“نظرية” بازوليني.. المعاناة في عصر الاستهلاك

Print Friendly, PDF & Email

افترض فرويد أن القلق الوجودي والاكتئاب المتأصلين في الإنسان هما نتاج لكبت الإنسان رغباته الجنسية وعدم البوح بها، وعليه رأى فرويد أن راحة الإنسان لن تتحقق إلا بشرط وجوده ضمن علاقة حميمية مع طرف آخر تقوم على الثقة والبوح المتبادل بالمشاعر بين الطرفين، مشاعر عاطفية وجسدية.
وقبل نظرية فرويد صدر لتولستوي رواية قصيرة باسم “موت إيفان إيليتش”
ودور حول آخر ثلاثة أيام في حياة إيفان إيليتش وهو أب أسرة يحتضر، يصف تولستوي مشاعره وأفكاره ومخاوفه قبل موته.

بازوليني

أزمة بطل الرواية كانت في البدء عبارة عن حادثة أدت لألم عضوي وذلك ما جعله طريحا للفراش، ومع مرور الوقت تحول الألم المادي إلى شعور بالملل والوحدة، شعور معنوي بالضآلة واللامعنى، وعليه يبدأ إيفان النظر إلى ماضيه وحياته.

وبرجوع إيفان إلى ماضيه يتبين فيما بعد أن أزمته لا تكمن في مرضه العضوي، بل هي أزمة وجودية، وشعور ظل يلازمه بالوحدة طوال حياته.
يكشف مرض إيفان له عن “العطب” في حياته الماضية والذي لم يلتفت له إلا حين مرض. والمرض في حالة إيفان كان بمثابة لحظة التكشف/ البصيرة، فتلك اللحظة كانت بمثابة هدنة مؤقتة لإيفان حتى يستطيع تأمل ماضيه ومسار حياته فيما سبق، ليكتشف أنه قد عاش طوال عمره “كذبه”، فهو لم يعش إلا لغيره من الناس، لقد عاش يأكل ويلبس ويشتري تبعا لذوق الناس، وما يرتضيه المجتمع.

كان الرجل المثالي للمجتمع، والزوج المثالي لامرأته والأب المثالي لأولاده، ولكنه في النهاية لم يكن ذاته، يكتشف إيفان أنه لم يعش ولو لحظة لنفسه، ولم يتوقف لحظة في عمره ليفكر: ماذا يريد حقا؟

وهنا يتفاقم ألم إيفان، ويزداد كلما شعر بأن أولاده وزوجته قد سئموا منه، وغير مهتمين بألمه أو صراخه، رغم أنهم من أفنى حياته من أجلهم.
يبدأ شعور إيفان بالونس أو بالحياة مرة أخرى حين اقتراب “جيراسيم ” منه، وجيراسيم هو خادم، تأتي به العائلة لمساعدة إيفان في مرضه.

يصف إيفان شعوره تجاه جيراسيم، بأنه يألفه ويحبه، ويشعر بأنه هو الوحيد الذي يفهمه، أكثر حتى من أولاده وزوجته، وذلك ما يشعر إيفان بقليل من العزاء في مرضه.

وعرف عن المخرج الإيطالي بيير باولو بازوليني Pier Paolo Pasolini تأثره بعالم النفس سيجموند فرويد وحبه للأدب والشعر أيضا، فبجانب كونه مخرج أفلام، كان بازوليني شاعرا وأديبا متعدد المواهب.

يظهر تأثر بازوليني بفرويد بشدة في فيلمه ” أوديب ملكا” فيختار في معالجته للأسطورة أن يسير على خطى فرويد في تفسيره لمأساة أوديب، ولا يظهر في الفيلم كما في المسرحية أو الأسطورة أن قدر أوديب مكتوب منذ البداية، بل يجعل بازوليني من شعور الغيرة لدى الأب تجاه الطفل هو بداية العدوان بينهما بسبب شعور الأب بأن الابن يسلب منه حب الزوجة وعليه يتخلص الأب من الابن ويبعده عن أمه لتبدأ رحلة أوديب بالانتقام من أبيه.

بعد فيلم “أوديب ملكا” Oedipus Rex  بسنة يصدر لبازوليني فيلم “نظرية”Theorem –  – عام 1968  ويعد الفيلم أنضج تجارب المخرج الراحل وأكثرها تعقيدا.

يدور الفيلم حول رب أسرة برجوازي يتعرض رأسماله للتهديد وعليه يمرض الأب مالك المصنع ويكون طريحا للفراش.
في يوم ما يزور الأسرة شاب غريب، أتى من العدم لزيارة الأسرة أثناء مرض الأب.

الملفت، والذي يكشف عن المقاربة بين عمل بازوليني ورواية تولستوي – هو طلب الأب من الخادم – ففي الرواية يطلب إيفان أن يرفع قدميه على كتفي جيراسيم، ويسمح له جيراسيم بذلك في شعور متبادل بينهما بالألفة، وهو نفس الطلب الذي يطلبه رب الأسرة اليائس هنا من الزائر فيظهر في مشهد مبهم قدمي رب الأسرة بينما هي فوق كتفي الخادم.

التشابه لا يقتصر على ذلك فقط، بل يشير فيلم بازوليني لقراءة وتأويل عميقين من جانب بازوليني للرواية، فالتشابه لا يقتصر فقط على العلاقة في الفيلم والرواية بين كل من الأب والخادم، بل يمتد لبنية الأسرة نفسها، وبكونها أسرة برجوازية، إلى أن يصل لجوهر معاناة رب الأسرة، والأسرة نفسها.
يظهر الأب في مشاهد متقطعة على مدار الفيلم بينما يمشي في الصحراء عاريا، يبدو تائها فنعلم أنه يعاني في داخله، حتى يجري ويصرخ بشدة في المشهد الأخير.

يظهر أن الأب لديه قلقا وجوديا ناتجا عن فخ الملل الذي يشوب حياته البرجوازية هو وأسرته، وهنا يتبلور نقد بازوليني الموجه – ليس للأسرة وحدها – بل لثقافة مجتمع وعصر استهلاكي.

فرغم رفاهية الأسرة إلا أن الزوجة تعاني من العوز الجنسي، الابن والابنة بلا غاية، الخادمة نفسها في ذلك المنزل تبدو مغلوبة على أمرها، مجبرة طوعا على الوجود فتظهر في أحد المشاهد وهي تحاول الانتحار.
صحراء الأب هي عالمه الداخلي وحقيقته حينما ينكشف أمام ذاته، لأن عالمه بالخارج هو عالم غير حقيقي، فيبدو في مشاهد الصحراء وكأنه في مواجهة مع ذاته.

وبالطبع فشلل الأب هو انعكاس لعجز داخلي – جوهري في نفسه.
وهنا يأتي دور الزائر الغامض لبازوليني.

إن المسيح/ المخلص في التراث الإنساني، اللاهوت، الوعي الجمعي هو عبارة عن رجل يبشر بقيم مثل التسامح والعدل والرحمة، قيم خيرة تماما، ولكن عند بازوليني يختلف الأمر، فالزائر الغامض يخلص الأسرة من آلامها عبر “الوسوسة” لهم. فيبدو الخادم متمردا، نقيضا للمسيح تماما، بالأحرى أو وبوصف أدق هو “مسيح فرويدي”.

مخلص بازوليني لديه طرق مغايرة في الشفاء، فهو يسكن ألم الزوجة عبر ممارسة الجنس معها، كذلك يمارس الجنس مع الابن، ويستمع لشكوى الابنة كما ينقل رسالته المبهمة إلى الخادمة، وتبدو علاقته مبهمة أكثر بالأب.
مسيح بازوليني يبدو مركبا جدا، لأن رسالته في البدء نابعة من “الإغواء” ولذلك يلتبس الحكم تجاهه، ويبدو طبيعيا التشكك في نيته، فهل هو يسعى لخلاص الأسرة فعلا، أو إلى مجرد منتقم؟

الواضح وبغض النظر عن هدف الخادم، أن وجود الخادم كان داعما للأسرة للفهم، فالأسرة راكدة ترفض الحراك، والعطب ليس معنويا فقط متمثلا في الداخل بل هو ممتد للخارج أيضا، ويظهر أثر الخادم في تحرر الأم جنسيا، واستطاعة الابن التعبير عن نفسه عن طريق الرسم وانفلات الخادمة من قبضة الأسرة.

إن العطب أو أزمة الأسرة تتمثل بشدة في الصمت التام للابنة. وصمت الابنة يشبه إلى حد كبير ما فعله ابن العائلة البرجوازية في فيلم لاحق لبازوليني وهو Pigsty  أو “حظيرة الخنازير”، فالابن في الفيلم يعزل نفسه في غرفة صغيرة ذهبية كي لا يتلامس حتى مع عائلته التي يرفض سلوكها.
وهنا بالمثل يكون الصمت التام الفجائي للابنة، فيبدو كرد فعل عصابي على سلوك الأسرة، أو هو امتداد لمأساة الأسرة في الأخير، التي ليس لها أمل في الخلاص بمجرد رحيل الزائر.

هناك رؤية مغايرة يطرحها هنا بازوليني أيضا عن الإغواء، فالإغواء متمثل دوما في المرأة، لكن مخلص بازوليني هنا مناقض في أمرين، أولهما أن تبشيره قائم على الاغواء، وثانيهما أنه رجل يغوي وليس بامرأة. فالكاثوليك في القرون الوسطى مثلا وصموا المرأة أحيانا بالشر لأنها قادرة على الإغواء، بل وامتد ذلك ليتم اعتبار الإغواء نوعا من السحر، وعليه كان يتم إحراق النساء الذين يعتبرن ساحرات.

إن ما يثبت أن زائر بازوليني هو أقرب إلى مخلص، أنه بمجرد اقتراب الأسرة منه يكتشفون ذواتهم ويتحررون من قلقهم أما عند تركهِ لهم فإنهم يضيعون ويهيمون في الأرض من جديد باحثين عن حلولٍ مختلفة لعِللهم، عدا الخادمة التي تبدو أكثرهم قربا للزائر، وربما بسبب طبقتها الاجتماعية فهي أقربهم للتحرر، ولأن من يدركون تعاليم الرب جيداً فإنهم يسيرون على الصراط المستقيم.

 ذلك ما يفسر أنه حتى وبعد هجر الزائر منزل العائلة فإخلاص الخادمة في حمل الرسالة يجعلها تشفي المرضى والمتألمين بعد تركها للمنزل لتنتهي بأن تظهر بينما تعلو وترتقي في السماء وسط ذهول الجميع، فتبدو هي الأخرى كمخلص آخر – قد حمل الرسالة بإخلاص تام، ويظهر ذلك بوضوح في المشهد الذي حملت فيه الخادمة أغراض الزائر حتى خروجه تماما، وهنا تبدو تبشيرية بازوليني سياسية اجتماعية أكثر منها أخلاقية.

تتوه الشخصيات بعد رحيل الزائر، الخادمة نفسها تطلب أن تدفن في التراب بينما هي حية، لشعور في داخلها بأن رسالتها قد انتهت، وتبدو أيضا كرغبة نبعت من نزعة عدمية أدت إلى شعور نهائي بخواء تام للحياة، ومتجسد ذلك في صرخة أخيرة للأب بينما يجري عاريا في الصحراء، وهو فعل معبر عن بشاعة ما آل إليه مصير الأسرة التي عاشت حياة خاوية من المعنى.

Visited 4 times, 1 visit(s) today