نظرة قاسية للواقع المصري في فيلم “اشتباك”
في لحظة ما أثناء تدفق المشاهد المقبضة القاسية في فيلم “اشتباك”، ثاني أفلام المخرج المصري محمد دياب (38 سنة)، ينتاب المرء إحساسا بأن الأمور كلها قد تشابكت وتداخلت بحيث أصبحت تستعصي على الفهم، فلم نعد ندري من يقف مع من، ولماذا، وعلى أي أساس، خاصة ونحن إزاء عمل سينمائي لاشك لدينا في جرأته- سياسيا وفنيا- يتناول الموضوع الأكثر حساسية في الوقت الحالي في مصر، أي ذلك الانقسام الاجتماعي الذي اتخذ سمة الحرب الأهلية غير المعلنة بين فصائل تنتمي إلى اليمين الديني، وفي المقدمة منه جماعة الإخوان المسلمين، وعلى الجانب الآخر يقف المنتمون لما يسمى بـ “المجتمع المدني” الذي يرفض الدولة الدينية.
هذا الشرخ الهائل كان دائما هناك، وإن بشكل مستتر، منذ أكثر من ثلاثين عاما، أي منذ خروج الجماعات الإسلامية من تحت الأرض في زمن الرئيس السادات، ثم اصطدامها العنيف والعنيد مع أجهزة ومؤسسات الدولة المصرية، وهو الصدام الذي بلغ ذروته في اغتيال السادات نفسه، ثم الحلول الوسط التي لجأ إليها نظام الرئيس مبارك لاحتواء نشاط الجماعات الإسلامية مع السماح لها باجتياح غير مسبوق للبنية التحتية في المجتمع المدني: المدارس، الإعلام، المستشفيات الخاصة، الأسواق التجارية، سوق المال، مع تغلغل أفراد جماعة الإخوان في الكثير من المؤسسات، وهو ما أدى إلى الهيمنة الفكرية على عقول عموم المصريين الفقراء، ثم وصول الجماعة إلى السلطة بعد ثورة يناير 2011، سواء عن طريق “سرقة الثورة” أو اختطافها كما يقال، أو بموجب السيطرة الأيديولوجية التي كانت قد ترسخت بالفعل على عقول سائر أبناء الطبقات الشعبية في مصر.
لاشك أن افتتاح برنامج “نظرة ما” في مهرجان كان بالفيلم يعد تتويجا لجهود مخرجه ومؤلفه دياب الذي آثر الانتظار لسنوات، قبل أن يقدم فيلمه الخاص عن “الحالة المصرية” القائمة والملتبسة، بين الثورة والثورة المضادة، الانشقاق والقمع، التأييد الحماسي ثم الرفض المتوتر.
لاشك أن “اشتباك” فيلم سياسي ساخن، فهو يصور حالة الانشقاق الاجتماعي والسياسي الخطير الذي وقع بين الطرفين الرئيسيين، ثم بلغ ذروته مع الصدام المباشر بين الدولة والإخوان بعد الإطاحة بسلطة الرئيس السابق محمد مرسي في يوليو 2013، وما أعقب ذلك من عمليات عنف مارستها جماعة الاخوان والجماعات المنبثقة عنها، وحملات الاعتقال التي شنتها سلطة النظام الجديد المدعوم مباشرة من الجيش أو الذي أصبح الجيش اللاعب الرئيسي فيه، وعمليات الكر والفر التي مازالت قائمة حتى يومنا هذا.
مجتمع ممزق
يلجأ محمد دياب هنا إلى أصعب أشكال التصوير، فهو يحشد نحو 25 شخصية من المصريين داخل إحدى شاحنات شحن المجرمين، هذه الشخصيات المختلفة تمثل الاتجاهين، اتجاه الاخوان المسلمين وأنصارهم، والاتجاه الآخر الرافض لهم، وبين هؤلاء وأولئك، السلطة البوليسية القمعية التي لا تفرق بين الاخوان وغيرهم، ولا تستثني كل من يبدي تعاطفا من الزاوية الانسانية مع المعتقلين بما في ذلك عساكر السلطة من المجندين البؤساء.
داخل هذه الشاحنة المصفحة التي تستخدمها قوات الأمن المركزي في مصر، ستندلع الخلافات والاشتباكات بين أفراد هذا الخليط المتنافر المضطرب. وبينهم وبين قوات الأمن التي تحبسهم داخل هذه المصفحة التي تسير في أكثر الأوقات صعوبة عندما كانت الاشتباكات العنيفة تدور في شوارع القاهرة بين الاخوان والجماعات الاسلامية المسلحة من جهة، وقوات الأمن المركزي والجيش من ناحية أخرى. يجيد دياب إخراج مشاهد العنف التي يصورها من داخل المصفحة، كما يجيد الانتقال بين الداخل والخارج، ويلتقط من خلال سيناريو يتمتع بالذكاء، الكثير من التفاصيل الإنسانية البسيطة التي تمنح الشخصيات هوياتها، وتقرب تدريجيا بين الطرفين من خلال الحس المشترك بالقمع الواقع على الجميع، ويضفي السيناريو رغم قسوة ما نشاهده، بعض ملامح المرح الإنسانية التي تتفجر من خلال شخصية الشاب السمين المنتمي للاخوان والذي كان يود أن يصبح مغنيا وممثلا، وهو يتمتع بخفة الظل رغم بشاعة صوته ومع إصراره على الغناء بل والتطوع أيضا بتقديم يد المساعدة بطريقته الخاصة!
تتجه المصفحة التي تحمل هؤلاء جميعا الى وجهة غير محددة، ثم تتوقف وسط الاشتباكات العنيفة التي تندلع خارجها وما ينجم عن ذلك من تعرض المحبوسين داخلها للاختناق والموت والإصابة بالأزمات الصحية الطبي العاجل ولكن دون أي استجابة من جانب قوات الأمن، ولاشك أن الفيلم يستند جزئيا إلى الحادثة الحقيقية التي وقعت في الأيام الأولى بعد الاطاحة بحكم الرئيس محمد مرسي، عندما ألقى أحد ضباط الشرطة قنبلة غاز مسيل للدموع داخل مصفحة كانت تنقل عددا من المعتقلين من جماعة الاخوان المسلمين، مما أدى إلى اختناق وموت 37 شخصا، في واحدة من أبشع حوادث العنف التي شهدتها مصر، فهناك الكثير من الاشارات المباشرة الى تلك الحادثة، وهناك أيضا اطلاق مكثف لقنابل الغاز المسيل للدموع، بالقرب من العربة المصفحة، وتصوير لتأثيره على المعتقلين الذين يوجد بينهم عدد ممن خرجوا للتعبير عن سعادتهم بالخلاص من حكم الاخوان أي من أنصار النظام الجديد، ورغم ذلك وقع اعتقالهم، وأصبحوا رهن الحبس داخل تلك العربة، يصرخون ويؤكدون لرجال الشرطة أنهم مع الجيش ومن أنصار “تسلم الأيادي” ولكن بلا جدوى، وهناك أيضا مصور صحفي مصري حاصل على الجنسية الأمريكية، ينال أسوأ المعاملة عندما يقوم رجال الشرطة بتقييد يده إلى عمود حديديا داخل العربة، وهناك تلك الأسرة الثورية البسيطة المكونة من الأب والأم وهي ممرضة (تقوم بالدور مي عز الدين) والإبن، وكيف تصر الأم على مواجهة رجال الأمن تطالبهم بالكف عن اساءة معاملة المعتقلين.
صورة رمزية
لا يعتمد الفيلم على قصة درامية تتصاعد فيها الأحداث نحو ذروة ما، بل على وصف رمزي يكثف في أسلوب مجازي واضح يصل أحيانا حد المباشرة والسذاجة، لفكرة التمزق والانشقاق وكيف يمكن أن تقرب المعاناة المشتركة بين مختلف الأطراف، مع كثير من المبالغات والتكرار والصراخ الهستيري الذي لا يتوقف، والجنوح نحو التعبير الميلودرامي عن المشاعر.
ومن ضمن مشاكل الفيلم أيضا أنه بينما يوضح موقف أعضاء جماعة الاخوان وكيفية مبادرتهم الفورية الى تنظيم أنفسهم داخل الشاحنة، واختيار من يقودهم في هذه المحنة الجديدة، ويجعل ولاءهم أو انحيازهم الأيديولوجي واضحا ومكشوفا أمام المتفرج، تفضحه الشعارات التي يرددونها، يبدو الطرف الثاني غير محدد الهوية، بل أقرب في معظمه ما يعرف بـ “البلطجية”، وحثالة المجتمع وفئة المهمشين قاع المجتمع مثل ذلك الرجل الذي يقول إنه يعمل في تنظيف السيارات، ويبيت في الشارع، دون أن يكون هناك أي تفسير موضوعي من داخل الفيلم لهذا لموقف هؤلاء المتشدد من الاخوان المسلمين، وبما يتناقض مع ثورة يناير 2011 التي كانت ثورة أساسا، ثورة نخبة من المثقفين والمتعلمين والشباب الواعي، بينما كان الميل الطبيعي للمنتمين لدى الطبقة الأدنى، أقرب إلى فكر الإخوان المحافظ وهو ما يجعل تشددها في العداء للإخوان هنا غير مبرر دراميا.
وتيرة واحدة
من ناحية بناء كان الفيلم في حاجة الى نوع من الشد والإحكام أكثر بحيث يستبعد التكرار الذي يصل حد الصياح المستمر طويلا على وتيرة واحدة، حتى في هتافات المتظاهرين التي تكرر في وقت ما هتافا غريبا لا نعرف له أصلا، يقول “هو ده” وهو يبدو أقرب الى هتافات مشجعي كرة القدم. ولاشك أن المسؤولية في ذلك تقع على عاتق المونتير أحمد حافظ.
ونتيجة لاختيار أنماط مبالغ كثيرا في تصوير وضعها الاجتماعي المتدني، أدى إلى النمطية في الأداء التمثيلي، وبدا جميع الممثلين يصرخون ويتنافسون على إسماع أصوات استغاثاتهم، كما غابت الفروق الطبقية كثيرا فيما بنهم، وبدا الصحفي وزميله، اللذان يفترض أنهما ينتميان للطبقة المثقفة، أقرب في سلوكياتهما ولغة حديثهما، إلى السوقية، ولم يكن مقنعا أن نرى الشاب الذي يتصل بوالدته يطلب منها مخاطبة أحد الوزراء لإطلاق سراحه، بينما هو كما نراه، أقرب إلى شباب “البلطجية” منه إلى أبناء الأسر الميسورة والطبقة العليا في المجتمع. وقد أدى البناء الكاريكاتوري لكثير من شخصيات الفيلم إلى اصطباغ أداء الكثير من الممثلين بالطابع الكاريكاتوري، ولاشك أن الأداء بوجه عام، كان في حاجة إلى الضبط من جانب المخرج، والابتعاد عن التكرار في إبداء المشاعر، كما في حالة الأب الذي يظل ينادي على ولده الذي يفترض وجوده في شاحنة أخرى، أو الابن الذي يصرخ مناديا على والده الذي يدرك المشاهدون مبكرا أنه لابد ن يكون قد لفظ أنفاسه الأخيرة داخل سيارة الترحيلات الأخرى.
ولولا براعة دياب ومصوره الموهوب أحمد جبر في استخدام حركة الكاميرا التي حاصرت الممثلين داخل لقطات قريبة ومتوسطة داخل الشاحنة، والحركة الدودية التي لا تهدأ، وتفاصيل الصورة الخانقة بإضائتها الشاحبة وألوان الصورة الداكنة، وهو ما أضفى الطابع التسجيلي على الكثير من المشاهد، لوقع الفيلم في الصورة الجمود المسرحي، وافتقد بالتالي الحيوية التي تميز بها رغم كل ملاحظاتنا السلبية على البناء والأداء.
ومن المتوقع بعد ذلك أن يواجه الفيلم مشاكل مع الرقابة المصرية التي لم تعد تطيق أن ترى أي عمل عن الثورة، يكشف قمع السلطة البوليسية، أو يعرض صورة للواقع المصري تعتبرها الرقابة تسيء إلى “مصر السياحية”، ويمكن أن تساهم في مزيد من الإضرار بالسياحة. ومن جهة أخرى تحظر الرقابة حاليا إظهار أي نوع من التعاطف مع جماعة الاخوان وحلفائها، وبالتالي فمصير الفيلم في السوق المصرية يظل غامضا، حتى إشعار آخر!