عن كتاب “سيرجيو ليوني وسينما الويسترن سباجيتي”

سيرجيو ليوني وسط ديكور وكر تدخين الأفيون في فيلم "ذات مرة في أمريكا" سيرجيو ليوني وسط ديكور وكر تدخين الأفيون في فيلم "ذات مرة في أمريكا"
Print Friendly, PDF & Email

محمود عبد الشكور

سعادتي بهذا الكتاب كبيرة: إنه أولا كتاب عن سيرجيو ليوني، المخرج الإيطالي الفذ، الذي أسرتنا أفلامه العظيمة مثل “حفنة دولارات” و”الطيب والشرس والقبيح” و”ذات مرة في الغرب”، و”ذات مرة في أمريكا”، وهو أبرز مخرجي ما أطلق عليه فيلم “الويسترن الإسباجيتي” أو الإيطالي، وكتاب عنه باللغة العربية، في مكتبة سينمائية فقيرة، أمر يستحق فعلا الإهتمام والإحتفاء.

سعادتي ثانيا بأن مؤلف الكتاب الناقد السينمائي الكبير أمير العمري يواصل هنا منهجه الشامل والمتكامل في دراسة كل ما يتعلق بحياة وأفلام المخرجين الكبار، وهو نفس المنهج الذي طبقه ببراعة في كتابه المرجعي عن فيدريكو فيللني، ويجمع هذا المنهج بين دراسة كل فيلم على حدة، وبين التحليل بالعمق لأسلوب المخرج، وملامح عالمه، بين سرد مسيرة المخرج، وتقديم قراءة نقدية عنه، وبين تقديم معلومات عن ظروف إنتاج الأفلام، والأصداء النقدية لنقاد أجانب بارزين حول كل فيلم، إنه مزيج معلوماتي ونقدي متكامل، ينتهي بفيلموجرافيا تفصيلية، وبشهادات عن المخرج، وصور من الأفلام، وصور عامة للمخرج وكواليس أفلامه، مما يجعل الدراسة مرجعا حقيقيا، كتب بمحبة وشغف، ليقرأ بنفس المحبة، ونفس الشغف.

الكتاب الصادر عن دار المرايا بعنوان “سيرجيو ليوني .. وسينما الويسترن إسباجيتي”، يتابع قصة ليوني منذ البداية حتى وفاته في العام 1989، مستقصيا مسيرة سينمائية أخرج خلالها ثمانية أفلام فقط، ولكنه استطاع أن يجدد أحد أشهر أنواع الأفلام ( فيلم الويسترن)، وأن يقدم فيه ما يمكن اعتباره من كلاسيكيات السينما، وكان ليوني أيضا كاتبا للسينايو، ومنتجا، وممثلا، وعمل لفترات كمساعد للإخراج، وكان مخرجا للوحدة الثانية في أفلام كبيرة.

يمكن القول إنه مؤسسة سينمائية قائمة بذاتها، ولد لأب من رواد مخرجي السينما الإيطالية، ولأم ممثلة، لذلك وجد سيرجيو نفسه في قلب عالم السينما، ولكن موهبته هي التي صنعت منه مخرجا استثنائيا.

بداية سيرجيو في عشقه منذ الصبا لأفلام الويسترن الأمريكية، وتحديدا أفلام المخرج جون فورد، ووصل ولعه بهذه الأفلام الى درجة أنه كان يحفظ مشاهد بأكملها، ولكنه بدأ حياته بإخراج مشترك في فيلم تاريخي بعنوان “أيام يومبي الأخيرة”، ثم بفيلم آخر تاريخي أخرجه بعنوان “تمثال رودس”.

لم يحب أبدا هذه النوعية التي يطلق عليها أفلام “السيف والصندل”، لأن أحداثها تدور في زمن المحاربين اليونانيين والرومان، بملابسهم وصنادلهم ومعداتهم الحربية القديمة، كان ينتظر الفرصة لكي يقدم رؤيته الخاص لعالم أفلام الويسترن الأوربية التي تصور في أسبانيا وإيطاليا، وكانت البداية في فيلم “حفنة دولارات”، الذي جعل من كلينت إيستوود نجما سينمائيا، وكان قبل هذا الفيلم بطلا تليفزيونيا لحلقات تدور أيضا في الغرب الأمريكي، ولكن ما قدمه ليوني عن هذا الغرب كان إضافة مدهشة شكلا ومضمونا، وتأكد ذلك بفيلمين تاليين هما ” مزيد من الدولارات”، و” الطيب والشرس والقبيح”، ثم قد بعدها تحفته “ذات مرة في الغرب”.

من حيث المضمون، فإن أمير العمري يرى أن سيرجيو قد قدم عالم الويسترن بدون تلك الهالة الأسطورية التي ميزت أفلام الكاوبوي الأمريكية الشهيرة، كان المخرج الكبير يقول ببساطة إن الغرب قد صنعه بشر بسطاء مارسوا العنف من أجل المال، ولذلك جاء أبطال هذه الأفلام غير منتمين إلا لأنفسهم، وغير محملين بقيم مثالية، مثل إزالة الظلم، وتحقيق العدل، بل إنهم أقرب ما يكونون الى المتمردين الغرباء.

في مرحلة تالية، تبلورت بعض المواقف السياسية والإجتماعية عبر تلك الأفلام، بل إن سرجيو اعتبر أن عالم الغرب مدخل جيد لقراءة تاريخ أمريكا كله ، وربما لقراءة معالم الشخصية الأمريكية نفسها، ولذلك فإن هذا العالم تطور من صراع تقليدي بحثا عن الذهب والمال، الى صراع أكثر تعقيدا في فيلم “ذات مرة في الغرب”، فيلم “ذات مرة في الثورة”، ووصل به سيرجيو الى عالم العصابات وتحالفاتها مع النقابات ورجال السياسة في فيلمه الأخير “ذات مرة في أمريكا”.

من حيث الشكل، فإن اسلوب سيرجيو المذهل في استخدام أدواته، وفي بناء مشاهده، قد جعل من أفلام الويسترن تحفا سينمائية من الناحية الجمالية، ولعل هذا ما أسرني في البداية عند مشاهدة أعماله.

كان يعتمد على حوارات قليلة، واشتهر ببراعته في استخدام المونتاج واللقطات الكبيرة لخلق الجو، ولنقل شعور غير عادي بالتوتر، وكان يطيل من الزمن الفعلي للمشهد، لدرجة أن مشهدا افتتاحيا للفيلم يمكن أن يمتد الى دقائق طويلة، ميزته الكبرى في هذه الطريقة الكبرى في التعبير السينمائي الخالص والخاص، وكأنه يتأمل عالم الويسترن بعيون فنان تشكيلي أوربي، أما توظيفه للمؤثرات الصوتية، ولموسيقى الفنان العظيم إينيو موريكوني، فتستحق دراسات خاصة، وقد أستوقفت أمير العمري مشاهد بأكملها من الأفلام حللها باللقطة صوت وصورة وموسيقى، ولا شك أن أسلوب سيرجيو السينمائي يختلف تماما عن أساليب كبار مخرجي النوع الأمريكيين مثل جون فورد .

رغم أن سيرجيو استعان بممثلين أمريكيين في افلامه مثل كلينت إيستوود، وهنري فوندا، ورغم أنه قام بإحياء نوع الويسترن، إلا أن بعض النقاد الأمريكيين الكبار لم يرحبوا بأعماله، اعتبروها تشويها للنوع، وأخذوا عليها عدم الدقة التاريخية، وانتقدوا طول أفلامه المفرط، التي أدت الى الحذف من كثير من أفلامه، ومن دون الحصول على إذنه، ولكن السبب الأهم فيما أعتقد لهذا الإنتقاد، إدراك هؤلاء النقاد أن سيرجيو جرد الكاوبوي من الدفاع عن قيم مطلقة كالخير والعدالة، وأعاده الى أصله الواقعي بعيدا عن أسطورته، والحقيقة أن نظرة سيرجيو ليوني الى أمريكا عموما كانت مزيجا من الإعجاب والقراءة الأكثر عمقا للمجتمع، بكل صراعاته، وللشخصية الأمريكية، بكل عيوبها، ولا ننسى أن سيرجيو كان اشتراكيا، وكان قادرا على تحليل الصراع الإنساني على أساس المادة، وعلى أساس الحصول على الثروة، ثم تحليل الصراع في مرحلة تالية من أجل استثمار هذه الثروة.

ليوني مع روبرت دي نيرو بطل “ذات مرة في أمريكا” أهم أفلامه

يبدو لي أن سيرجيو ليوني قد وجد في أفلام الويسترن قماشة عريضة يستطيع أن يصنع منها ماشاء من الملابس المبتكرة، لم تكن تعنيه المسدسات والبنادق إلا باعتبارها تعبيرا عن العنف والقسوة، وعن البطل الغريب والمنعزل، وعن ثنائية فرضتها الظروف بأن تكون قاتلا أو قسا، كان الصراع في الجنوب الأمريكي الغربي، وفي صحراء أريزونا، وفي صحراء أسبانيا، انعكاسا للصراع الإنساني عموما مع الواقع، وفي رأي العمري أن غربة أبطال ليوني في أفلام الويسترن، وعدم معرفة اسم شخصية البطل، كل ذلك يحتمل دلالة الإغتراب الوجودي أيضا.

وصل سيرجيو بالنوع الى قمته، لدرجة اعتبر فيها فيلم” ذات مرة في الغرب” مرثية أخيرة لعالم الغرب، ولكن ليوني لم يترك أمريكا، وكأنها هي الفكرة الأساسية، ولذلك واصل دراسة الشخصية الأمريكية بعد الدخول الى القرن العشرين، وكان دوما فريدا سواء في معالجاته، أو في الشكل السينمائي الذي يختاره لتلك المعالجات، كان فنانا حتى النخاع، يمكنه أن يحكي لك الفيلم باللقطة، بل يمكنه أن يمثله أيضا، مثلما روي عنه المخرج الأمريكي بيتر بوجدانوفيتش، وكان إحساس سيرجيو بالحركة وإيقاع المشهد مذهلا، وفق شهادة مونتير أفلامه، وكان يعمل دوما مع موهوبين كبار، تارانتينو يقول في شهادته في الكتاب إنه تعلم الإخراج من فيلم “ذات مرة في الغرب”، ويقول إن أفضل تصميم مناظر وإكسسورات وملابس يمكن أن تراها في أفلام سيرجيو ليوني.

ربما يكون أجمل ما في هذا الكتاب الممتع أنه أعاد الإعتبار الى مخرج كبير، استبعده البعض من دائرة الكبار، لمجرد أنه قدم أفلاما تنتمي الى نوع سينمائي جماهيري، دون الإلتفات الى طريقته وإضافاته للنوع، ولطالما دافعت طويلا عن مبدعين كبار جدا قدموا أفلاما عظيمة ضمن سينما النوع، ولذلك سعدت كثيرا بأن مؤلف الكتاب يشير في مقدمته بكثير من التقدير والتحية لأفلام جيمس بوند والى سينما هيتشكوك، لا شك أن هذه الأعمال فنية بامتياز ، ولا ينقص منها أبدا أنها أفلام شعبية وجماهيرية، فالمعول عليه دائما هو طريقة الدراسة بالعمق، بالتحليل وليس بالحواديت، وكلها عناصر أساسية تميز منهج أمير العمري في قراءة الأفلام، سواء في مقالاته، أو في كتبه.

سيرجيو ليوني يشرح مشهدا لكلينت إيستوود

لعل درس ليوني، بالإضافة الى الدأب والبحث الدائم والعمل، في هذا الإرتباط بين الشكل والمضمون، وفي الإضافة الى الاثنين، هنا يمكن الحديث عن معيار واضح للعظمة: ألا يكون النوع كما هو بعد ظهور أفلام هذا المخرج، وأن تؤثر هذه الأفلام فيما بعدها من أعمال، كثيرون يرون أن سيرجيو صاحب تأثير مكتسح على مخرجين وأفلام كثيرة، بل إن بعض النقاد يتحدثون عن أفلام أخرجها باعتبارها إرهاصا بسينما ما بعد الحداثة.

حتى أيامه الأخيرة، كان سيرجيو يعد مشروعا عن فيلم بعنوان “لينينجراد” عن قصة حب بين صحفي أمريكي، وامرأة روسية، أثناء حصار مدينة لينينجراد في الحرب العالمية الثانية، وكان يحلم أيضا بإعادة إخراج الفيلم الشهير “ذهب مع الريح” من زاوية مختلفة، ولكن الموت لم يمهله لتحقيق هذه المشروعات.

رحل سيرجيو ليوني، صمت أخيرا مثل بطله الغامض، ولكن أفلامه ستعيش طويلا، ما بقي هذا الصراع بين واقع صعب وخشن، وإنسان حائر، يشعر بالوحدة والإغتراب.

Visited 5 times, 1 visit(s) today