مع من تنام؟ بمن تفكر؟ عيون مغلقة باتساع الحلم

توم كروز في لقطة من الفيلم توم كروز في لقطة من الفيلم

فلسفيا نكون امام صورتين لتحقق سينمائياً، صورة التأمل الذاتي العميق الذي يمكن تسميته بالفلسفة الشخصية للمبدع، والصورة الانتمائية التي يكون فيها المبدع مواليا لاتجاه فلسفي آخر، ووفيا لمقولاته وافكاره ويتمثلها في اعماله وهو ما يمكن ان نسميه بالفلسفة التأثرية، واما ما سوى هاتين الصورتين فليس سوى ادعاء فارغ لا علاقة له بالفلسفي من قريب او من بعيد.

وهذا ما يفرغ الوعي السائد من امكانات الدخول في هذا الاتجاه لان رؤية الوعي السائد والاداء الناتج عنها انما تتمحك بالفلسفي ثقافياً لإكساب اعمالها عمقا غير موجود فيها رؤية ووعيا ومعنى هذا ان الفلسفي ايروتيكيا وغير ايروتيكي انما هو حكر على الوعي الخلاق، أي انه مقصور على المبدعين الكبار في السينما العالمية، وهم قلة قليلة في عموم تناولهم الفلسفي، وهم اقل في ايروتيكية الفلسفي في وعيهم واعمالهم.

ولعل الفصل بين الصورتين غير واقعي بالمرة، فالشخصي مبني على التأثري، كما ان التأثري لا يخلو مهما كان ملتزما من بصمة الشخصي، والمعيار في التفرقة هنا انما هو هيمنة احدى الصورتين على الوعي دون الغائها للصورة الاخرى، فعلى مستوى الفلسفي الشخصي يقف موقف (كوبريك) من الجنس في مجمل اعماله ليؤسس لمقولة شخصية وإن كانت ذات جذور غائرة في الفلسفة اللاهوتية، لا سيما تجذيرها الأخلاقي لفكرتي الشر والخطيئة وعلاقتهما بالجسد.

ومن هنا كانت سخرية (كوبريك) من الجنس وخوفه منه باطناً، ينتميان إلى تلك الجذور ولكنهما يمتّان بصلة اكبر إلى نفس (كوبريك) وتأمله، فقد تجاوز (كوبريك) حلول الفلسفة الدينية لقضية الشر والخطيئة ومقولتها في ايروتيكية الجسد ليوجد حلوله الخاصة، مركزا على فشل الروح في التماهي مع الرغبة ومعبرا بعمق عن الصفة الايروتيكية للوجود والتي تتناغم مع صفة نقيضة اخرى هي الفوضوية والعدمية فكأن الحياة وفقا لكوبريك محكومة سلفا بالمصير القاتم وان محاولة الجنس انقاذها فرحا او تناسلا، انما هي دليل على هشاشة الايروتيكي وامتلائه بالعدمية.

غير ان تطور وعي كوبريك الفلسفي قاده في آخر افلامه (عيون مغلقة باتساع) إلى ما يشبه المراهنة ربما بسبب تقدمة في العمر، على قدرة الايروتيكي على اضفاء المعنى على الوجود أي انه صار قادرا على تجاوز العدم واعادة الثقة بمصير افضل لوجود الانسان، دون ان يخفي تشاؤمه من المحيط الذي يحرف الايروتيكي عن اتجاهه الانساني ومعنى هذا ان رهان كوبريك الفلسفي مشروط بالتغيير الشامل للبنى المنتجة للايروتيكا واعادة صياغته للوعي الحضاري والقيم التي تسيره وتنتجه وهذا ما يقود ضرورة إلى فحص و سبر المعطى الفلسفي العام من اجل ايجاد فلسفة اكثر حيوية تعطي للايروتيكا مكانة اعلى في سلم قيمها من حيث هي فعل انساني فلسفي وليس من حيث هي استهلاك غريزي فاقد للاتجاه ومؤسس على ركائز الوهم النفسي والمصالح الخفية للسلطة الاجتماعية والسياسية والثقافية وعلى المستوى الشخصي ذاته، ولكن على نقطة نقيضة يقف (لويس بونويل) الذي يختلف عن كوبريك في فوضويته، وان اشتركا معا في شكهما بالبنى السائدة وسعيهما إلى كشف زيفها.

في فيلم (عيون مغلقة باتساع) يراهن (ستانلي كوبريك) على جهتين: ـ نقض الفرويدية بمقولاتها والمخاطرة الاسلوبية في تحقيق النقض، فعلى الجهة الاولى يختار قصة (آرثر شنتنرلر) وهو صديق فرويد ومتأثر بمقولاته، لتكون اساسا لموضوع فلمه، واما على الجهة الثانية فيقوم بتحويل اتجاهات الاداء اسلوبياً، بعد اعادة صياغة القصة ليخفي معالم الفرويدية تماماً، فضلا عن إخفاء معالم القصة الاصلية ذاتها، وكوبريك هنا يثبت استقلالية وعيه ورؤيته حتى عندما يتعامل مع نصوص ادبية مستقلة لها وعيها ورؤيتها وهو نفسه ما فعله مع (لوليتا) ناباكوف ومع (البرتقالة الميكانيكية) لبيرجس، غير ان خصوصية (عيون مغلقة باتساع) تأتي من فرادة فكرته وجرئتها فضلاً عن الاسلوب التحويري المثير الذي صاغ كوبريك رؤيته من خلاله.

تيكول كيدمان الزوجة التي تطاردها الهواجس

ينبني (عيون مغلقة باتساع) على فكرة قاسية هي فكرة مع من تنام؟ وبمن تفكر؟ وهي فكرة لمح لها كازانتزاكي في رواية زوربا، وعرض لها كولن ولسون في مفكرته الجنسية ولكن كوبريك لا يقولها بالطريقة ذاتها كما انه لا يقولها مطلقاً، لأنها من المسكوت عنه، الغائب رغم حضوره الدائم في بنية الوعي كما في بنية الفيلم.

لقد نقل كوبريك الاحداث من فيينا في اواخر القرن التاسع عشر إلى نيويورك في اواخر القرن العشرين ومنح هذا النقل عناصره الفنية، ولكنه قبل ذلك اراد من خلاله الخروج من رؤية شينتزلر إلى رؤيته هو وفقاً لما خططه لهذه الرؤية ، فقد تحولت الموضوعة الرئيسة من براعة فنية في توظيف التحليل النفسي للكشف عن الجو الداعر الذي تعيشه فيينا في خواء روحي تام يتوافق مع الخطوات الاخيرة لسقوط الامبراطورية النمساوية بوصفها نمطاً سياسياً حضارياً، إلى احتواء ناقد لطغيّان الجنسي وتشويهه في البناء النفسي للإنسان المعاصر، وسيادة القيم الوهمية التي اغرقت سلطة الحضارة بها المجتمع، والتي تتكشف هشاشتها عند اول مواجهة حقيقية مع الذات ففيلم “عيون مغلقة باتساع” هو بيان فني لقضايا متداخلة، فهو بيان عن هشاشة الانسان وانكساره وبيان عن انقطاع حواره الحقيقي الانساني مع جسده فضلا عن الآخر، وبيان عن سطوة الفراغ الروحي الذي اسسته البنى المتسلطة في سيرها المتسارع نحو اعادة صياغة الواقع والوعي به بطريقة لا انسانية الامر الذي افضى إلى البحث عن الاساطير والارتكاس نفسياً إلى طفولة العقل البشري ، وهو بيان متفرد تماما عن محنة الجسد المألوف في حضارة تسلع الجسد وتقتل فتنته واغواءه الروحي.

فمنذ مشهد البداية، عندما يسقط ثوب البطلة (نيكول كدمان) لتصير عارية في لحظة، يكشف (ستانلي كوبريك) عن خصوصيته في تعرية الوهم الفرويدي حضارياً، ليفنده دون ان يقدم بديلاً سوى الحب، ذلك الاله الممتهن في لغة فرويد، التي هي لغة سلطة الرأسمالية ووعيها.

الإيروتيكا في الفيلم مبثوثة في كل مكان، فهي حمى العصر، ولغته السائدة وخطوط الحوار عقلياً لا تنتهي الا اليها، ولذا فان صاحب الحفلة (سيدني بولاك) يترك ضيوفه ليمارس الجنس مع ملكة جمال سابقة تتعرض لنوبة اغماء بسبب ادمانها، والطبيب (توم كروز) محاط بشابتين تكادان تغتصبانه علانيةً فيما زوجته تقع صدفة، ولكن بالوعي الايروتيكي الشائع نفسه، تحت اغراء ملح من شخص في الحفل. تلك هي عناصر المقدمة التي تعجز رواية (شينتزلر) عن مقاربتها، لأن روح العصر الإيروتيكي هي التي اختلفت فأيروتيكية ( فيينا) لا تدعي لنفسها هذا الضرب من العلمية والعقلانية، وانما تؤمن بإباحيتها وتفسخها، أنها ايروتيكية متصالحة مع ذاتها ولا تعاني وهماً علمياً يدعي سبر الاغوار العميقة كما تدعي ايروتيكية عصرنا، تحت سطوة خطاب اعلامي مذهل موجه علمياً وتطبيقياً لخدمتها، ان ايروتيكية عصرنا تكتسب مشروعية عقلية وتأخذ مكاناً ليس لها لأنها، وهذه رؤية كوبريك، تدعي الاختلاف في العلاقة الجنسية فيما ان رد كوبريك العميق هو انه لا يعتقد ان العلاقة قد تغيرت فعلياً وجذرياً بين الرجل والمرأة جنسياً، إن ما تغير حقيقة هو الاغطية الوهمية في علمويتها وادعاءاتها، وهي ليست الا وسائل قمع وتشويه حضاري غير مسبوقة، وتمتلك حيزاً من العنف المنظم العقلاني يجعلها في منأىً عن النقد لأنها ظاهرياً تملك قوة امبريقية (تجريبية مقيسة في المختبر احصائياً) فهي إذاً علمية ،كما هو الفكر الاجتماعي السائد، وهو ما يعممها بوصفها خديعة اجتماعية عامة، متضمنة حضوراً لآلهة الجماهير الجديد: الاحصاء العلمي.

ينتهي المدخل الإيروتيكي في مقدمة الفيلم بالكشف عن هشاشة الطبيب ومستوى تعقد المحيط لتبدأ الرحلة الاقسى في استعدادات الزوجين لممارسة الجنس بعد عودتهما إلى البيت، ان (كوبريك) يعي محنة زوجين (يستعدان) لممارسة حوارهما الجسدي، لأنه يدرك ان هذا الحوار الطبيعي الذي يرفض الاحتفال بغيره ويموت عندما نستعد له، اكتسب طقوسية في ايروتيكيتنا المعاصرة، ومن أهم عناصره هذه الطقوسية هي الاستعداد له ولعل من المرعب، انسانياً، ان نستعد له بتغييبنا، فالزوجان يعدان لفافة مخدرات مقدمةً لحوارهما المفترض انه روحي. وهذه النقطة تعني اننا نلغي الحوار ذاته عندما نلغي ذواتنا، في سعينا المحموم لكسر قيودنا والابحار في الوهم، ولعل من المرعب ايضاً ان يقودنا هذا الالغاء إلى الحديث عن الاجساد الاخرى فيما نحن نحتفي بعرينا، فالزوجة وربما تحت تأثير لفافة المخدرات او لرغبة فضولية تسأل الزوج: هل مارست الجنس مع الفتاتين في الحفلة؟

وفي رده يومئ إلى وقوفها مع الرجل الانيق في حلبة الرقص، لينفتح  باب النفس المغلقة تحت مظهر الصراحة والحب والاطمئنان فالزوج بهشاشته وبثقة طبيب وسيم ناجح بنفسه، يقول انه كان مطمئنا إلى انها لن تخونه وهو ما يثير غضب الزوجة  لتحوك خيوط لعبتها عندما تحدثه بهدوء واستمتاع اقرب إلى الحلم عن استيهاماتها الجنسية وحلمها بمضاجعة بحار رأته يوما وانها عندما تنام مع زوجها ،تتصوره ذلك البحار وينقطع الحوار برنين هاتف يستدعي الطبيب على عجل ولكن المخيلة، لعنة الانسان وقوته المميزة لا تقطع حوارها، وينكسر في وعي الطبيب عنصر ثقته بذاته لا بزوجته ويفتح عيونه باتساع على هوة لا مثيل لها (رغم انها ممكنة الحدوث)، غير ان إيروتيكية عصرنا تجعل منها طردا من الجنة وفقدانا للإله فاذا كان الجنس إله حضارتنا والقيمة العليا في خطابه الاجتماعي في تجلياته السلطوية والثقافية فان خسارة الانتماء اليه تعادل الضياع وفقدان الذات.

من مشهد الحفل

والطريق الوحيد لاستعادتها هو الايغال في عبادة هذا الاله وترضيه عسى ان يعيدنا إلى رحبته، ولذا انطلق الدكتور في ظل مشهد متخيل سائد عن مضاجعة زوجته والبحار، في حمى البحث عن الجسد، عند المومس والصديقة وفي المخزن والعيادة، وفي طقوس سرية تعلي من الوهة الجنس، ولذا يطرد منها بعد ان تفتديه امرأة بحياتها، انها ساحة الوعي المفقود الساعي إلى الأسطرة بكل الطرق، والذي هدم آلهته بيديه وافتقدها وصار يخلق كل حين الها جديداً ويعبده، وكان إلهه في عصرنا هو الجنس او عقيدة هزة الجماع كما سماها (كونديرا).

ان كوبريك يسخر من الفرويدية لا بوصفها اتجاهاً علميا في التحليل، بل بوصفها اسطورة شعبية، تعوض الانسان عن الهه المفقود وتعيد صياغة اساطيره دون ان تمتلك في ذاتها قوة الالوهة او غنائية الاسطورة، كما يسخر كوبريك من تأسيس الخطاب الاعلامي بوصفه ثقافة شعبية، على هذه المقولات التي لا تتميز بالثبات ولا بالشمول التحليلي، فمحنة الجسد المألوف الفاقد لبثه الايروتيكي لا تعدو ان تكون اكذوبة اعلامية صاغتها المؤسسة لتأليه الجنس وتسليعه لأنها افرغته من روحيته (فانتفى طعم الكشف المتواصل)، الذي يتحدث عنه (اوكتافيو باث) بكل تبجيل، فاذا كانت الرغبة في معرفة الآخر واكتشاف ما يخفيه تحت ثيابه ومن ثم تحت جلده (عبر الايغال في الاتصال به) هي أصل الدافع الجنسي كما يرى (كولن ولسون)، فان تسليع الجسد هو افقاد لسره العظيم في تغطية ذاته كلما انكشف بمعنى انها انهاء لقدرة الجسد الخارقة ذات المبنى الروحي، على تجديد وجوده حتى على المستوى البيولوجي في العين العاشقة، الأمر الذي يبقيه موضع الفة واكتشاف في آن معا من خلال جدل الغائب والحاضر، والمألوف والغامض، التي هي وجوه الجدل الاصلي العميق بين الروحي والجسدي في تبادلهما النصي الذي يضفي على كل منهما عناصر الاخر نصياً مما يجعل الروح مجسدة والجسد (مروحاً) ويكسر ملل العادة التي هي الأس في محنة الجسد المألوف، فمحنة الجسد المألوف تولد من اعتقاد الطرفين انهما طرفان في حين انهم ثلاثة، لأن الايروتيكا بوصفها فعلا انسانيا هي الطرف الثالث الذي يهمله هذان الطرفان، مع ان حوارهما لا يتحقق الا بوجوده، وهذا الوجود، بأكثر صوره التعبيرية ابتذالا وصراحة، وفي الوقت نفسه اكثرها انسانية، هو ما ختم به (كوبريك) رؤيته المذهلة في (عيون مغلقة بأتساع) فالزوجة التي قادها انهيار زوجها إلى الانهيار لا تجد حلاً الا في ممارسة الجنس لذا تدعو زوجها إلى نسيان كل شيء واعتبار ما جرى بكل رعبه وحكمته حلماً، وفعل ما يجب عليهما فعله وهو ممارسة الجنس وإعادة الثقة بالجسد الانساني المألوف الهش القابل للانكسار والموت بوصفه خشبة النجاة الوحيدة في غياب القيم وانهيار المبنى الروحي وسيادة الإيهام الايروتيكي نفسياً.

زوجة متشككة

لقد هشم (عيون مغلقة باتساع) بنية الحلم الفرويدي عندما كشف كابوسيته، لان تماهي هذه البنية مع الواقع المشروط بها لم يكن تماهياً انسانيا بل هو خدعة قاتلة تسعى إلى استنساخ الإيروتيكي عبر افراغ جسده من خصوصيته وتحويله إلى دمية ثم بناء القيم الموازية لهذا التحويل. بمعنى آخر لقد كشف (كوبريك) ان محاولة صياغة العالم وفق رؤية النفس انما هي تزوير لهذا العالم وتشويه لروحه، لان هذه الرؤية تهمل هذه الروح وتعزلها وفق مقولات واهمه كما انها تقتل عناصر الاختلاف فيها من خلال حمى العمومية.

ومن هنا، كان تركيز الصورة ذات المبنى الفرويدي في فيلم عن الجنس الجماعي المرئي، أي تعميم رعشة اللذة ولغة الجسد وجعلها ثقافة وضرباً من التعليم وليست اسلوبا في اكتشاف الذات والتعبير عنها لقد صارت الممارسة الجنسية مقننة ولها استعداداتها وتقنياتها وشروطها وذلك كله من ايهام النفسي الذي اراد ان يلغي فرادتها عبر هذا التعميم، التعبيرات واحدة وطرق الجماع واحدة، والتمهيدات واحدة، ولا يتحقق هذا الا بالمرئي، المدعم علمياً بالنفسي منطلقاً من محنة الالفة والملل (ساعيا إلى ابتكار تقنيات جديدة تهمش الجسد تكسر روحانيته في اللحظة نفسها التي تعتقد فيها انها تعليه) لأنها فريسة الوهم العام ذي المبنى النفسي الذي جعل كينونة الذات لا بتحققها وايجابيتها بل بوهم تحققها الخادع.

Visited 74 times, 1 visit(s) today