“نحبك هادي”: هدوء ما قبل العاصفة والثورة على نظام أبوي

“إني أخاف من هذا الطريق”.. كان هذا رد “خديجة” خطيبة الشاب “هادي” (مجد مستورة) المقبل على الزواج بها عندما أخبرها أنه ذاهب إلى بلدة أخرى (المهدية) ليعمل مندوب مبيعات لشركته، فكانت أشبه بالنبؤة ، لأن هذا الطريق سيأخذ هادي منها بالفعل وإلى الأبد!

يظهر لنا طريق هادي خاصةً في رحلاته الليلية بالسيارة بدون أفق ممتد، كأنه خارج من الظلال للنور، كأن ستحدث له ولادة جديدة في مدينة المهدية.

إن اللغة السينمائية لدى المخرج التونسي محمد بن عطية التي هي مجموع اختياراته الفنية وأدواته التي تساعده في أن يروي قصته لنا، وتكوين كادراته التي يحتلها البطل في لقطات مقربة ومقربة جدًا close-up and extreme close-u كذلك وضعية وحركة الكاميرا الـSteady Camأشبه بالأسلوب السينمائي للبلجيكيين الأخوين داردان، في صياغة سينمائية تجعل المشاهد لصيقا بالبطل كأنه يتتبعه في رحلته للبحث عن اكتشاف جديد لذاته، أو ربما للاقتراب أكثر من معاناته والتوحد معها، حتى أننا في نهاية العرض، أحببنا هادي، وإن لم يكن حبًا من النوع الذي يقتل صاحبه. ويتركنا اسم الفيلم معلقين بين تفسيرين هل “نحبك هادي” أن عائلته يحبونه كشخص ويدعون التصرف لمصلحته؟ أم أنهم “يحبونه هادئًا” أي مطيع وخاضع؟!

 يروي بن عطية- الذي حصل فيلمه على جائزة العمل الأول في مهرجان برلين السينمائي- في قصته السينمائية قصة كل شاب وشابة عربيين يسقطان فريسة للتقاليد والأعراف والسلطة الأبوية التي تصنع جدارًا عازلًا منيعًا بين الإنسان ونفسه، تفقده القدرة على الفعل، ويركن إلى رضاء صامت ومتواطيء بالأمر الواقع من حوله. والسلطة الأبوية هنا لا يشترط أبدًا أن يكون مصدرها الرجل، المرأة المتسلطة هي الأخرى– والتي في الغالب نتاج مجتمع أبوي سلطوي لقنت تعاليمه وتربت عليها – تصلح أن تحمل لواء السيطرة، وقد كانت الأم هنا بارعة في قيادة المنزل بعد وفاة الأب وجعلت من ابنها هادي أداةً طيعة، ألغت وجوده في كل شيء. في مشهد ذهابهم  لتخطب له، تتقدم المسيرة وهو يتبعها مطأطيء الرأس في سكون تام كأنه ذاهب لأمر لا يعنيه، وهذا ما سوف يتكرر في مشهد ذهاب أسرته لوالد العروس لقراءة الفاتحة، سيذهب للجلوس في المقهى يدخن سيجارته ويوكل الأمر لأخيه الأكبر “أحمد” – المتزوج من فرنسية ويعيش في فرنسا والابن المفضل لدى الأم– والذان سيشكلان معًا فريق السلطة المهيمنة كالقدر.

 هكذا يبدو هادي غير فاعل في حياته، مسير لا مخير، كأنه شخص آخر غريب عنه لا يعنيه من الأمر شيئا رغم أنه محور الحدث، وعلى تلك الزيجة سيترتب مستقبله، حتى في أدق الأمور الشخصية التي تعنيه وحده يُعَامل كطفل “هادئ” – ربما للتسمية علاقة بسماته، فهو الطفل الوديع، كما كانت براءة وجهه الذي لا يثير صخب ولا يعترض أبدًا.  يجلس في الخطبة صامتًا بينما الأم هي التي تتحدث وتدير اللقاء نيابةً عنه، وتقدم هدية للعروس كأنها هي التي ستتزوجها.

مجتمع خانق

 هادي الذي بدأ الفيلم بلقطة قريبة جدًا على رابطة عنقه التي مثلت هنا رمزًا لالتفاف مجتمع والدته حول رقبته، ذلك المجتمع الخانق الذي يهمشه وينحيه جانبًا، الأم جهزت له منزلًا في نفس بنايتها، يسمعها هادي تخاطب أخيه أن يقوم بكل الإجراءات نيابةً عن الأخ الذي لا يجيد عمل أي شيء، فيبدو عليه التأثر.

أما العروس، مشروع الزوجة المستقبلية، فهي نسخة من الفتاة التقليدية “الهادئة” المطيعة، بتسريحة شعرها المسترسلة وفستانها التقليدي التي تقول لهادي عند لقائهما “سرًا” وهما مفترض أنهما “خطيبين” أن أمها تتدخل في اختيار كل شيء حتى الفستان الذي سوف ترتديه في الحفل هي محاصرة تمامًا مثله، تذهب للقائه في الخفاء، سنلاحظ أن معظم مشاهد هادي مع عروسه في ظلام دامس غير مضاء، في ضوء طبيعي ليلًا داخل حارة ضيقة، وأن الكادر ضيق ومختنق ينوء بهما معًا، وأنها كمعظم الفتيات العربيات تنظر للزواج على أنه المخلِّص لها من تحكم أهلها بها، وتعبر له عن مدى اشتياقها لأن تكون زوجته، حتى تتخلص من أسئلة أين كنتي ولماذا تأخرتِ؟!

الممثل مجد مستورة الفائز بجائزة أحسن ممثل في مهرجان برلين السينمائي

حتى هادي يريد الزواج بها محاولة للفرار فيسألها أن يتزوجا في استوديو يملكه أباها في تونس العاصمة بعيدًا عن مدينة “القيروان” وتقاليدها، بعيدًا عن أمه.. لكنها تخاف من أمه وترفض إرضاءً لها. معظم السياق الجامع بينهما سياق خانق، معتم، كأن شيئا خاطئا يحدث، يتبادلان الرسائل القصيرة على الهاتف، تخبره أنها تتسلل من المنزل للقائه، يبتعد بالسيارة عن منزلها في مكان ضيق بعيدًا عن عيون الناس، تخبره أنها ليس من المفترض بهما أن يلتقيا قبل العرس، يجلسان بعيدين عن بعضهما في حين ترسل له تقول إنها تتشوق لاحتضانه والنوم بجانبه.. خديجة تنتمي لعالم أمه بكل الخوف والجبن والطاعة والخضوع.

التمرد على الوظيفة

يعمل هادي في وظيفة لا يحبها بل بدا عليه أنه يمقتها ولا يعيرها أي انتباه، هي جزء من السياق الضاغط عليه، بدا على الممثل (مجد مستورة) الذي استحق أن يحصل على جائزة أفضل ممثل، أن يعبر عن بلادته في عمله الذي ليس فيه أي مساحة للإبداع، يحدث كساد في مبيعات الشركة فتقرر أن ترسل مندوبيها ليطرقوا أبواب العملاء، يلقى العملاء بوجه جامد، يرد على أسئلة السائلين في اقتضاب لا يتحرك لإقناعهم، يتلو عليهم جملا مرتبة يحفظها كاسطوانة متكررة، وبمجرد أن يخبره العميل المحتمل أنه سوف يعاود الاتصال به يختفي من أمامه، هو لا يريد أن يبذل أي جهد، لأنه ببساطة لا يجد نفسه في هذا النوع من العمل.

هناك في مدينة “المهدية” التي تخشى خديجة الطريق إليها، يتعرف هادي على نفسه من جديد. هادي لديه هواية الرسم الكاريكاتوري، تخبر أمه أهل عروسته نيابةً عنه أنه يجيد رسم البورتريهات، رغم أنه لا يعرف، إلا أنه سيقابل “ريم” التي يؤطرها الكادر عند أول لقاء لعينيه بصورتها بحدود النافذة فبدت من بعيد في عيني هادي كلوحة مرسومة بعناية أثارت شغفه للاقتراب منها.

ريم تملك كل سمات الفتاة الغجرية، حريتها، انطلاقها، تهب نفسها للحب بثقة دون أي محاذير تمليها عليها ثقافة شرقية تشئ الجسد وتحرمه، بدت غير منتمية أصلًا لهذه الثقافة بحكم عملها في السياحة وسفرها الدائم للخارج، تسريحة شعرها المجعد المنكوش التي هي نقيض تسريحة شعر العروس المهذبة المنسقة بعناية على جبهتها ونظرة عينيها الخفيضة الهادئة الخالية من الثورة، بينما ريم تموج بثورة، بالحياة، ترقص في فرقة تسري عن السائحين، ليس لديها خطة واضحة في الحياة، كالغجر الرُحل أينما وجدوا واحة حرية نزلوا بها.  

هدوء هادي المحتقن برغبة في التغيير قبل أن يموج بالثورة يسبح في الماء يتركها تحمله لكنه عندما يدخل الماء لريم يدخل بإرادته.. كان مترددًا لأنه يرتدي ملابس لا يريد لها أن تبتل، ليست ملابس السباحة، هذه هي حياته يقف على حافة العالم ، لكنه يقرر أن يلقي بنفسه ليتوغل مع ريم ويغامر يذوق طعم المغامرة والحياة والحرية ويتحرر قليلًا من الرسميات ورابطة العنق والزي المهندم.

مواجهات

النصف الثاني من الفيلم كان عنوانه المواجهات بعدما يواجه هادي نفسه أولًا واكتشف أنه لا يرغب هذا الشكل من الحياة، وفي مشهد رمزي تصطحبه ريم للقبور، وكأنه يودع معها مثواه، هو الحي الميت الذي يتنفس دونما حياة حقيقية، يتحدثان عن ثورة تونس وتلك اللحظة الاستثنائية في حياة الشعب التونسي التي أعادت الحياة والنبض إلى قلوب معظم الشعوب العربية التواقة للحرية، وتضحك لأنه شارك بالنزول، “يسألها: لماذا تضحكين، هل لا يبدو عليّ أنني ثوري؟!”.. في ختام هذا المشهد تتقدمه ريم وهو يتبعها كأنها تخرجه من القبر للحياة. وعلى العكس من مشاهد هادي مع خديجة المعتمة، مشاهده مع ريم معظمها في الضوء المبهر للنهار ويسبحان معًا.

تبدأ المواجهة الأولى مع خطيبته، وهي مواجهة عنيفة لفظيًا وبحركات جسده ونبرة صوته التي لا نجدها ترتفع معها أبدًا من قبل والانتفاض من الغيظ المحتقن بداخله، يقترب منها ليقبلها تبتعد لأنهما لم يتزوجا بعد، لم يعد ليقبل بها شريكة لحياته على ما بدا.

مشهد مواجهته الثانية مع الأم والأخ، بعد أن يقرر عدم الذهاب للقاء عروسه وأسرتها، المشهد في الظلام، كمعظم مشاهده مع الأم والأخ مصدر إبقائه في العتمة، يواجههما بعنف ويبكي ويوجه لأمه كلامًا قاسيًا، ويريد منهما الابتعاد عنه ويذكر فيه صراحةً أنها “تخنقه” ما يجعل لمجاز رابطة العنق الظاهرة في مشهد البداية معنىً واضحًا.

مشهد مصارحة الأخ الأكبر له بعد ذلك بمشكلته بين أمه وزوجته ورغبته في العيش في فرنسا، ورغبته في إتمام الزيجة لعقد صفقة مع والد العروس، فلم يكن طوال الوقت يفعل لمصلحة أخيه كما كانوا يدعون بأنهم يحبونه ويحرصون عليه، ويحث أخيه على الانطلاق بعيدًا.

أخيرًا، كان مشهد النهاية الذي يختار فيه، ربما لأول مرة بإرادته الحرة ألا يظل تابعًا لأحد، فهو يسأل ريم في مشهد سابق قبل السفر، ماذا سيفعلان في فرنسا، ما خطتهما، ماذا سيفعل هو تحديدًا؟.. لكنها تجيبه أنها لا خطة لديها وتلك هي حياتها وهي تقبلها كما هي، إلا أن هادي لم يقبل على غير طبيعته.. سيكون إذا سار معها في رحلتها تابعا جديدا لسلطة جديدة، فيقرر أن يبقى لكنه بالطبع لن يبقَ كما كان لأنه أصبح شخصا جديدًا آخر.

Visited 55 times, 1 visit(s) today