من أجل كتابة نقدية مغايرة حول المنتج السينمائي المغربي

خلال تسعينيات القرن الماضي بدأ بعض المهتمين بالشأن السينمائي المغربي يفكرون بجدية في اقتحام مغامرة التأليف، والانتقال بالتالي من طور المتابعة النقدية  للمنتج السينمائي المغربي عبر كتابة مقالات ونشرها في صفحات الجرائد والمجلات، إلى طور البحث في هذا المنتج وإثارة بعض القضايا والأسئلة المرتبطة به، وكذا اتخاذه مجالا للتحليل والتقويم، واطلاع القراء على كل ذلك من خلال كتاب يتم طبعه ونشره. في هذا الإطار بالذات يندرج كتاب “أبحاث في السينما المغربية” الذي يعتبر أول إصدار نقدي سينمائي للناقد السينمائي المغربي مصطفى المسناوي. ويضاف هذا الإصدار إلى سلسلة إصدارات أخرى اهتمت بالخصوص بمقاربة المنتج السينمائي المغربي الذي عرف خلال العقد التسعيني من القرن الماضي تراكما كميا ملحوظا أغرى النقاد كثيرا لمقاربة جوانبه الفكرية والفنية، وفتح شهيتهم للكتابة حول ما تثيره السينما عموما من قضايا وإشكاليات. ويقع هذا الكتاب الصادر عن منشورات الزمن خلال سنة 2001 في مائة وتسعة وثلاثين صفحة من القطع المتوسط ويتضمن مدخلا وفصلين بالإضافة إلى ملحقين.                

ركز الناقد في المدخل على أربع نقط أساسية تتعلق الأولى بصعوبة إنجاز تاريخ واحد للسينما العربية نظرا لاختلاف السينماءات العربية نشأة وفكرا وفنا. وتتعلق الثانية بالبدايات الأولى للسينما المغربية والتي ارتبطت بالحماية الفرنسية للمغرب. وتتعلق الثالثة بالفجوة القائمة بين السينمائي المغربي وجمهوره. وتتعلق الرابعة بتوزيع النقاد السينمائيين بين مرجعية مشرقية عربية، ومرجعية غربية أوروبية.                                     

السينما الكولونيالية 

وسينتقل الناقد في الفصل الأول للحديث عن السينما الكولونيالية ليبدأ حديثه عن استحالة اعتبار هذه السينما مغربية لأن العناصر البانية لها لا ارتباط وثيق لها بالمغرب أو المغاربة واقعا وإنتاجا وصناعة. ثم يرصد بعد ذلك مراحل السينما الكولونيالية فيقسمها إلى ثلاث : في المرحلة الأولى سيركز المخرجون الفرنسيون على الجانب الغرائبي في المجتمع المغربي، وسيختارون أبطالا همشهم موطنهم الأصلي، فجاءوا إلى المغرب من أجل تحقيق ذواتهم. وفي المرحلة الثانية سينهل المخرجون السينمائيون الفرنسيون مادتهم الفيلمية من معين الصراع القائم داخل البلاد، وسيشركون العنصر المغربي سواء على مستوى الكتابة أو على مستوى التمثيل، لكن السلطات الاستعمارية انتبهت إلى خطورة هذا التوجه، فشجعت الأفلام الدعائية التسجيلية، غير أن هذه الأخيرة لم تلق قبولا لدى المشاهد المغربي الذي كان مرتبطا في هذا الوقت بالذات ارتباطا وجدانيا بالسينما المصرية ذات التوجه القومي العروبي.

أما في المرحلة الثالثة فقد عملت سلطات الحماية على إنشاء المركز السينمائي المغربي الذي سيكون من مهامه إنجاز أفلام موجهة إلى المغاربة تقف في وجه المد السينمائي المصري، لكن هذه المحاولة ستؤول إلى الفشل بسبب غياب الواقعية عن تلك الأفلام، وعجزها عن تملك الميلودراما. وسيختم الناقد هذا الفصل بالإشارة إلى أن الربح الأكبر الذي جناه المغرب من الأفلام الكولونيالية هو إنشاء المركز السينمائي المغربي، غيرأن هذا الربح لم يستثمر بعد في إنعاش السينما المغربية.          

وفي الفصل الثاني سيتحدث الناقد عن السينما المغربية من خلال ثلاثة محاور. يرتبط الأول ببدايات السينما المغربية، ويرتبط الثاني بالبنيات الأساسية للسينما المغربية، ويرتبط الثالث بالإبداع السينمائي المغربي.                                                    

فعلى مستوى المحور الأول، يؤكد الناقد صعوبة الحديث عن بداية معينة للسينما المغربية، فيختار الحديث عن بدايات متعددة يحصرها في أربع :  تبدأ المرحلة الأولى من 1919 وتستمر إلى أواسط الأربعينات، وأثناءها سيعمل المخرجون الفرنسيون على تصوير الجانب الغرائبي في المجتمع المغربي مادام المستهدف من أفلامهم هو المشاهد المحلي لكن هذا الأخير كان منشغلا بالفيلم المصري. وتبدأ المرحلة الثانية بعد سنتين من إنشاء المركز السينمائي المغربي، حيث ستسعى السلطات الاستعمارية إلى إنجاز أفلام موجهة إلى المغاربة تربك علاقتهم بالفيلم المصري لكن هذه الخطوة لم يوفر لها ما يكفي من أسباب النجاح فباءت بالفشل. وترتبط المرحلة الثالثة بشخصية محمد عصفور الذي صور سلسلة من أفلام المغامرات الصامتة. وتبدأ المرحلة الأخيرة مع أول فيلم مغربي قصير “صديقتنا المدرسة ” لصاحبه العربي بناني الذي تم إنتاجه سنة 1956.              

عن المركز السينمائي

وعلى مستوى المحور الثاني، يقف الناقد عند البنيات الأساسية للسينما المغربية ويتعلق الأمر ببنية المركز السينمائي المغربي، وبنية التوزيع، وبنية الاستغلال. فعند بداية حديثه عن المركز السينمائي المغربي أشار إلى نشأته، وموارده، ومهامه، ثم انتقل بعد ذلك لرصد مساره. وفي هذا الصدد تحدث عن ثلاثة مراحل : المرحلة الأولى وتقع بين 1980 و1988 وتميزت بتواضع المنحة التي يقدمها صندوق الدعم مقارنة مع كلفة الإنتاج، بالإضافة إلى غياب الموضوعية عن شروط دعم الفيلم المغربي، مما أدى إلى غلبة الكم على الكيف. أما المرحلة الثانية والتي تقع بين 1988 و1997 فسيعاد خلالها النظر في شروط الدعم، كما سيعاد النظر في مبلغ المنحة، وطريقة صرفها. في حين عرفت المرحلة الثالثة التي بدأت منذ 1997 تغييرين أساسيين:

الرفع من المبلغ المالي المخصص لدعم الأفلام، وتقسم لجنة الدعم إلى فرعين، ينظر الأول منهما في مشاريع الأفلام، وينظر الثاني في مبلغ الدعم. وبعد الحديث عن هذه المراحل توقف الناقد عند مجموعة من الأدوار والمنجزات التي قام بها المركز السينمائي المغربي كتنظيم المهرجان الوطني للسينما المغربية، وتأسيس خزانة السينما، بالإضافة إلى تحميض الأفلام ومعالجتها والمساهمة في إنتاجها. وانتقل الناقد بعد ذلك إلى الحديث عن بنيات التوزيع والاستغلال، فاستهل هذا الحديث بقطاع التوزيع الذي يتسم بالاحتكار حيث يسيطر مجموعة من الموزعين – الذين هم في الغالب أرباب قاعات – على هذا القطاع  فيقبلون على شراء الفيلم الأجنبي مادامت أرباحه مضمونة بغض النظر عن حجمها، ويديرون ظهرهم للفيلم المغربي تلافيا للخسارة أو الربح المتواضع، مما يستدعي تدخل الدولة لتكسير هذا الاحتكار وبالتالي تشجيع عملية توزيع الإنتاج الوطني. ثم تحدث بعد ذلك عن قطاع الاستغلال، فأشار إلى تناقص القاعات السينمائية، وتمركزها داخل المدن الكبيرة، ملاحظا انفتاح بعض هذه القاعات على المنتج السينمائي الوطني. وتحدث أخيرا عن الرقابة التي بدأت تخف وطأتها على الفيلم المغربي انطلاقا من ثمانينيات القرن الماضي. 

ضعف الانتاج

وعلى مستوى المحور الثالث قام الناقد بتقويم الإبداع السينمائي المغربي من خلال الوقوف عند عنصرين اثنين يتمثل الأول منهما في قيمة الإنتاج المغربي،  ويتمثل الثاني في التيمات التي عالجها هذا الإنتاج. فبخصوص العنصر الأول لاحظ الناقد ضعف الإنتاج المغربي كما وكيفا، وربط ذلك بمجموعة من العوامل منها  ارتباط الإنتاج بالدولة من خلال صندوق الدعم، ومنها أيضا هزالة التكوين السينمائي لدى المخرجين المغاربة، ووجودهم بالصدفة في مجال السينما، بالإضافة إلى جمعهم بين أكثر من مهمة وهم يصنعون أفلامهم. أما التيمات التي انشغلت بها السينما المغربية فهي كثيرة ومتنوعة، وقد تتداخل في الفيلم الواحد كالهجرة، والمرأة، والثقافة، والغناء، والتاريخ. وسينهي الناقد هذا المحور بخاتمة أكد فيها أن التحدي الأكبر الذي تواجهه السينما المغربية هو أن توجد أولا، وأن تربط في النهاية علاقة وثيقة بمشاهديها. كما لم تفته الإشارة إلى عنصر اعتبره أساسيا هو البث الفضائي الذي عرى للمتفرج المغربي حد الإشباع صورة الأخر المختلف دينا وثقافة مما سيجعله يرنو إلى معرفة ذاته بكل ما تحمله من قيم وأفكار ومعتقدات، وهذا هو الدور الذي ينبغي أن تلعبه الأفلام  المغربية.                                        

وينهي الناقد أبحاثه في السينما المغربية بملحقين : الأول منهما عبارة عن فيلموغرافيا للأفلام الكولونيالية، والثاني عبارة عن فيلموغرافيا للسينما المغربية. يتضمن الملحق الأول ثمانية وسبعين فيلما، وتتم الإشارة فيه إلى اسم الفيلم ومخرجه ومصوره وأماكن تصويره والممثلين المشاركين فيه وكاتب حواره وموضوعه وواضع موسيقاه وتاريخه وبلده. أما الملحق الثاني فيتضمن مائة فيلم، وتتم الإشارة فيه إلى عنوان الفيلم وتاريخه ومخرجه.                                                                              

بعد هذا العرض المركز لمحتويات الكتاب، يحق لنا أن نتساءل عن الرهانات التي سعى الناقد إلى تحقيقها. هل الأمر يتعلق بكتابة تاريخ للسينما المغربية ؟ أم إبراز ضعف المخيلة الإبداعية عند السينمائيين المغاربة؟ أم الكشف عن الخلل الذي يعاني منه الفيلم المغربي؟ أم توجيه النقد إلى المؤسسات المسؤولة عن رداءة المنتج السينمائي المغربي؟ أم تعرية واقع الكتابة النقدية حول السينما الوطنية؟                                                

الواقع أننا كلما قرأنا فصلا من فصول هذا الكتاب أو فقرة من فقراته إلا وظهرت لنا بعض المؤشرات التي تؤكد أن الناقد كان منشغلا بالبحث عن إجابات لتلك الأسئلة. ومن خلال تفحصنا لمضمون الإجابات لاحظنا أن الناقد كان يسعى لإثبات مايلي:

– للسينما المغربية تاريخ بقدر ما يرتبط بتاريخ السينما المصرية، بقدر ما ينفصل عنه. وهذا التاريخ لم يكتب بعد، ولن يكتب في الأمد القريب، لأن السينما المغربية تحتاج لأن توجد أولا.   

– السينما المغربية هي السينما التي صنعها مغاربة واستقت مادتها من واقع المغاربة، وبالتالي فإن السينما التي صنعها الفرنسيون إبان الحماية ليست سينما مغربية.   

– السينمائيون المغاربة يشكون من ضعف في التكوين، غرباء عن مجتمعهم، لم يستطيعوا إلا نادرا ترميم جسر التواصل بينهم وبين المتلقي المغربي.  

– السينما المغربية تعاني من خلل بنيوي عميق لأنها لم توجد بعد، ولم تربط علاقة وثيقة بمشاهدها المغربي.      

– المركز السينمائي المغربي لم يساهم في إنعاش السينما المغربية، لأنه لازال محكوما بالمنطق نفسه الذي سنته سلطات الحماية.      

– قطاع التوزيع يقف عائقا أمام انتشار الفيلم المغربي.  

– النقاد السينمائيون نقاد تلفيقيون، مهادنون، لا يتوفرون على الحس النقدي أمام الأفلام المغربية.                                                                                         

  والحق أن الناقد كان قريبا جدا من الحقيقة وهو يتحدث عن خصوصية السينما المغربية، وعن صعوبة إنجاز تاريخ لها ولو في الأفق المنظور، وعن ربط نشأتها بالإطار البشري المغربي وبالفضاء المغربي، وعن مسؤولية الموزعين في التهميش الذي يطول توزيع الفيلم المغربي داخل القاعات السينمائية. لكنه كان بعيدا جدا عن الحقيقة  وهو يتهم السينمائيين المغاربة بضعف التكوين، وببعدهم عن الجمهور، ويصف النقاد السينمائيين المغاربة بالتلفيقية والمهادنة وغياب الحس النقدي. لأنه إذا كان صحيحا أن مجموعة من الأفلام السينمائية المغربية جاءت ضعيفة مقارنة مع أفلام مصرية أو أجنبية، فليس صحيحا بالمطلق أن يكون أصحابها ضعفاء ، فقد يعود هذا الضعف إلى الأداء أو السيناريو أو التصوير كما قد يعود إلى قلة الإمكانيات وتواضع الوسائل، وإلا فما بال بعض المخرجين قد تفوقوا في أفلام، وفشلوا في أخرى؟

أما النقاد السينمائيون فمن الصعب الحكم عليهم في المطلق بغياب الحس النقدي. صحيح أن العديد مما يكتب في الصحافة من نقد سينمائي يجامل ويحابي ويتحامل ويسقط الأحكام، لكن العديد أيضا من المتابعات النقدية التي واكبت الفيلم المغربي بالدراسة والتحليل قد تميزت بالوضوح والتماسك والانسجام والتمكن من آليات التعامل مع الإبداع، ثم أنه لا ينبغي أن ننسى أخيرا أن النقد السينمائي المغربي لازال يتلمس خطواته الأولى في حقل الثقافة المغربية نظرا لحداثة  الموضوع الذي يشتغل عليه.

إذا كانت هذه هي بعض من رهانات الناقد  من أبحاثه في السينما المغربية، فما هي طبيعة اللغة التي استعان بها للكشف عن هذه الرهانات؟                                 

تكرار وأحكام عامة

الواضح من خلال تتبعنا لفصول الكتاب وفقراته، أن الناقد قد مزج بين العرض التاريخي والتحليل النقدي. لقد امتطى لغة تاريخية سردية وهو يتحدث عن بدايات السينما المغربية، وعن مراحل السينما الكولونيالية، وعن الأشواط التي قطعها صندوق الدعم. وتوسل بلغة نقدية تحليلية وهو يتحدث عن بنيات السينما المغربية والإبداع السينمائي المغربي. لكن الملاحظ أن العرض التاريخي قد أوقع الناقد في نوع من التكرار غير المبرر، ذلك أن مجموعة من المعلومات الواردة في الفصل المخصص للسينما الكولونيالية سيتم تكرارها في الفصل المخصص للسينما المغربية، تحت ذريعة الحديث عن بدايات متعددة للسينما المغربية.

أما أثناء التحليل النقدي فقد كان الناقد أكثر ميلا إلى المجازفة بأحكام عامة غير مبررة، من قبيل اتهام المخرجين السينمائيين المغاربة ضعف التكوين، ووصف النقاد السينمائيين المغاربة بالتلفيقية والمهادنة، والتأكيد على عجز الأفلام المغربية عن التواصل، والإشارة إلى تحكم الإرث الاستعماري في المركز السينمائي المغربي. كما وقع الكاتب أثناء النقد التحليلي في غير قليل من التناقض حينما حكم على الأفلام المغربية بالعجز عن التواصل في مكان ما من الكتاب، وأقر في مكان ثان بإقبال الجمهور عليها ( ص6 وص86). وتعود هذه العثرات المنهجية في نظرنا إلى عاملين يتمثل الأول منهما في أن هذا الكتاب قد ألف على مراحل الراجح أنها متباعدة في الزمان بدليل أن الفصل الأول قد سبق نشره في مجلة بصمات عام 1990. ويتمثل العامل الثاني في الفضاء الورقي المحدود الذي كبل طاقة الناقد الاستدلالية مما جعله يكتفي بإصدار الأحكام.                  

ومن الملاحظات التي أثارت انتباهنا في القسم الثاني من الكتاب أن الملحقين المخصصين للفيلموغرافيا قد جاءا غفلين عن المصادر والمراجع، والأمانة العلمية تقتضي أن تتم الإشارة إليهما، حتى يتمكن القارئ المتفحص من الرجوع إلى الأصل، خصوصا إذا كانت تحدوه الرغبة في الاطلاع بشكل مفصل على المعلومات أو المقارنة بينها .      

إن ما سجلناه سابقا من ملاحظات لا ينقص من قيمة كتاب ” أبحاث في السينما المغربية ” ككتاب نقدي مغربي، سعى إلى مقاربة المنتج السينمائي المغربي بأفق فكري واضح  وضع اليد على الجرح الذي تعاني منه السينما المغربية، وبلغة نقدية مغايرة تمزج بين العرض والتوثيق والتقييم والحكم.   

* ناقد من المغرب

Visited 52 times, 1 visit(s) today