ملفات فينيسيا (1): سورينتينو يتأمل
أمير العمري- فينيسيا
فيلم الافتتاح للدورة الـ82 من أعرق مهرجانات السينما في العالم، كان أفضل كثيرا من كل أفلام الافتتاح التي شاهدناها في الدورات العشر الأخيرة على الأقل. هنا لدينا فيلم جديد لباولو سورينتينو، الذي يمكن اعتباره أفضل المخرجين العاملين في السينما الإيطالية اليوم مع زميله ماتيو جاروني. وكلاهما وريثا التراث العظيم لأنطونيوني وفيلليني وتافياني، وإن كنت أجد أن فيلم سورينتينو الجديد “لا غراتسيا” La Grazia أقرب في الحقيقة إلى سينما المخرج المرموق إيرمانو أولمي.
الشخصية الرئيسية في هذا الفيلم هي شخصية رئيس “متخيل بالطبع” للجمهورية الإيطالية في الزمن المضارع. يقوم بالدور الممثل المفضل لدى سورينتينو “توني سورفيللو” الذي يبدو هنا أكبر من سنه الحقيقي، فهو يقوم بدور الرئيس الثمانيني “ماريانو” الذي لم يتبق أمامه سوى ستة أشهر فقط قبل أن يترك منصبه بعد سبع سنوات. خلفيته الثقافية كرجل قانون محافظ، كاثوليكي، يمثل القيم الأصلية للحزب الديمقراطي المسيحي، وتشبثه بأفكار شديدة الجمود من دون أن تنحرف إلى اليمين المتطرف بل إننا نشاهد كيف يستقبل عند ظهوره في المناسبات العامة بصيحة تشير إلى أنه “خلص البلاد من رجل يميني متطرف”، وإن كنا لا تعرف بالضبط كيف؟ هل بعد أن تفوق عليه في الانتخابات، أم لسبب آخر.

المهم أن الرئيس الذي لا يعرف أنهم يصفونه في كواليس الحياة السياسية بل وحتى داخل القصر الجمهوري نفسه بأنه “عمود الخرسانة المعزز”، وعندما يسمع التسمية من ياوره الخاص، لا يعرف ما إذا كان هذا على سبيل التقدير أم التهكم. إنه يحتاج دائما إلى “التأمل” أي التفكير العميق، قبل أن يتوصل إلى أي قرار بأي شأن. وهو ما يتسق مع شخصية القاضي الذي يجب أن يتوخى الدقة وهو يصدر أحكامه.
إلا أن الزمن أصبح يسبقه الآن. وأمامه قانون تلح عليه ابنته “دوروتي” وهي مستشارة قانونية له، أن يوقعه لكنه يريد أن تمهله وقتا لكي “يتأمل”. هذا القانون يتعلق بإقرار “الموت الرحيم” في إيطاليا أو بالأحرى “القتل الرحيم”. أما صديق عمره “أوغو” فهو من جانبه يطالبه بالعفو عن سجينة تمت له بصلة قرابة، محكومة عليها بالسجن بعد إدانتها بقتل زوجها الذي يقال إن حالته الصحية كانت قدد بلغت حدا لا شفاء منه. ولكن المشكلة الآن أن أوغو هذا أعلنها صراحة له، أنه سيسعى إلى الترشح لكي يحل محله في مقعد رئاسة الدولة. ولكن هناك مشكلة أعقد كثيرا من هذا.
وهو على مشارف التقاعد، وبعد أن بلغ من العمر أرذله كما يقولون، أصبح يسترجع الماضي، ماضيه مع زوجته التي رحلت منذ ثماني سنوات، والتي أحبها وأغرم بها في شبابه من أول نظرة وظل حتى اليوم، يهيم بها حبا، وهو ما يتضح من خلال مشاهد الفلاش باك التي يشبعها سورينتينو ويرتد إليها من خلال كاميرا تصنع صورا ناعمة، رقيقة، بالحركة البطيئة، تفيض بالعذوبة والجمال.. من دون أن يجعلنا نرى وجه الزوجة الراحلة قط، بل نراها كشبح رقيق يتحرك في الأفق، وسط الطبيعة الساحرة، كأنها ملاك من الملائكة.
ورغم الحب الشديد الذي يجعل الحزن على رحيلها عن حياته لا يمكنه أن يفارقه لحظة واحدة، إلا أنه في الوقت نفسه، لا يستطيع قط أن ينسى أنها كما يعتقد “خانته” مع رجل آخر يشك هو في أن يكون هذا الرجل هو صديق عمره نفسه “أوغو”. وهو يضغط على صديقته وصديقة زوجته المقربة، “كوكو” يريدها أن تخبره باسم ذلك الرجل الآخر، لكن “كوكو” تتلاعب به وتقول إنها لن تبوح بالاسم قط. وعندما يبدو أنها ترغب في النهاية بعد ان يكون قد غادر منصبه فعلا، أن تريحه تقول إن الشخص الذي خانته معه زوجته هي كوكو نفسها، لكنه لا يصدقها.
شخصية الرئيس التي أداها بعبقرية توني سيورفيللو، ليست شخصية جامدة، متزمتة، بل هو رغم التزامه بالقيم التقليدية، وتفضيله مبدأ “الشك” الذي يرى أن كلمة “لا غراتسيا” تتضمنه، أي الشك الذي قد يفيد المتهم، إلا أنه في نفس الوقت، يمتلك القدرة على التعامل مع القريبين منه بكل أريحية وتواضع وبساطة.. هو هكذا مع الجميع. بل إنه يغني مع الجنود القدامى العجائز من فصيلة حماة الجبال، عندما يحضر احتفالهم الخاص، ويضع السماعات على أذنيه ويستمع لأغاني الراب تحديدا.

لديه ابن ناجح أصبح مؤلفا موسيقيا يقيم في كندا، ويتناول السجائر “المغموسة” التي يقدمها له ياوره الخاص، وينفتح كثيرا على قائد حرسه الخاص، العجوز الذي ينتمي إلى نفس جيله ربما. لكنه مع ذلك يظل حائرا. وعندنا يريد أن يستجيب لإلحاج ابنته بشأن قانون القتل الرحيم يذهب بنفسه الى السجن حيث يوجد الرجل الذي قتل زوجته التي كانت مريضة تتعذب، ويستمع إليه. وهو موقف من أهم واقوى مواقف الفيلم كله.
الرجل كان معلما ناجحا، وقد قتل زوجته ليخلصها كما يقول من مشاكلها المزمنة أي انطلاقا من حبه الشديد لها، وقد اعترف واقر بجريمته بل ورفض أن يلتمس العفو. ولكن الرئيس سيعفو عنه بعد أن أدرك أن دافعه كان الحب، كذلك سيمنح المرأة التي قتلت زوجها العفو بعد أن تكون ابنته قابلتها ولمست منها كيف أن قتلها لزوجها كان بسبب حبها الشديد لرجل آخر، وهذا الرجل نراه ينتظر أمام بوابة السجن كل يوم لعلها تخرج وتعود إليه. بل أن دوروتي الابنة تكتشف بعد لقائها المباشر مع تلك السيدة، كم أن حياتها هي نفسها فارغة من دون الحب.
“لا غراتسيا” فيلم يدعو للتأمل، يدفع إلى التفكير واستدعاء المكنون الكامن داخل النفس. إنه أشبه بلحن رقيق طويل، موسيقى الروج التي تدفع إلى التأمل. وهو أيضا فيلم عن الشيخوخة وعن الشعور القاسي بالوحدة، بعد رحلة الحياة الطويلة، وهل كان يجب أن يتخفف المرء من أثقالها مبكرا قبل أن يتأخر الوقت، ويصبح الحمل أكثر ثقلا؟

ماريانو يقابل البابا ويشكو له من عذابه الشخصي بسبب شكه في زوجته الراحلة، ويبدو البابا (الذي يجعله سورينتينو هنا رجلا أسود من أصول إفريقية يتجول في أرجاء الفاتيكان بواسطة دراجة نارية!) أكثر قدرة على التعامل مع الحالة بتفسير بسيط للغاية، فهو يخبره أن حياته أصبحت ثقيلة محملة بالكثير من الأحمال، في حين أنه يتطلع إلى “الخفة”. أي استحالة الجمع بين المتناقضات، ثم يتركه ويبتعد بدارجته النارية!
هذا فيلم عن الحب عندما يستبد بنا ولا نستطيع أن نجد له فكاكا، الحب في الحياة، وبعد الموت، وهو أيضا عن الذاكرة والماضي وعلاقته بالحاضر، وعن كيف يمكن أن يواجه المرء نفسه ويعيد تأمل مسار حياته وربما يتخذ القرار الذي عجز عن اتخاذه لسنين طويلة، فيسترد راحة القلب أو بعضا منها. لأن تركيبة الرئيس كما نشاهده، وكما يجسده سورينتينو وبطله سورفيللو، في هذا العمل البديع الذي لا يقلل منه سوى بعض الإسهاب والاستطرادات في المشاهد الأخيرة، هي تركيبة مركبة، ستظل باستمرار تطرح التساؤلات.
من الملفت أيضا أنه خلال حوار مع ابنته تقول له إنه ربما يخشى رد فعل البابا في حالة توقيعه على قانون القتل الرحيم فيقول لها إنه لا يأبه لذلك لأن البابا مسؤول أمام الله، أما أنا فمسؤوليتي هي العمل طبقا لدستور البلاد. وليت جميع الرؤساء يتعلمون احترام الدساتير التي وضعتها شعوبهم، ويتركون ما لله لله!

