالبحث في مواقع مختلفة. كنت أريد موقعاً بسيطاً لكن ينبغي أن يكون سياحياً أيضاً. والمكان الوحيد الذي وجدنا فيه بعض السياح في فصل الشتاء يقع في بلدة كابادوكيا، حيث صورنا الفيلم. كما إننا أردنا موقعاً بعيداً عن المدن الكبيرة، وهذه البلدة كانت الموقع المناسب للقصة.
كنت متردداً وخائفاً بعض الشيء من التصوير هناك لأن للمنطقة جمال يفوق التصوّر، أكثر مما كنت أتمناه، وآمل أن فيلمي لم يُظهر إلا القليل من ذلك الجمال.
في البداية صوّرت السقوط الأول للثلج لكي أرمز إلى التغيّر في الطقس، لأن القليل من البياض يبهج القلب وينعش الأذهان. كان الجو بارداً، أقل من عشر درجات تحت الصفر. وأطرافنا تكاد تتجمّد من البرد. لكنها لم تثلج إلى حدٍ كاف، لذلك كان لزاماً علينا أن نسرع في تصوير مشاهد الثلوج.
– ماذا كان نقطة الانطلاق للفيلم؟
* الفيلم مبني على ثلاث قصص قصيرة للكاتب تشيخوف، ومن هذه القصص استلهمت بعض الحوارات. نحن نصادف حالات وأوضاعاً مماثلة في حياتنا اليومية، ولديّ انطباع بأن هذه القصص مكتوبة من أجل تركيا. الإنسان هو نفسه الإنسان الذي تجده في أي مكان تذهب إليه. لكنني لا أستطيع أن أقول بأنني حققت فيلماً عن موضوع خاص ومعيّن وجلي. ما أحب أن أفعله هو أن أحقّق أفلاماً غامضة تنتهي بترك المتفرج وهو في حالة من المشاعر المختلطة. أحياناً يسألني البعض إن كان بإمكاني أن ألخّص أفلامي في كلمة واحدة أو جملة واحدة، فأجيب: ليس بإمكاني ذلك.
– هل شخصياتك تجسّد رؤية تشاؤمية عن الوجود؟
* ثمة أمل عند شخصياتي بقدر ما يوجد هناك من أمل في الحياة نفسها. بعض المخرجين يميلون إلى تقديم نبرة تفاؤلية في نهاية أفلامهم، لكنني لا أفعل ذلك. أنا واقعي تماماً، وفي بعض الأحيان يتعيّن عليك أن تعرف كيف تكون متشائماً. وقد اعتقدت أن نهاية فيلمي “سبات شتوي” كان تفاؤلياً أكثر مما ينبغي، وأثناء عملية المونتاج جعلت كلام آيدين يبدو أكثر تشوشاً بعض الشيء بحيث أن عبء الشخصية يمكن أن تتحمّله أيضاً زوجته إلى حد ما. في الفيلم، لا أميل إلى حقيقة أننا نستطيع أن نميّز حالاً ما يقوله الناس. وفي النهاية، بإمكان آيدين أن يقول هذه الكلمات في سبيل إراحة نفسه، من دون أن يكون صادقاً، لذلك لجأت إلى إضفاء حالة من الغموض أو الضبابية على المسألة.