نجوم السينما من التمثيل الى الاخراج

جوي فوستر تخرج فيلمها الأول "اسم رجل صغير" جوي فوستر تخرج فيلمها الأول "اسم رجل صغير"

ظاهرة ملفتة كثيرا هي ظاهرة تحول نجوم السينما من التمثيل الى الاخراج، من الوقوف امام الكاميرا والتمتع بالشهرة الكبيرة التي يتيحها الظهور المتكرر على أغلفة المجلات الفنية وفي البرامج التليفزيونية والاعلانات التي تملأ الأنظار في كل مكان، الى الجلوس وراء الكاميرا على كرسي المخرج بعيدا عن الأضواء وعدسات المصورين واهتمام الجمهور.

ومن أشهر النجوم الذين تحولوا أخيرا من التمثيل الى الاخراج الممثل بن أفليك الذي لمع في عدد من الأفلام في التسعينات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، لكن أدواره قوبلت بشكل سلبي من جانب الجمهور والنقاد، فقبل أدوارا مساعدة قبل أن يتجه للاخراج ويقدم ثلاثة أو أربعة أفلام أشهرها فيلم “أرغو” (2012) الذي نال جائزة الاوسكار لأفضل فيلم، إلا أنه بعد أن اخرج فيلم “العيش في الليل” (2016) أصبح يكتفي بالتمثيل.

سبقه الى ذلك النجم الأمريكي الشهير روبرت دي نيرو الذي أخرج فيلمه الأول “حكاية برونكس” (1993) الذي يروي فيه قصة مستمدة من ذكريات حياته، عن صبي في مرحلة الانتقال من الطفولة الى الرجولة، وقام فيه بدور الأب. ولم يحقق الفيلم نجاحا فاقتضى الأمر مرور 13 عاما قبل أن يعاودوا دي نيرو التجربة فيخرج “الراعي الطيب” (2006) الذي قام أيضا ببطولته أمام انجلينا جولي ومات ديمون، ولكن فشل الفيلم دفعه الى التوقف عن المحاولة والاكتفاء بالتمثيل.

بن أفليك أخرج فيلم “أرغو” (2012)

جورج كلوني أخرج حتى الآن 6 أفلام طويلة كان أولها “اعترافات رجل خطير” (2002) الذي قام ببطولته وبعده جاء فيلمه ذائع الصيت “ليلة سعية وحظا سعيدا”، ثم ثلاثة أفلام أخرى، أي أنه مستمر في الجمع بين المهنتين وهو يتمتع كثيرا بثقة شركات هوليوود.

مغامرات في الإخراج

في 1992 قرر الممثل الأمريكي «جون تورتورو» الذي تألق في فيلم «بارتون فينك» للأخوين كوين، الحائز على السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي، التحول الى الاخراج وقدم أول أفلامه بعنوان «ماك». وقد اختير الفيلم بالفعل للعرض ضمن برنامج «اسبوعا المخرجين» في مهرجان كان لعام 1992. وضمن نفس البرنامج عرض فيلم «بوب روبرتس» من اخراج الممثل الأمريكي تيم روبنز، اول أفلامه كمخرج، وهو عن ممثل آخر يحب افلامه يحمل الفيلم اسمه.

تورتورو الذي أصبح شبه متفرغ للتمثيل في المسلسلات التليفزيونية مازال يواصل اخراج الأفلام دون أن يترك بصمة واضحة كمخرج رغم انه قدم حتى الآن 5 أفلام روائية طويلة. وأحدث أفلامه كمخرج هو فيلمJesus Rolls المقتبس عن فيلم فرنسي للمخرج برتران تافرنييه من السبعينات.

أنجلينا جولي تخرج مشهدا من فيلم “في البداية قتلوا أبي”

النجمة الشهيرة أنجلينا جولي فقد اتجهت للإخراج رغم شهرتها الكبيرة في عالم التمثيل، عام 2007 فأخرجت فيلما تسجيليا طويلا هو “مكان في الزمن” ثم قدمت بعده 4 أفلام روائية طويلة أحدثها فيلم “في البداية قتلوا أبي” (2017).

وكانت جودي فوستر الحاصلة مرتين على الأوسكار، قد اتجهت للاخراج عام 1992، بفيلم “اسم رجل صغير” The Little Man Tate ثم أخرجت بعده فيلمين لم يحققا النجاح فاكتفت بالتمثيل وإخراج بعض الحلقات للتليفزيون بين وقت وآخر. وكان من الملفت أن تختار جودي موضوعا لفيلمها الأول كمخرجة، يتناقض تماما مع موضوعات الأفلام التي تقوم بالتمثيل فيها عادة. وفي نفس العام، أخرجت نجمة الاستعراض برباره سترايسند فيلم «أمير الأمواج» وقامت ببطولته أمام نيك نولت. وبعده قدمت فيلما واحدا ثم توقفت.

تجربة ناجحة ولكن

كيفن كوستنر بكل ومخرج فيلم “الرقص مع الذئاب”

وربما يكون الأكثر نجاحا بين نجوم هوليوود هو الممثل كيفن كوستنر الذي اتجه في أوائل التسعينات الى الاخراج فقدم فيلمه الشهير «الرقص مع الذئاب» وانتجه وقام ببطولته، وهو الفيلم الذي حصل على سبع من جوائز الأوسكار. ورغم النجاح الكبير لم يخرج بعده سوى فيلمين فقط لكنهما لم يحققا نجاحا مماثلا فتوقف.

كيفن كوستنر صرح لإحدى المجلات الفرنسية بأنه لم يفكر قط أن يكتفي بالإخراج والتخلي عن دور البطولة لممثل آخر في فيلم «يرقص مع الذئاب» بل على العكس تماما فقد فكر في عدم اخراج الفيلم: «لقد انتابني الخوف من عدم قدرتي على الاخراج. كنت اشعر انني قد لا اكون عادلا مع الرواية التي اقتبس الفيلم عنها. لم تكن لدي شكوك حول ما كنت اريد تحقيقه ولا في الطريقة التي سأتصرف بها، بل كانت تنتابني شكوك حول النتيجة. لقد كان يجب ان يكون فيلمي مشرفا».

المعروف أن أول من تحول من التمثيل الى الاخراج في تاريخ السينما الأميركية، هي الممثلة ليليان غيش التي عملت في السينما الصامتة ثم الناطقة. فقد اخرجت عام 1922 فيلما بعنوان «اعادة تكوين زوجها». لكنها لم تكرر التجربة ابدا وسرعان ما عادت للوقوف امام الكاميرا معربة عن خيبة املها في مهنة الاخراج.

ولا يقتصر الأمر على نجوم التمثيل في هوليوود، بل ان غيرهم من المهن الفنية الأخرى مثل كتابة السيناريو، تصميم الاستعراضات، التصوير السينمائي، المؤثرات البصرية الخاصة والخدع، الاعلانات التجارية، تحول الكثيرون منهم أيضا الى الإخراج.

مشكلة الممثل الذي يتحول الى الاخراج أنه يتمسك ايضا بالتمثيل في الفيلم الذي يقوم باخراجه، ويصبح عليه أن يراعي عشرات الاشياء ويحل الكثير من المشاكل العديدة التي تنشأ أثناء التحضير لتصوير اللقطة، وأن يعرف كيف يضبط الايقاع ويشرف على التصوير، بينما يكون عليه في نفس الوقت ان يستعد ذهنيا ونفسيا لتقمص الدور الذي يؤديه. وبعض الممثلين لا يستطيعون عادة التوفيق بين المهمتين، أو يخرجون من التجربة الأولى وهم يشعرون بالتعاسة والاحباط.

 هذا على سبيل المثال، ما اسفرت عنه تجربة الممثل الكوميدي البريطاني الراحل بوب هوسكنز الذي اخرج فيلمين لم يكتب لهما النجاح. وقد وصف هو تجربته في الاخراج بأنها كانت “مروعة”، ثم اخذ يصف بسخرية مريرة ما كان يحدث له كل صباح عندما يجد نفسه في موقع التصوير عليه الاجابة على عشرات الأسئلة من جانب العاملين بالفيلم: «الأمر يبدو كما لو كنت محاصرا بعشرات الغربان، كل واحد يريد ان ينهش قطعة من لحمك»!

ظاهرة رامبو روكي

سيلفستر ستالون في دور “رامبو” في فيلم “الدم الأخير”

في هوليوود ليست هناك قيمة كبيرة للجهد أو للنوايا الحسنة وراء الاخراج، بل العبرة دائما بالنتائج، أي بما يحققه الفيلم في “شباك التذاكر”. هذا على سبيل المثال ما جعل من ممثل عادي ومخرج أقل من عادي هو سيلفستر ستالون، نجما كبيرا ومخرجا اسندت اليه هوليوود اخراج سلسلة من الأُفلام هائلة التكاليف (رامبو وروكي). وكان ستالون أول ممثل يحقق هذا النوع من النجاح عند تحوله الى الاخراج دون التخلي عن التمثيل.

ستالون تقدم بسيناريو من تأليفه عام 1976 أعجب مديري احدى شركات هوليوود الكبرى، كان يروي فيه تجربته الشخصية في أميركا مع بعض الاضافات الخيالية الى شخصية «روكي». وبعد النجاح الكبير الذي حققه الفيلم، أثبت ستالون أنه مثل الدجاجة التي تبيض ذهبا. وكانت هوليوود في ذلك الوقت في حاجة ماسة الى بطل من نوع جديد. وكانت السحنة الغريبة والعضلات المفتولة والتحدث بطريقة مهشمة مع لوك الكلمات، مفتاح النجاح، فاستمر ستالون في اخراج الافلام من نوع «روكي» و«رامبو» حتى 2008، لكنه استمر في تمثيل روكي ورامبو حتى اليوم، وكان هو الذي ابتكر الشخصيتين وطوع بطريقة أدائه الشخصية التي يؤديها الى طبيعته وملامحه الخاصة، والأهم أن ما جاء به ستالون كان يتوافق تماما مع ما كان الجمهور يريده.

وكان نجاح ستالون في الاخراج يفوق عشرات المرات على ما حققه في الماضي ممثلون تحولوا الى الاخراج في هوليوود أشهرهم مثلا أورسون ويلز، العبقري الذي أخرج تحفته السينمائية الكبيرة «المواطن كين» وقت أن كان عمره 24 عاما، لكنه لم ينل حتى جائزة واحدة من جوائز الأوسكار، سواء عن الاخراج أو عن التمثيل.

نجاح ستالون دفع غيره من الممثلين الى اقتحام مجال الاخراج، ومنهم النجم الشهير كلينت ايستوود الذي حاول باستمرار محاكاة اسلوب المخرج الراحل دون سيغل الذي اخرج له أكثر افلامه شهرة حتى اليوم، وهو فيلم «هاري القذر». لكن ايستوود بعد أن اخرج سلسلة من الأفلام التي تنسج على منوال الفيلم القديم وأفلاما اخرى من نوع «الويسترن» أي افلام الغرب الامريكي، قدم عام 1988 فيلما من الافلام التي تجذب عادة المثقفين وهواة الافلام «الشخصية» وهو فيلم «بيرد» عن حياة عازف آلة الساكسفون الأسود تشارلي باركر الذي اشتهر بـ «بيرد» أو الطائر. وعلى مدار أكثر من خمسين عاما أثبت ايستوود أنه مخرج كبير، وأصبح ظهوره قليلا في الأفلام التي يخرجها إلا لو كانت الشخصية تناسبه كما في فيلمي “قناص أميركي” (2014) و”البغل” (2018).

كلينت إيستوود نجم تحول من التمثيل إلى الاخراج ونجح في المجالين

أسباب الظاهرة

المخرج الأمريكي الراحل جون لاندس له تعليق ساخر مشهور على ظاهرة تحول الممثلين الى الاخراج هو: «إذا كنت تستطيع ان تقود سيارة، فأنت تستطيع أن تخرج الأفلام». لكن هل الأمر على ذلك النحو من البساطة؟ ولماذا توافق شركات الانتاج على اتاحة الفرصة للممثلين لممارسة مهنة تتطلب معرفة وخبرة خاصة وربما ايضا تكوينا خاصا؟

قد يرجع السبب أولا الى الارتفاع الكبير في الأجور التي يتقاضاها المخرجون اللامعون في هوليوود، أمثال اوليفر ستون ومارتن سكورسيزي وفرنسيس كوبولا وجيمس كاميرون وسبيلبرغ وغيرهم، وهؤلاء يشترطون ايضا الحصول على نسبة من أرباح الفيلم، بينما يوافق الممثل النجم عادة على الحصول على أجر صغير عن الاخراج، مع أجره كممثل. أضف الى ذلك ما يجلبه قيام ممثل شهير أو ممثلة شهيرة، من دعاية للفيلم.

لكن الملاحظ أن عددا قليلا من الممثلين الذين يتحولون الى الاخراج يصمدون للتجربة أو يستمرون في الجمع بين العملين. هناك مثلا الممثل السويدي الكبير ماكس فون سيدو الذي اخرج فيلما جيدا لكنه لم يعاود التجربة. وهناك ايضا مارلون براندو الذي سبق أن أخرج فيلمين هما «جاك ذو العين الواحدة» و«تاهيتي» في الستينات، ثم جاك نيكلسون الذي أخرج تكملة لفيلم «الحي الصيني» بعنوان «اثنان جاك» لم يلق نجاحا يذكر، لكن هناك أيضا وودي الين الذي ظل يواصل الجمع بين التمثيل والإخراج، على غرار شارلي شابلن، قبل أن يتفرغ تماما للإخراج فقط حتى يومنا هذا.

دروس من الماضي

شارلي شابلن مخرجا

تجارب الممثلين في الاخراج تعود الى عصر شابلن، أي إلى زمن السينما الصامتة، بعده في نفس الفترة أقدمت ليليان جيش على التجربة دون أن تستمر، ثم تبعتها ممثلات شهيرات مثل ماري بيكفورد وإيدا لوبينو والين ماي. وكان الممثلون والممثلات يلجأون عادة الى تأسيس شركة للانتاج لتسهيل الأمر على أنفسهم، كما فعل شارلي شابلن وماري بيكفورد ودوغلاس فيربانكس عندما اسسوا شركة “الفنانين المتحدين” أو «يونيتد آرتستس» في العشرينات. وهو نفس ما فعله فيما بعد جون واين وبيرت لانكستر ومارلون براندو وروبرت ريدفورد الذي اخرج فيلم «أناس عاديون»، ويخرج كل فترة فيلما جديدا، ثم جون كازافيتس مخرج فيلم «ظلال»، وان كان يظل أشهرهم جميعا بالطبع، الممثل الانكليزي تشارلز لوتون بطل فيلم «أحدب نوتردام» الذي اسس شركة خاصة في لندن عام 1955 أخرج لها فيلم «ليلة العيد». لكن هذا كان الفيلم الأول والأخير في انتاج الشركة، وآخر فيلم يخرجه!

وعلى الرغم من كل ما في مهنة الاخراج من متاعب، لا يزال الكثيرون يتصورون أن المخرج لا يفعل شيئا سوى أن يجلس على مقعد الاخراج، يلقي بالأوامر والتعليمات بنبرة متعالية الى الممثلين والمصور، وأنه يستطيع طرد من لا يعجبه من الممثلين والتقنيين. ويوما بعد يوم، مع اقتحام المزيد من الممثلين مجال الإخراج السينمائي، يزول الوهم.



Visited 89 times, 1 visit(s) today