مهرجان سان سباستيان السينمائي: قداسة السينما

أجمل الأسفار سفر يجعلك تكتشف أنك مازلت قادرا على الإندهاش، أما أروع المدن فهي التي  تولد لديك انفعالات هي مزيج من الفرح والفضول والإمتنان، و تلك هي حالة سان سباستيان، المدينة  الإسبانية المفتوحة  التي اجتمع فيها ما تفرق في غيرها: شاطئ رائع ومدينة عتيقة مضيافة و طبيعة باهرة ومعمار يستوقف ولطف أناسها الذي لا يخطئه القلب. وهي قد مزجت برشاقة، كما نبهتني إلى ذلك فاطمة الزهراء،  بين سحر باريس وإشبيلية وطنجة.

مدينة تستقبلك على الفور بفكرة ما عن التمدن الذي يعني، ضمن ما يعنيه، خلق الجمال والترويج له وتعهده، واحترام صارم للفضاء العام المشترك وتدبيره بشكل يحفظ كرامةالجميع ويلبي انتظاراتهم ويقدر المرأة حق تقديرها.هي مدينة ذات أنفة وكبرياء وجميلة دون غنج  ودون أن تشعرك أنها  تنتظر مقابلا كما هو حال بعض المدن مثل مدينة ماربيا مثلا. وللطعام اللذيذ والوصفات المبتكرة حضور أساس في الحياة اليومية  لسان سباستيان و دور في استمالة الزوار وتوريطهم في الإفتتان بهذه المدينة التي هي  أيضا  مدينة رومانسية بفضاءاتها الرحبة وساحاتها المزهرة والتي، رغم تعرضها طوال تاريخها  لأكثر من عملية حرق وتهديم،  فإنها  صمدت واستعادت دورها في التحريض على الحب، ولاحقا في التحريض على عشق السينما حتى أن اسمها ارتبط بشكل وثيق  بمهرجانها السينمائي الرفيع.

وبالفعل، فسان سباستيان  تحتفي بمهرجانها بكل سخاء عبر تخصيصها لأجمل الفضاءات لإحتضان فعالياته من عروض سينمائية ولقاءات وندوات وندوات صحفية وحفلات نهارية وليلية وعبر الملصقات والإعلانات الضوئية وابتسامات الشبان والشابات المكلفين بالتنظيم، كل هذا لتقول بهدوء و بطريقة مفحمة إن السينما بخير،  ودليلها على ذلك  إقبال الجمهور في أوقات مختلفة من اليوم على العروض المقترحة بكثافة تثير الحسد، ولتقول إن تطور المجتمعات وتماسكها وصمودها في وجه المستقبل مرتبط  بتصور متكامل ورحب عن أدوار الثقافة في إغناء إنسانيتنا في هذه الأوقات الكونية العصيبة التي تعرف تمظهرات عدة للتوحش.

كما أن هذا المهرجان هو في العمق احتفاء بالحياة وهو أداة mediumتصالح بين الأجيال حينما يمنحها  فسحة للنقاش وتبادل الطروحات ويجعلها تنظر إلى نفس الإتجاه وإن كان ذلك فقط  طوال المدة التي يستغرقها عرض فيلم.

ومهرجان سان سيباستيان هو مهرجان عريق، وقد جمع في هذه الدورة الـ 64 )16 – 24 سبتمبر 2016(، التي سعدت بحضورها،  بين أفلام جيدة وجذابة تنتمي إلى سجلات عدة، وبين “البريق Glamour” الذي تخلقه نجوم تسير على الأرض كما هو الأمر مع النجم إيتان هوك الذي أبهرنا  جميعا في التسعينيات بدوره في فيلم “حلقة الشعراء المفقودين”، وأخبرنا،في ندوة صحفية، أنه يحلم بإخراج أكثر من فيلم وإن كان شغفه بالتمثيل، كما قال، يزداد بمرور السنوات، وبالنسبة إليه فإن “السينما هي الدين الذي اختاره والمهرجانات تستمد قداستها من هذا الدين”، والنجمة سيغورني ويفر  التي عبرت عن اقتناعها بقدرة النساء على تغيير الأوضاع وبأن السينما تعكس تطور أدوارهن في الواقع المعيش. وقد اختير هذان العملاقان ليكرما ويحصلا على “جائزة دونوستيا”.

ومن النجمات الحاضرات كذلك النجمة الفرنسية إيزابيل أوبيروالجميلة الإيطالية مونيكا بيلوتشي التي  وثق فيها المخرج الصربي أمير كوستوريتسا ومنحها دورا رئيسيا في فيلم “طريق الحليب” وإن كان أداؤها لم يكن مقنعا بشكل كامل، وكايل كارسيا بيرنار الذي منح جائزة تقديرا على ما يقدمه من خدمات فنية للسينما الأمريكية اللاتينية  وهوك غرانت Grant وخافيير بارديم الذي أتى ليقدم شهادة وفاء في حق المخرج الراحل بيغاس لونا والنجم ريشارد غير Richard Gere وغيرهم كثيرون.

ومن المعروف عن المجتمع الباسكي أنه مجتمع ذو عنفوان وعنيد وهذا ما قد يفسر أن حفل افتتاح هذه الدورة  قد عرف صرخات احتجاج ومحاولة تذكير من طرف منتسبين لمنظمة إيتا الإنفصالية بأن هناك معتقلين من نفس المنظمة يتتظرون أن يتم الإفراج عنهم. وقد تم احتواء الإحتجاج بهدوء وتواصل الحفل. كما أن هذه الدورة قد تصادفت مع تنظيم انتخابات جهوية ببلاد الباسك، لكن كان عليك أن تشعل جهاز التلفاز لتتابع بعض أطوارها، ففي الشارع لا زعيق ولا صراخ ولا مسيرات مفبركة.

تداخل الجنسيات

والملاحظة الأولى التي يمكن تسجيلها بخصوص الأفلام  التي تم عرضها هي  تداخل جنسيات العاملين بها ما بين ممثلين ومخرجين وكاتبي سيناريو وممولين مما يطرح إشكال موضعتها جغرافيا وتحديد البلد الذي تنتمي إليه كما هي   حالة  فيلم ” وحش يناديني” للإسباني الشاب خوان بايونا J.Bayona الذي اشتغل مع فريق تقني وفني أمريكي تتقدمه النجمة سيكونير ويفير تداخلت فيه  السينما الإعتيادية بسينما التحريك  بما أنه اتخذ بنية حكاية  عجيبة . ونفس هذا الوضع  ينسحب على مجموعة من الأفلام اللاتينية التي تتوزعها انتماءت عدة وكذا على الفيلم الإسرائيلي- الفرنسي “قي المنتصف In Between”  الذي حاز على إحدى جوائز الدورة والذي أكدت مخرجته ميسلون حمود أنها تعتبره  كذلك فيلما عربيا فلسطينيا تأثر، بشكل خفي،  بحراك الربيع أو الخريف  العربي وبأدوار المرأة فيه وطموحاتها وإخفاقاتها.

بطلة الفيلم الصيني الفائز بالجائزة الذهبية “أنا لست مام بوفاري”

كما بدا جليا في الأفلام المبرمجة في مختلف الفقرات أن هنالك نزوعا نحو المزج بين البعدين التخييلي والوثائقي أو على الأقل الإعتماد على وقائع حدثت بالفعل كما هو الأمر مع فيلم الإفتتاح “فتاة بريست” للمخرجة الفرنسية إيمانويل بيركو الذي عرض سينمائيا قصة فضيحة دواء قاتل  كان معتمدا من طرف الدولة الفرنسية، وفيلم الإختتام  الفرنسي هو الآخر  “الأوديسا” للمخرج جيروم سال الذي نقل إلى السينما حياة البحار الذائع الصيت جون كوستو،  وكذا    الفيلم الإسباني “الرجل ذي الألف وجه”  الذي أضاء إضاءة  جديدة  واقعة هرب مسؤول إسباني عسكري نافذ ووقوعه بين براثن محتال استثنائي، أما مخرج الفيلم  فهو ألبرتو رودريغز صاحب رائعة “الجزيرة الدنيا La isla Minima” الذي افتتح بها مهرجان تطوان المتوسطي دورته لسنة 2015.  نفس الحكم ينسحب على الفيلم الفرنسي- الألماني – البلجيكي “Nocturama” للمخرج برتران بونيللو الذي يحيل على الأحداث الإرهابية التي وقعت بباريس   مؤخرا ووظفها  بطريقة لم ترق للمسؤولين بمهرجان كان  فحذف من البرمجة في الدورة الأخيرة، والفيلم الأمريكي- الألماني- الفرنسي “سنودن” للمخرج الأمريكي الكبير أوليفر ستون، فيلم هو إعادة تركيب لمسار تحول  سناودن من  مجند إلى مخبر وخبير لدى وكالة الإستخبارات الأمريكية مستخدما مهاراته الباهرة في تقنيات التواصل )أنترنيت وما جاوره(.

نار في البحر

وقد  صرح مخرج الفيلم  أنه عمل كل ما في جهده لحفظ سرية التصوير وقام  بتحريات لتقديم صورة تقريبية عن هذا “المخبر الخائن”. أما الفيلم الإيطالي “نار في البحر” للمخرج جيانفرانكو روسي، الحائز على جائزة الدب الذهبي بمهرجان برلين، فتتوزع ملامحه بوضوح بين السجل الوثائقي والسجل التخييلي إذ أنه يثير موضوعة الحريق، أو “الحريك” كما نقول نحن المغاربيون، الذي تتسبب فيه فجائع الهجرة السرية بالنسبة لمن قبلوا المجازفة وبالنسبة للبلد أو المدينة المضيفة كما هي حالة لامبيدوسا التي بدأ أهلها يتبرمون من الصور النمطية السلبية اتي ألحقت بهم و عمد الفيلم على إعطائهم الفرصة ليثبتوا أنهم أناس عاديين بنقاط ضعفهم ومكامن قوتهم. كل هذه العناوين المذكورة وعناوين أخرى  تقوم بملأ البياضات وتخيل ما لم تقله التقارير البوليسية أو بعض المذكرات واليوميات باقتراحات فنية وجمالية موفقة.

 أما الفيلم  البريطاني- الفرنسي – البلجيكي “أنا دانييل بلاك” للمبدع البريطاني كين لوش فهو يفضح بلغة سلسلة وأداء قوي جوانب من بؤس المجتمع الإنجليزي في لحظتنا الراهنة وغباء البيوقراطية وعصفها بمصائر البسطاء الذي يصل بهم الحد إلى التسول والسرقة والتعهر من أجل ضمان لقمة عيش وحتى لا تقترب حياتهم من مستوى حياة الكلاب كما عبرت عن ذلك الشخصية الرئيسية في رسالة تمت نلاوتها في قداس جنازته . هذا الفيلم الذي حاز على السعفة الذهبية لمهرجان كان تبنى واقعية قاسية وصرخ بأن بريطانيا ليست بخير وأن عواصف مدمرة آتية مثل عاصفة البريكسيت أو الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي مثلا.

 التعبير الذاتي

وهناك أفلام في هذه الدورة اصطبغت بشكل قوي  بذاتية مخرجيها مثل الفيلمين الإسبانيين “التمكن ثانية”  للشاب جوناس ترويبا Jonas Truebaالذي سعى إلى إقناعنا بأن نثق  في التجارب التي نعيشها في فترة المراهقة و”ماريا والأخرون” الفيلم الأول  للمخرجة نيلي ريغيرا  Nely Reguera الذي يتساءل إن كنا نعيش فقط من أجل إرضاء الآخرين، وكذا فيلم “فرانتز” للمخرج فرانسوا أوزون Fançois Ozon الذي يضيء تفاصيل عن الحرب العالمية الأولى وأهوالها وعن نسبية الحقيقة واستحالة تشييد علاقة حب على أشلاء الضحايا. واعتمد الفيلم بشكل محوري على ما يمكن تسميته بالفلاش باك  واعتنى عناية فائقة  بجمالية الصورة.

لقطة من الفيلم الفرنسي “فرانتز”

في حين اعتمد الفيلم  الفرنسي “احص جراحك ” للمخرج مورغان سيمون على الموسيقى الصاخبة وعلى الرسم على الجسد ليحدثنا عن صراع الأجيال وعن ترابط الحب والخيانة. أما الفيلم الصيني “أنا لست مدام بوفاري”  للمخرج Xiaogan Fen الذي فاز بالجائزة الكبرى، أي جائزة الكونشا الذهبية، وبإيعاز من لجنة تحكيم ترأسها المخرج الدانماركي الكبير بيل أوغست، فهو  فيلم ذو جمالية باهرة واشتغال تشكيلي مذهل  يجعلنا نتأمل، من منظور أخر،  في إشكال  هوية عمل فني ما وانتمائه  إذ  نرى كيف “تسللت” شخصية مدام بوفاري، التي أوجدها كاتب فرنسي، إلى فيلم صيني وتكيفت مع الثقافة الصينية التي  تبنتها لتدافع عن  حق المرأة في الكبرياء  وفي أن ينصت إليها كمواطنة كاملة الأهلية  ولو في نظام سياسي  تهمه الحشود أولا.

وقدمت الدورة أفلام تشويق ومطارادات متقنة وهي تتقدم كاستعارة عن وضع انساني معقد ومركب كما هو الأمر في الفيلم الياباني “سعار” للمخرج لي سانغ سو الذي يصور مجتمع القاع والمثليين والحب والجريمة والوحدة في مجتمع متقدم بشكل مخيف، وفي  الفيلم الإسباني “ليسامحنا الرب” للمخرج Rodrigo Sorogoyen، الفيلم البوليسي ذي  الأبعاد الإجتماعية والنفسية الذي  اتخذ من زيارة للبابا السادس عشر لإسبانيا خلفية له.

تكريم

ولم تتردد الدورة في أن تخصص لحظة تكريم أو بالأحرى لحظة إعادة اعتبار لمخرج فرنسي من الرواد  هو  جاك بيكير الذي قال مخرج آخر هو الفرنسي بيرتران  تافيرنييه في حقه كلمة جميلة في حفل الإفتتاح  وأكد على أنه  أثر في  مخرجي الموجة الجديدة وحظي بتقديرهم.

وبشكل واضح ومدروس، نلاحظ في البرمجة توازنا وعدلا في الاهتمام بالأفلام الإسبانية   وأفلام إقليم الباسك وأفلام آتية من مختلف العالم مع فقرة خاصة بسينما أمريكا اللاتينية وارتباطا بالمدينة واهتماماتها  هنالك فقرة خاصة بالأفلام المتمحورة حول الأكل وآداب المائدة وأخرى تهتم بالرياضات التي تتطلب قدرا لا بأس به من الجهد والمجازفة.  وباستثناء إسبانيا البلد المضيف وفرنسا، فلم  تتم برمجة أفلام متوسطية عديدة في هذه الدورة في حين حظيت السينما الأسيوية )الصينية واليابانية والكورية الجنوبية(بحفاوة خاصة ، وهي الحفاوة التي ترجمت في لحظة إعلان عناوين الأفلام الفائزة وأسماء المخرجين الفائزين.

وعالم السينما عالم جذاب، وهو في الآن  نفسه عالم متوحش بما أنه ينبني  على المنافسة  التي قد تكون شرسة احيانا وعلى موازين قوى قد لا ندري أحيانا من يتحكم فيها وفي معاييرها  باستثناء معيار الجودة، وهذا ما قد  يفسر  الغياب العربي المؤلم عن هذا المهرجان الكبير وعن هذه المنصة الثقافية والفنية  العالمية، وهو غياب غير مبرر وجزء كبير منه تتحمل مسؤوليته   الجهات الرسمية التي تتحدث  دوما عن ضرورة خلق  ديبلوماسية موازية وعن البحث عن منافذ للتعريف بثقافاتنا العربية، غير أن  الأفلام العربية غابت عن المسابقة الرسمية  وعن مختلف الفقرات والندوات وغاب السينمائيون والنقاد والصحفيون.

في مهرجان مثل سان سباستيان تكون مضطرا لأن تختار الأفلام التي ستشاهدها، أي أنك بالضرورة ستضيع أفلاما أخرى بما أن البرمجة غنية ومتنوعة وسخية. وستشعر بالحسرة لأنك لم تتمكن من  الإقتراب من نجوم فتنت بهم أكثر من مرة ولم تتمكن من التحدث إليهم في سياق كانوا فيه  متاحين.

وهذا المهرجان يستمد قوته، على ما يبدو، من جمهوره أولا ومن   روعة مدينته ومن الصداقات التي تمكن من نسجها مع سينمائيين من مختلف الأجيال والحساسيات ومع مختلف المؤسسات المتخصصة. ويستمد هذه القوة على الخصوص من كونه  يجعلك بيسر وبسرعة تشعر بالألفة وبأنه  قد اطمئن إليك  لأنك بكل بساطة تنتمي إلى “القبيلة  الكونية لعاشقي السينما “.

Visited 25 times, 1 visit(s) today