من الملف السري لحياة المخرج الفرنسي فرانسوا تروفو
ولد فرانسوا تروفو لأب مجهول وأم مُهملة، خضع للتبني ثم وُضع في ملجأ للأطفال الجانحين، اختار بعض الوجوه مرجعية له، قبل أن يصير هو نفسه مرجعية.
كم هم آباء تروفو؟ قلة جدا أم كُثر. في جميع الأحوال ارتبطت حياته وأعماله ارتباطا وثيقا بشكل يقودنا بثقة لبسط هذه الفرضية: لو لم يكن الفتى الرهيب للموجة الجديدة لقيطا، لربما بقي فيلم “الأربعمائة ضربة” (وكل ما تلاه من أفلام) مجرد تعبير لوصف اضطرابات الحياة.
في عائلة مونفيرون – تروفو، استأثرت الأم طويلا بالاهتمام. كانت جانين دو مونفيرون أما قاسية تفتقد إلى الحنان، امرأة أنانية، طائشة، بخيلة في حب قضى الابن حياته في البحث عنه عند نساء أخريات، كل الأخريات. لكن مسألة الأب عند تروفو كانت على الأقل بنفس القدر من الأهمية، ألم يحتفي ” الطفل المتوحش” أكثر أفلامه سوداوية وذاتية بالمُربي المثالي في شخص الدكتور إتار؟ المرشد المنصت والحنون الذي طالما افتقده طفلا.. كما نوه إلى ذلك سيرج داني غداة وفاة المخرج؟
يوجد إلى جانب تروفو “الانطوائي المنقطع لاستمالة النساء وتقديس الأموات” “تروفو المربي المنشغل بالبنوة وبنقل المعرفة “، كبيرا أحب السينمائي توجيه الأطفال في السينما، واخترع له ابنا في السينما، مغطيا بطريقته الخاصة على فشل والديه وأكاذيبهما أيضا، حتى سن 12 سنة كان تروفو يعتقد أنه من صلب أبيه ” الأب القانوني فقط ” (1) الذي كتب له في رسالة عام 1959 (2) سرا قاسيا ” أحببتك حقا في الوقت الذي أكرهك فيه “.
الأب المجهول
في فيلم ” قصة اديل. هـ “، كانت ايزابيل أدجاني تردد نفس الجملة كمن يتمتم، ذات ليلة وهي تتصبب عرقا “مولودة لأب مجهول، لأب مجهول كلية..”وإذا كانت مأساتها أنها كانت ابنة أشهر رجل في العالم (فيكتور هوغو- المترجم)، فإن مأساة مخرج الفيلم أنه لم يعرف قط أباه.
رأى فرانسوا تروفو النور فجر السادس من فبراير 1932 لأم عازبة عمرها عشرين سنة ولأب مجهول. كان على وشك أن لا يأتي إلى هذا العالم، فقد أرادت أمه جانين أن تُجهض، طيلة ستة أشهر أخفت حملها، خاف والداها ” دو مونفيرون” من الفضيحة، فنصحاها بأن تضع مولودها بعيدا في تكتم، فهما إن كانا مُعدمين إلا أنهما كانا ارستقراطيين كاثوليكيين.
وضع الصغير فرنسوا في حضانة بالضاحية الباريسية، وظل بعيدا عن أمه حتى سن الثالثة. في غضون ذلك التقت جانين بـ ” رولان تروِفو” المصمم المعماري الذي قبل قبل عقد قرانهما الاعتراف بطفلها، منذئذ أصبح للصغير تروفو اسم دون أن يكون له موضع أو يكاد، مع أنه الطفل الوحيد للزوجين اللذين فقدا في 1934 رضيعا ولد بشكل شرعي هذه المرة.
عجلت هذه الفاجعة بنفي الطفل تروفو عند جدته لأمه، حيث ظل طيلة ثماني سنوات، مرت حياة الطفل على نحو سلس، في حين تحررت أمه من وجوده، عندما ماتت جدته، كان رولان تروفو هو من أصر على استضافة من لم تكن زوجته ترى فيه إلا خطيئة من طيش الشباب، كان فرانسوا في العاشرة من عمره حين انتقل للعيش عند والديه في شقة من حجرتين في الدائرة التاسعة بباريس، حيث كان ينام في الممر على أريكة متحركة وهي الواقعة التي خلدها في فيلم “الأربعمائة ضربة”.
كان والده ودودا على الأصح ميالا إلى الهزل وإلى شغفه برياضة تسلق الجبال، وقد دأب على القول “إن ابني لن يفهم أي شيء في الجبال” ، أما أمه المتحررة فظلت مشغولة بأشياء أكثر من الاعتناء به، بمجرد ما لاحت الفرصة، انطلق الزوجان لصعود جبل ” فونتين بلو” تاركين ابنهما وحيدا في الشقة.
كان تروفو يجهل سر ولادته، في فترة المراهقة تراكمت الشكوك. وفي السيرة الذاتية التي ألفاها عنه، ينقل سيرج توبيانا وأنطوان باك ذكريات الشكوك الأولى”مع الآسف بدأت رويدا رويدا أحس بأن هناك شيئا ليس على ما يرام.. اخترعت لنفسي كما يفعل كبار القراء في هذه الحالات، قصصا للولادة، كان لغزا معقدا “.
في عام 1944، اكتشف تروفو الحقيقة.. في خزانة الملابس وقع على يومية من عام 1932 حيث لم يكتب والده أي إشارة أمام التاريخ المفترض أن يوافق ميلاده، وعندما اكتشف الدفتر العائلي لم يعد الشك مسموحا به.
الأب الحقيقي
من ذلك الحين، ظلت الرغبة مشتعلة في معرفة هوية والده والخوف من اكتشافه تعود بانتظام لتقض مضجع المخرج. بعد أربعة وعشرين سنة من حادثة فتح خزانة ملابس حجرة والديه، قرر تروفو أن يواجه الحقيقة. كان المشهد روائيا بامتياز؛ للعثور على والده البيولوجي يستعين مؤلف فيلم ” قبلات مسروقة ” الذي انتهى بالكاد من تصويره، بالمحقق الخاص الذي شكل قدوة أنطوان دوانيل بطل الفيلم المذكور.
في هذا الجزء الثالث من مغامرات دوانيل، تصرف ” ألبير ديشين” مدير وكالة ديبلي للابحاث والمتابعات والتحقيقات ” كمستشار للمخرج الذي طلب منه في ابريل 1968 إجراء تحقيق سري حول هوية والده المختفي.
بعد أسابيع قليلة انتهى التحقيق إلى أن الرجل الغامض هو رولان ليفي المولود في بايون عام 1910؛ مطلق وأب لطفلين، استقر منذ 1954 كجراح أسنان في بلفور، حيث اضطر بسبب هويته اليهودية لمغادرة باريس زمن الحرب.
يحكي توبيانا وباك “سيقلق هذا الاكتشاف ويريح في ذات الوقت، فرانسوا تروفو، فهو لن ينتمي كلية إلى عائلة هذا الشخص”. وجد اكتشاف جذوره اليهودية صدا رنانا عند الطفل الذي امتلك مصيره بيده، والمراهق الذي صار منبوذا، الهارب الهائم على وجهه في باريس ذات صيف من عام 1951، اقتنع تروفو بأن رولان ليفي كان مثله ضحية عائلة مونفيرون الكاثوليكية غير المتسامحة التي كانت فيما مضى في صف من عارضوا إعادة فتح التحقيق في قضية الضابط اليهودي دريفوس.
في سبتمبر من نفس السنة، يتسلح تروفو بالشجاعة، ويقصد بلفور شارع كارنو، حيث رابط أسفل العمارة التي كان يقطن بها والده “على الساعة الثامنة والنصف مساء – يكتب كتاب سيرته – سيدفع بوابة العمارة، رجل في الستينات من العمر، بقامة متوسطة، بدين إلى حد ما، متدثر بمعطف رمادي ووشاح محكم حول عنقه، في هذه اللحظة سيتراجع تروفو رافضا قلب عادات رجل رأسا على عقب بكشف هوية ابنه فجأة دون مقدمات، في هذا المساء سيحجز غرفة في فندق، وسيذهب لينزوي في السينما التي كانت تعرض فيلم ” البحث عن الذهب ” لشارلي شابلن.
الأب الروحي
أنقدت السينما تروفو، فبينما وُصف المراهق بأنه “مُضطرب ويعاني انعدام تكامل بين الوظائف النفسية والحركية مع ميول منحرفة “ما جعله يقبع في مركز للجانحين الصغار لم ينجح في إخراجه منه سوى أندريه بازان، في هذه الفترة لم يكن الناقد اللامع المُبشر بتربية شعبية عن طريق الثقافة، قد التقى محميه سوى مرة واحدة. في 30 نوفمبر 1948 سيذهب المراهق إلى مقر”عمل وثقافة “جمعية النضال الثقافي حيث كان بازان يٌوهن صحته بكل حماس. كان تروفو غارقا في الديون حتى رقبته بسبب الفشل الذريع لناديه السينمائي “دائرة سينمان”، ذهب إلى بازان شخصيا ليطلب منه الكف عن منافسته بشكل مباشر، طلب منه بوضوح تغيير توقيت العروض في ناديه السينمائي الخاص.
أنطوان دوانيل بطل فيلم “الأربعمائة ضربة”
كان طلبا وقحا من عاشق شاب للسينما أثر بشكل غريب في المربي الثلاتيني. بعد أسبوع من هذه المقابلة، ستنتهي مغامرة ” سينمان” ذات ليلة مشؤومة؛ مُرهقا بديون وأكاذيب فرنسوا، سيقود رولان تروفو ابنه إلى الشرطة لوضعه في ملجأ، من حسن حظه أنه حين وضع في مركز مراقبة القاصرين بـ ” فيل جويف”، وقع التكفل به من طرف أخصائية نفسية هي التي ظهرت شخصيتها في فيلم ” الأربعمائة ضربة”، وهي من اتصلت ببازان في مارس 1949.. قدم الناقد نفسه كفيلا للشاب وعرض تشغيله في جمعية “عمل وثقافة”، أصبح تروفو السكرتير الخاص لهذا القديس ذي القبعة المخملية.
في شتاء سنة 1952، سيلعب بازان مرة أخرى دور المنقذ، حين أخرج الطفل الرهيب من السجن العسكري حيث أودع بسبب فراره من التجنيد. طيلة سنتين عاش تروفو عند أسرة بازان في منطقة “براي سير مارن” في شقة مكونة من ثلاث غرف ومطبخ، وفي حجرة صغيرة كانت مخصصة للخادمة، سيكتب أولى مقالاته لمجلة “كراسات السينما”، وسيعطي مقالته الحارقة عنوان “إتجاه ما في السينما الفرنسية ” (التي انتهى بازان بنشرها دون أن يتفق مع مضامينها).
في المدخل المعنون ” أندريه بازان “من كتاب “معجم تروفو” كتب نويل هيبر “رغم أن تروفو ابن ضال، إلا أنه يظل برغم ذلك الابن المفضل لبازان الذي أهدى إليه الجزء الأول من كتاب “ما هي السينما؟ “. وعندما مات الأخير في 11 نوفمبر 1958 الذي صادف اليوم الأول من تصوير “الأربعمائة ضربة”، بدا تروفو يتيما أكثر من الكل “.
في نص نُشر في “كراسات السينما”، سيمتدحه الشاب حين يتحدث الناقد أكثر من الابن ” كان وجهي يحمر فخرا عندما يوافقني الرأي في نقاش، لكني كنت أشعر بمتعة قصوى أكثر حين كان يعارضني، كان العادل الذي نحب أن نتحاكم إليه، والأب الذي كانت توبيخاته حلوة بالنسبة لي مثل المحجور المٌحب الذي حرمت أن أصيره طفلا “، لم يخطئ رولان تروفو حين كتب عند خروج فيلم “الأربعمائة ضربة” في سياق ملاحظات أخرى مستاءة ” إننا ندفع غاليا ثمن موت بازان”.
الأب المتحرر
وهذا واحد ممن تُشبه حياته حياة كوكتو، هو أيضا أسنُ من الشاب تروفو ومتعهده بالعطف؛ مرت حياته من الأسفار إلى المغامرات ومن الصداقات الفنية إلى التوافقات الجنسية، دون جوان منذ الأزل الذي أصبح روائيا بشكل متأخر، كان هنري– بيير روشي السبعيني شخصية أبوية لتروفو (الذي قرأ له لأول مرة في سن 23 سنة)، غير أن الشيخ يدين للشاب بشهرته لدى الأجيال اللاحقة، فحين اقتبس للسينما رواياته “جيل وجيم” المقتناة ككتاب مستعمل في مكتبة بساحة “القصر الملكي”، و”الانجليزيتان والقارة “، انتشله تروفو من أن يظل مغمورا، استمرت مراسلاتهما الغنية والودية مدة أربع سنوات من العام 1955 حتى وفاة روشي.
في مذكراته “الفضول في المهنة” سجل مئات من مغامراته العاطفية.. كأنما يتحدث بالضرورة عن “الرجل الذي يحب النساء “. فبير ترون موران جامع التنورات (الميني جيب) في الفيلم الذي يحمل نفس الاسم، هو من جهة أخرى التركيب المثالي بين تروفو وروشي اللذين كان لهما قاسم مشترك آخر وهي الحاجة في الإغواء؛ فأم روشي كانت أما مُخصية (تعبير من علم النفس يستعمل للدلالة على الأم المستبدة التي تمنع ابنها من تحقيق ذكورته- المترجم)، وكان وهو اليتيم منذ سن مبكرة يسميها “خطيبتي في طفولتي المبكرة”. لكن الكاتب كان أيضا بالنسبة للسينمائي نموذجا يحتذى على مستوى الأسلوب، فقد كان تروِفو يحب “جمله القصيرة جدا المركبة من الكلمات اليومية المتداولة ” وكان معجبا “بتسارعها وجفافها الظاهر ووضوح صورها”، هذا الاقتضاب النحوي والسردي نجد صداه في المونتاج المتوهج والمختزل في فيلم “جيل وجيم”.
هوامش المقال
1- هكذا وقع رولان ترفو رسالته اللاذعة التي بعث بها إلى ابنه عقب خروج فيلم الضربات الأربعمائة.
2- رسالة مؤرخة في 27 مايو 1959 من فرنسوا إلى رولان تروفو أوردها سيرج توبيانا وأنطوان باك.
** تنويه لا بد منه من المترجم: ما إن قرأت هذه المقالة في لغتها الفرنسية الأصلية، حتى عقدت العزم على ترجمتها إلى اللغة العربية لأهميتها البالغة النابعة من أن فرانسوا تروفو من كبار مخرجي السينما الذين يعد الإلمام بسيرهم الذاتية مفتاحا لفهم أعمالهم شأنه في ذلك شأن فيديريكو فيلليني وإيليا كازان ويوسف شاهين وغيرهم.
- عن مقال ماتيلد بلوتيير عن مجلة ” تليراما” 04 نوفمبر 2014