نظرة تحليلية على جوائز مهرجان كان الـ76
أمير العمري
من المباديء الثابتة عند كاتب هذه السطور، أن حصر عدد جوائز أي مهرجان وعدم الافراط فيها هو الذي يجعل لها قيمة، وأما كثرة وتعدد وتوالد الجوائز ففيها شبهة الارضاء والمجاملة والحرص على تحقيق التوازنات وجعل الجميع يخرجون سعداء، وهو قد يكون هدفا إنسانيا مقبولا في حالة توزيع الطعام على الفقراء، أما في مسابقة مهرجان دولي كبير مرموق تتنافس فيه الأفلام، فهو أمر مثير للرثاء. ولكن هذا ما حدث تحديدا في هذه الدورة عندما اكتمل اعلان جوائزها!
كانت أعلى جائزة يمنحها المهرجان منذ تأسيسه حتى عام 1955 تسمى “الجائزة الكبرى للمهرجان الدولي للفيلم”، أو باختصار “الجائزة الكبرى” Grande Prix ولكنهم جاءوا في 1955 فجعلوها “السعفة الذهبية”، ثم عادوا مرة أخرى في 1964 فرجعوا الى استخدام “الجائزة الكبرى”. وفي 1975 قرروا العودة الى “السعفة الذهبية” مرة أخرى التي استمرت هي الجائزة الكبرى حتى يومنا هذا، وتمنح لأفضل فيلم في مسابقة المهرجان الرئيسية للأفلام الطويلة.
لذلك لا أفهم ولم أفهم أبدا بدعة الاحتفاظ بـ “الجائزة الكبرى” إلى جانب “السعفة الذهبية”، فما هو “أفضل فيلم” في هذه الحالة؟ وما الذي يأتي قبل من، ولماذا تعتبر السعفة أهم من الجائزة الكبرى، وأليست “السعفة الذهبية” هي نفسها “الجائزة الكبرى” للمهرجان، علما بأنهم كانوا حتى سنوات قليلة مضت، يطلقون عليها “الجائزة الكبرى للجنة التحكيم” كما لو أن غيرها من الجوائز لم يكن يأتي من لجنة التحكيم، وربما أدركوا وتداركوا الخطأ، لكن العقلية الفرنسية لا تعترف بسهولة أبدا بالخطأ!
تظل هذه المسألة تحير الكثيرين فأنت عندما تقول إن فيلما ما فاز بالجائزة الكبرى لمهرجان كان، يتصور الجميع أنها أرفع جائزة، في حين أنها تأتي في الدرجة التالية بعد سعفة الذهب!
ولم يكن المهرجان يفرط من قبل في منح جوائز فرعية على غرار الأوسكار (للسيناريو والإخراج والمونتاج والتصوير.. الخ) كان هناك مجال لمنح جائزة واحدة فقط في أحد هذه الفروع الفنية. اما في هذه الدورة فمنحت ثلاث جوائز عن السيناريو والإخراج والتصوير. وياله من كرم كبير!
كانت هناك في الماضي القريب أيضا جائزة “لجنة التحكيم الخاصة” وكانت تمنح عادة للمستوى “التقني” المتميز. لكن هذا الشرط أزيل، وأصبحت فقط جائزة لجنة التحكيم، من دون (الخاصة) وكما لو كانت باقي الجوائز ليست ممنوحة من قبل لجنة التحكيم، لكنها محاولة لإرضاء جميع الأطراف وأكبر عدد من الأفلام والمخرجين وشركات الإنتاج!
الآن لنأتي الى الجوائز نفسها:
كانت الأفلام الثلاثة الأفضل فنيا من جميع النواحي من وجهة نظر كاتب هذه السطور، هي بالترتيب: الفيلم الفنلندي “أوراق الشجر المتساقطة” Fallen Leaves للعبقري أكي كوريسماكي، الذي يقول كل شيء ويقدم مرة أخرى فلسفته الخاصة في الحياة ونظرته للعالم من واقع البيئة التي يحيا فيها، في 81 دقيقة فقط، بعيدا عن أي ثرثرة أو تكرار أو محاولة للعبث بالمتفرج أو التلاعب بمشاعره من خلال عمل رصين جميل، فيه من المرح بقدر ما فيه من الرومانسية ومن مسحة حزن نبيل. وكان هناك اجماع من جانب النقاد على أنه العمل الأكثر اكتمالا والأفضل فنيا من جميع الأفلام حسب استطلاعات الرأي اليومية، حتى لو بدا للبعض أن كوريسماكي ينهج فيه نهجه السابق في أفلامه، فأفلام المخرج المؤلف عادة ما تبدو لدى البعض كما لو كانت تكرارا لفيلمه السابق وهو ما يميز مثلا أفلام مبدع كبير مثل فيلليني الذي يبدو كما لو كان يصنع الفيلم نفسه، وكذلك هيتشكوك أو جودار.. الخ، لكنه ليس بالتأكيد الفيلم نفسه بل هو فقط، الأسلوب نفسه!
الفيلم التالي مباشرة كان الفيلم البريطاني- البولندي الناطق بالألمانية “منطقة الاهتمام” Zone of Interest للمخرج ريتشارد جلايزر، الذي قدم فيه رؤية جديدة مدهشة لموضوع قديم سبق أن عولج في عشرات أو مئات الأفلام والأعمال التليفزيونية والوثائقية هو موضوعه الهولوكوست. لكنهم منحوه “الجائزة الكبرى” التي تضارع “السعفة الذهبية” من دون أن تكون هي نفسها “السعفة”!!
والفيلم الثالث من حيث مستواه الفني البديع هو فيلم التركي نوري بيلج جيلان “عن الحشائش الجافة” About Dry Grasses الذي يعبر في بلاغة الشعر من خلال أسلوب مخرجه المعروف، عن فكرة ترتبط بالحياة نفسها، بعلاقة الانسان بالطبيعة، بأسرار الوجود والحب الذي يأتي دون أن يتوقعه المرء، والعلاقة الغريبة للإنسان مع الأفكار، وكيف يمكن أن يمتلك الانسان البسيط أيضا فلسفته الخاصة ورؤيته الخاصة للحياة، وأن يصبح قادرا على أن يتعلم من غيره من خلال علاقته بالكبار والأطفال. لا شيء يجف في بيئة تبدو خالية من كل شيء، جافة بالمعنى المادي، لكنها ثرية للغاية بالمعنى الإنساني. وقد منحت اللجنة جائزة الممثلة لبطلة الفيلم.. لا بأس.
أما “السعفة الذهبية” فقد ذهبت إلى الفيلم الفرنسي “تشريح سقوط” Anatomy of a Fall الناطق بالفرنسية والانجليزية (ربما طمعا في الوصول لترشيحات الأوسكار!!).. وهو عبارة عن تحليل لما يبدو كجريمة قتل رجل سقط (أو أسقط) من الطابق الثالث في منزله الريفي المعزول واتهمت زوجته الكاتبة بقتله وقبض عليها وقدمت للمحاكمة. والفيلم الذي يقع في ساعتين ونصف الساعة، يدور في معظمه، داخل قاعة المحكمة، مع عودة الى الوراء لاسترجاع لحظات من حياة الزوجة مع زوجها ومشاحناتهما معا وتناقضات حياتهما التي يشهد عليها في صمت، ابنهما الصغير.
أداء قوي كثيرا من جانب الممثلة ساندرا هوللر التي كانت جديرة بجائزة التمثيل خصوصا وأنها برعت أيضا في أداء دور الزوجة في فيلم “منطقة الاهتمام”. ولا شك أن تداعيات حادث السقوط مصورة من زوايا مختلفة ببراعة ودقة ومن خلال حبكة تجعل المتفرج متشوقا لمعرفة كيف ستنتهي، لكنه يبقى عملا تقليديا مألوفا يمكن ببساطة أن ينتهي الى “نتفليكس”!
أما دراميا فينتهي الفيلم ببراءة الزوجة ولكن من دون أن نعرف ما الذي حدث، هل انتحر الزوج رغم استبعاد تلك الفرضية تماما خلال التحقيقات، أو قتل بيد أخرى غير يد زوجته؟ لا نعرف وليس مهما أن نعرف فالمهم أن تكون المرأة بريئة فهذا فيلم نسائي من اخراج مخرجة ومن هنا جاءت قوة حضوره في المسابقة وكان لابد أن يتجاوز الأفلام الثلاثة التي ذكرتها وكلها من اخراج مخرجين (رجال!!) لأننا نعيش حاليا في عصر Me too!!
جائزة أفضل سيناريو حصل عليها الفيلم الياباني “الوحش” Monster للمخرج الكبير كوريدا هيروكازو وهو ليس أفضل أفلامه، والمفارقة أننا وجدنا أن عيبه الأساسي يكمن تحديدا في السيناريو، الذي يغرم بالالتواءات الكثيرة، والتكرار الكثير، كما يشوبه نوع من الغموض بخصوص كثير من التفاصيل ويبدو مرتبكا في الجزء الأخير منه. وكان الفيلم الذي يستحق هذه الجائزة أكثر هو الفيلم الفرنسي “شغف دودان بوفا” للمخرج الفيتنامي الفرنسي تران أنه هونج الذي منحوه جائزة أفضل اخراج. وهي جائزة لا محل لها فأفضل اخراج يعني الفيلم الأفضل.. أليس كذلك!!
منحت اللجنة جائزة أفضل ممثل للياباني كوجي ياكوشو عن دوره في فيلم “أيام مثالية” Perfect Days لفيم فيندرز وهو يستحقها دون شك كما كان يستحقها أيضا “بينوا ماجيميل” بطل الفيلم الفرنسي “شغف دودان بوفا”، وكلا الفيلمين يستحقان وقفة خاصة بالطبع لأهميتهما.
هكذا انتهت الدورة الـ76 من المهرجان الكبير الذي حفل بعدد من الأفلام الجيدة، ولكن الملاحظ أن بعض “أفلام الكبار” لم ترق الى المستوى الذي كنا ننتظره كما في حالة الفيلمين الايطاليين لكل من ماركو بيللوكيو وناني موريتي، وفيلم “مدينة الكويكب” Esteroid City لويس أندرسون الذي أعتبره أسوأ أفلام المسابقة، ولكن الأذواق والثقافات تتباين وتختلف، وهذه هي سنة الحياة، فسوف بوجد من يعتبرون فيلما كهذا عملا عظيما لمجرد أن اسم مخرجه مفروض علينا..