مسلسل “عمر أفندي”.. وثلاث رسائل كارثية مضمرة!

لا أميل إلى استخدام تعبير “فكرة مستهلكة”، لأن الاستهلاك يعني الاتلاف والاستنفاد بالاستعمال، وينطبق هذا على السلع المادية بنحو أكثر، أما الفكر فلا يُستنفد بالاستعمال، بل على العكس ربما يتم إثراؤه بالاستعمال، ويناسبه بالأحرى تعبير “تجديد الفكر” أو “خصوبة الفكر”. ينطبق هذا على فكرة “السفر عبر الزمن” ، وهي فكرة كلاسيكية عرفتها السينما العالمية من خلال رواية هـ. ج. ويلز “آلة الزمن” التي نُشرت عام 1895 وتحولت إلى فيلم سينمائي أخرجه جورج بال عام 1960. وتوالت بعد ذلك الأعمال الفنية التي تناولت فكرة السفر عبر الزمن، ومن أشهرها سلسلة أفلام “العودة إلى المستقبل” التي بدأها المخرج الأمريكي روبرت زيمكس عام 1985، وأفلام كريستوفر نولان، المهووس بفكرة الزمن ،Inception و Interstellar وTent

 وفي المقابل، لم تعرف السينما المصرية فكرة السفر عبر الزمن إلا في أعمال قليلة، أبرزها فيلم “الرقص مع الشيطان” الذي أُنتج عام 1993 و”سمير وشهير وبهير” الذي عُرض عام 2010 و”الغسالة” الذي عُرض عام 2020. وفي الدراما المصرية نجد مسلسل “الصفارة” من بطولة أحمد أمين، ومسلسل “جت سليمة” من بطولة دنيا سمير غانم، وكلا المسلسلين عُرضا عام 2023.

يُلاحظ، خلافا للأعمال العالمية، سيطرة الخيال الأسطوري، لا الخيال العلمي، على الأحداث. فالسفر عبر الزمن في مسلسل “الصفارة” يتم عن طريق صفارة توت عنخ آمون التي تملك القدرة على تغيير الواقع، وفي مسلسل “جت سليمة” يتم السفر من خلال كتاب قديم يعيد الشخصية إلى الماضي. وفيما يبدو، فإن السبب في ذلك يرجع إلى أن العقلية العربية تميل إلى الخرافة أكثر من العلم في تفسير الظواهر، وتحن إلى الماضي أكثر مما تتطلع إلى المستقبل!

وفي سياق دراما السفر عبر الزمن يأتي مسلسل “عمر أفندي ” الذي أخرجه عبد الرحمن أبو غزالة، ومن تأليف مصطفى حمدي، وقام ببطولته أحمد حاتم وآية سماحة، وعُرض على منصة شاهد في أغسطس الماضي.  تدور الأحداث حول شخصية علي (أحمد حاتم) الذي يعاني من الخلافات الزوجية مع زوجته ماجي (ميران عبد الوارث) بسبب الفوارق الطبقية التي بينهما، وعقب وفاة والد علي، يكتشف علي سردابا سريا في منزل العائلة يعبر به إلى عام 1943. ومثل باقي الأعمال الدرامية المصرية الأخرى لا يكون السفر عبر الزمن باتجاه المستقبل، ولكن باتجاه الماضي، لأن الحنين إلى القديم هو المسيطر على العقل وليس الطموح العلمي المتطلع إلى المستقبل، غير أن “عمر افندي” يختلف في كونه لا يقدم تفسيرا، ولو خرافيا، لإمكانية العبور عبر الزمن، وإنما يكتفي بوجود سرداب سري يمكن من خلاله أن تعبر الشخصيات بين الماضي والحاضر، وهي طريقة تذكرنا بالمسلسل الألماني Dark  لكن هذا الأخير كان مهتما بفكرة الزمن بحد ذاتها، وبالتالي نجح، خلال أربعة مواسم، في اقتحام كل الإشكاليات الفلسفية التي يمكن أن تثيرها فكرة السفر عبر الزمن.

والمسألة تختلف في “عمر افندي” لأن الرجوع إلى الماضي كان بمثابة الهروب من الحاضر بالنسبة لشخصية علي الذي كان يهوى الرسم بينما زوجته ووالدها كانا يديران شركة كبيرة ويهتمان بعقد الصفقات وجمع المال. فالصراع التقليدي قائم بين القيم المادية والقيم المعنوية أو الروحية. تأكد ذلك عندما وجد علي نفسه في عام ١٩٤٣، وشعر وكأنه خُلق لهذا الزمن وأنه ينتمي أكثر لهذا العصر بالرغم من أنه بدأ رحلته بحادثة كاد يفقد حياته فيها أثناء تنفيذ إحدى العمليات الفدائية ضد الانجليز الذين كانوا يحتلون البلاد في هذا الزمن.

والواقع أن حنين علي إلى الماضي إنما هو، في التحليل الأخير، حنين صنّاع العمل وحنين المشاهدين للقديم، لحياة أخرى أفضل، حياة سحرية أكثر بساطة وهدوءا بحيث يمكن للفرد أن يحقق أحلامه البسيطة دون أن يُتهم بالجنون من قبل الآخرين، المقربين بخاصة! وتمشيا مع هذا المنطق تعرّف علي على لمعي (محمد عبد العظيم) الذي كان يدير بيت للدعارة، وأحب زينات التي كانت تعمل راقصة في أحد المسارح، واشتغل هو ساحرا في المسرح نفسه. إن الماضي بالنسبة لعلي كان تحررا من ربقة الحاضر الذي احتلته المادة وقضت على مواطن الجمال فيه، لكنه كان تحررا على المستوى الفردي لم يحقق لعلي سوى إشباع رغباته الذاتية في الحب والفن، أما عن الواقع الموضوعي فلم يتغير فيه شيء، لا في الحاضر ولا في الماضي إلا على المستوى الفردي أيضا.

إن العودة للماضي في دراما السفر عبر الزمن، كانت ترتبط دائما بفكرة تغيير الحاضر عن طريق تغيير الماضي، وهو ما لم يتحقق في “عمر افندي”. فليس من تغيير في الماضي سوى التخلص من شخصية أباظة (محمد حافظ) الشريرة، والسعي الى تزويج دياسطي (مصطفى أبو سريع) من الفتاة التي أحبها ووقف والدها في طريق هذا الزواج. وليس من تغيير في الحاضر سوى في اكتشاف علي ملكيته للمشروع الذي يديره حماه بزعم أنه من أملاكه هو الخاصة، حتى أزمة صديقه صبري (أحمد سلطان) الذي أخلص لفنه وعجز عن تحقيق سعادته الشخصية على المستوى العاطفي والاجتماعي لم تجد لها حلا حتى النهاية!

فالماضي بالنسبة لعلي كان بمثابة الحلم، أو المخدر الذي دأب على تعاطيه كلما ضاقت به سبل الحاضر، ساعد على ذلك فكرة السرداب التي تجعله يتحرك بسهولة عبر الزمنين، الماضي والحاضر، وتأكد ذلك في نهاية المسلسل عندما قرر، فيما يشبه الإدمان، أن يعود لنفس الزمن مرة أخرى بعد أن  استقر في الحاضر، لكنه عاد إلى الزمن الخطأ عام ١٩٤٢، أي قبل الزمن الذي ألف الناس فيه بعام، ما جعلهم يشعرون بالاغتراب تجاهه، لأنهم بحساب السنين لم يعرفوه بعد، في إشارة إلى أنه سيعيد الكرة مرة أخرى في رحلة تشبه أسطورة سيزيف، أو أن للمسلسل جزء ثان.

أهم ما يميز المسلسل أنه نجح في تجسيد أجواء الأربعينات من خلال الإضاءة والملابس والديكورات، وكانت هذه الأجواء أحد الأسباب المهمة التي جذبت المشاهدين إلى متابعة المسلسل، خاصة هؤلاء الذين يستشعرون الحنين إلى الماضي ويرغبون في استعادته، فالسرداب السري الذي كان بوابة للعبور بين الماضي والحاضر بالنسبة لعلي، الشخصية الرئيسية في العمل، كان كذلك بالنسبة للمشاهدين. والحقيقة أن كل واحد يملك سردابه الخاص الذي يمكنه أن يدلف من خلاله إلى ماضيه السحري الذي ينتمي إليه وحده ويحمل تاريخه الخاص. هذا السرداب هو ذاكرتنا الشخصية التي نفتحها، ككتاب ألف ليلة وليلة، متي شئنا كي نفر من عناء حاضر بائس إلى ماض ساحر يختلط فيه الواقع بالخيال.

لذلك، ينبغي أن نتساءل: لماذا اختار صنّاع العمل العام 1943؟ هل كان هذا الزمن تحديدا يحمل أجوبة لمشكلات الحاضر؟ أم أنه يحمل من السحر والجمال ما يجعله بمثابة المدينة الفاضلة أو الفردوس المفقود الذي يبحث عنه الحيارى والضائعون، هربا من حاضر قاس لا يرحم؟ في الحقيقة، إن المتأمل للسمات التي ميزت الحياة في هذا الزمن لن يعثر على إجابة مقنعة لهذه التساؤلات، لأن المؤلف اختار لعالمه الدرامي، من عناصر هذا العصر كل ما هو سلبي، وكل ما لا يصلح لأن يكون حياة آمنة مستقرة، فضلا عن أن يكون مدينة فاضلة. إن عالم 1943 الذي اختاره المؤلف، هو عالم ليلي، يغلب عليه جو الأنس والفرفشة، في معظم المشاهد، الغارق في إشباع الرغبات الحسية، حيث نجد انتشارا للمسارح ودور اللهو وبيوت الدعارة المرخصة، في إشارة إلى مشروعية اللهو وممارسة الرذيلة! وهي المشروعية التي عمل المسلسل على تأكيدها من خلال شخصيات شريرة خفيفة الظل مثل شخصية لمعي، القواد الذي يدعو إلى الرذيلة بشكل كوميدي لا يجعلك تشعر بالذنب. ويمكن أن يقال الشيء نفسه عن شخصية شلهوب (محمد رضوان) اليهودي المرح الذي كان يعيش في مصر هربا من بطش الألمان. فهي شخصية لا تخلو من خبث، لكنها تملك من روح الدعابة ما يجعلك تتعاطف معها وتستسيغ فكرة التطبيع تحت مظلة التعايش الإنساني المشترك!

وفوق هذا وذاك، تأتي مشاهد جنود الاحتلال الإنجليزي بنحو كرتوني مضحك، يوحي للمشاهد بألا خوف حقيقي منهم، وأنهم كانوا جزءا طبيعيا من هذا العالم السحري الذي كان يجمع كل هذه الأضداد تحت مظلة كاذبة من التعايش السلمي الذي يحقق للجميع العدل والأمان. ليس هذا فحسب، بل إن المسلسل يجعل العدالة تتحقق على أيدي جنود الاحتلال عندما يقبضون على أباظة، الشخصية الشريرة التي كانت تكدر صفو الشخصيات الأخرى، دلال (رانيا يوسف) وابنتها زينات (آية سماحة) بخاصة، أضف إلى ذلك الصورة الكاريكاتورية التي حرص المسلسل على تقديمها للفدائيين ورجال المقاومة من خلال العلاقة الهزلية التي قامت على سوء الفهم بين دياسطي موظف البريد وعلي.

وبهذا المعنى، لا نبالغ إذا قلنا إن مسلسل “عمر افندي” ليس مجرد تعبير عن حنين صنّاعه إلى ماض جميل، وإنما محاولة غير مسبوقة لتغيير الحاضر عن طريق تغيير الماضي، لكن هذه المرة، وخلافا لمعظم أعمال السفر عبر الزمن، يأتي التغيير لواقع المشاهدين أنفسهم في الزمن الحاضر لا واقع شخصيات العمل، ومن خلال تجميل وجه ماض قبيح، اجتمع فيه اللهو والفساد والاحتلال، تمهيدا لاستعادته في الحاضر الحقيقي، كي يصير ثالوث الشر مقبولا.. الرذيلة والتطبيع، والاحتلال!

Visited 19 times, 1 visit(s) today