“مسارات”.. مغامرة إكتشاف الذات والعالم

يعد الفيلم الأسترالي الروائي “مسارات” Tracks (2013) أحد تلك الأفلام التي ليس من السهل على المرء نسيانها. عرض هذا الفيلم في مهرجانات البندقية وتورنتو ولندن وأدليد ودبي أي أنه إنتقل من مهرجان إلى أخر، بسبب موضوعه الإنساني الذي يلقى صدى لدى الجمهور في العالم بغض النظر عن اختلاف الثقافات.

 إنه عمل مركب، فيه الكثير من مفردات الشعر والفن واللغة البصرية، كما أنه يدفعك إلى التأمل في علاقة الإنسان بالطبيعة، بالكائنات الأخرى، بالمسار الذي نقطعه في رحلة الحياة نفسها، تلك الرحلة التي كتبت علينا، وتلك “المسارات” الأخرى التي تخطها أقدامنا في الرمال.. رمال الحياة، وصولا إلى نقطة النهاية- البداية، التي لا نعرف كيف سنواجهها وماذا سنقول حينما نواجه الخالق الذي وضع أسراره داخل كل تلك الكنوز الطبيعية، ومنح الإنسان كل هذه القدرة على إجتياز الصعاب.

في عام 1977 عندما كانت “روبين ديفيدسون” لاتزال في السابعة والعشرين من عمرها، قررت تلك الفتاة الأسترالية الرقيقة الحالمة، أن تقطع قارة أستراليا من منتصفها حتى الساحل الغربي على المحيط الهندي، فقطعت 2700 كيلومترٍ، سيرا على الأقدام، دون معاونة من أحد بل فقط بصحبة أربعة من الجمال وكلب مخلص إلى جوارها. لم تركب أبدا أحد تلك الجمال الأربعة بل كانت دائما تسير إلى جوارها، وكانت تلك الجمال محملة بنحو 700 كيلوجرام من الأمتعة والمواد الغذائية البسيطة والمياه.

ما الهدف من هذه الرحلة العجيبة التي استغرقت تسعة أشهر وأثارت إحتجاجات من قبل الجميع في البداية: الأهل والأصدقاء؟ لا شيء أكثر من إكتشاف الذات من خلال إكتشاف العالم.. ذلك العالم القريب- البعيد، واكتشاف القدرة على التحمل والمقاومة: مقاومة تقلبات الطبيعة الشرسة والخوف من المجهول، والبقاء على قيد الحياة.

كانت روبين من المدافعين عن حقوق سكان أستراليا الأصليين الذين يطلق عليهم (الأبورجينيين).. وخلال رحلتها العجيبة التي قطعتها سيرا على الاقدام إلى جوار جمالها الصبورة دائما، تلتقي بالكثير من هؤلاء السكان، تشاركهم الطعام والشراب والسهر والرقص والغناء. أرشدوها إلى المسار. عطفوا عليها وتعاطفوا معها ولم ينظروا لها باعتبارها تلك “البيضاء اللعينة” القادمة من الطرف الآخر، أي من معسكر الغزاة البيض للأراضي الأسترالية، بل ككائن إنساني ضعيف شأن سائر المخلوقات الإنسانية في مواجهة الطبيعة القاسية.

دونت روبين ديفيدسون ذكرياتها عن تلك الرحلة في كتاب بعنوان “مسارات” هو الذي أعد عنه سيناريو هذا الفيلم، فجاء مخلصا لروحه وجوهره إلى حد كبير، وجاء أيضا قطعة من السينما الخالصة التي تعتمد كثيرا على جماليات الصورة، على المونتاج وعلى التكوين والإيقاع الشعري البديع والموسيقى التي تغلف الفيلم بلمسة روحانية جميلة.

الماضي يتلاشى

في تقديمها للطبعة الجديدة التي صدرت في 2012 من “مسارات” كتبت روبين ديفيدسون، المرأة التي خاضت تلك المغامرة التي تعد من أكبر مغامرات القرن العشرين: “يتلاشى الماضي خلفنا، ويتركنا وليس معنا سوى القليل من الدلائل التي نحاول أن نجعلها تبدو في سياق متماسك.. إنها مهمة مستحيلة.. فالتاريخ يعيش في الحاضر. لقد مضت الآن 30 سنة منذ أن قطعت نصف أستراليا سيرا على الاقدام مع جمالي العزيزة وكلبي. وإذا ما ركزت تفكيري يمكنني إستعادة ومضات من مكان ما، أو مشاعري الدافئة تجاه تلك الحيوانات التي التصقت بها، شعوري بالسعادة وانا أسير نحو الفضاء الطبيعي الآسر الشفاف، ذلك الشعور الأحمق بالخوف الذي تملكني جراء خطأ صغير قاتل، ولكنه سرعان ما اختفى”.

وتواصل الكاتبة “لقد كتبت كتابي هذا بعد سنتين من بلوغ نهاية رحلتي عند ساحل المحيط الهندي. وفي مسكن صغير في الطرف الآخر من العالم جاء التذكر على نحو غير عادي، الأمر الذي جعل الرحلة التي استغرقت تسعة أشهر وكل مكان توقفت فيه خلال رحلة الألفي كليومتر سيرا على الأقدام، شفافا، أو هذا ما بدا لي حينذاك. ولكن بعد صدور الكتاب مباشرة بدأت الذكريات تضمحل، كما لو كان الكتاب قد سرقها. لقد تلاشت الرحلة الحقيقية التي قطعتها، تاركة خلفها شيئا مشابها إسمه “مسارات” وبعض الصور الفوتوغرافية لإمرأة شابة وجدت صعوبة في التعرف عليها”.

في الجزء الأول من الفيلم نرى كيف تستعد روبين للقيام برحلتها بأن تلتحق أولا بمزرعة لتربية الجمال يملكها رجل من السكان البيض (الأوروبيين) لكي تتعلم التعامل مع الجمال وترويضها. وهناك تقضي تسعة أشهر حيث تعمل في تنظيف المزرعة وتنظيف الجمال والإشراف عليها وعلى إطعامها، على وعد بأن تحصل في نهاية فترة العمل (التي حددت أولا بستة أشهر) على جملين. لكن الرجل لا يفي بوعده بل يطردها بقسوة عندما تطالبه بالوفاء بالوعد.

وفي مزرعة أخرى يديرها رجل من السكان الأصليين بمساعدة رجل أفغاني تتعلم روبين الكثير وتحصل في نهاية العمل على أربعة من الجمال هي التي تقطع معها رحلتها الغريبة، مصرة على تحدي الخوف والتردد والوجل لتصل إلى المحيط الهندي. ولكن كيف ستتمكن من القيام بهذه الرحلة ومن أين ستأتي بالتمويل اللازم؟ تقبل روبين على مضض عرضا من “مجلة ناشيونال جيوجرافيك” بتمويل رحلتها مقابل أن تكتب لها مقالة عن الرحلة (هي التي تطورت لتصبح فيما بعد كتابا) وعلى أن تقبل تصوير رحلتها فوتوغرافيا عند نقاط محددة تتفق عليها مسبقا وتحددها مع مصور المجلة.

خلال الطريق تتعرض للكثير من مضايقات السياح والمغامرين، الرجال تحديدا، ويطلق عليها الجميع “سيدة الجمال”، تعاني من قسوة الطبيعة ووحشيتها وتغيراتها، وتشعر بالغضب حينا، وبالحيرة والضعف والتردد حينا آخر، لكنها مع ذلك، تواصل السير في تلك المسارات التي تحفرها أقدامها هي وقطيعها الصغير من الجمال.

يتعرض كلبها الوفي للتسمم بعد ان يتناول أعشابا سامة، فتضطر إلى إطلاق النار عليه من المسدس الذي منحها إياه ذلك الرجل الأبورجيني الذي علمها قيادة الجمال. تكاد تهلك  خلال الرحلة بفعل حرارة الشمس ونفاذ ما معها من مياه، لكنها تعثر أخيرا على الإنقاذ.. كأنما شاء الله أن يهديها إلى حيث تقضي ليلة أو ليلتين عند أسرة صغيرة مكونة من رجل وامرأة، متقدمين في العمر، يعيشان في منزل بالصحراء ربما يكون قريبا من المدينة التي لا نراها أبدا ولا تحاول روبين أصلا الوصول إليها ولا إلى أي مدينة غيرها، بل تحاول دائما الالتزام بالمسارات التي توصلها إلى نقطة ما في رحلتها، حيث يأتي المصور لالتقاط الصور لها.

إنها رغبة الإنسان في البحث عن المجهول الكامن في جوف الطبيعة، وخلال ذلك، لعله يعيد أيضا، إكتشاف نفسه من الداخل.. إكتشاف علاقته بالطبيعة وقدرته على البقاء وحيدا كما لو كانت المشيئة الإلهية قد ألقت به لتوها خارج الرحم إلى ذلك العالم الموحش الذي تمتد فيه كثبان الرمال إلى مالانهاية، لكن دون أن تنساه أبدا.

جماليات الفيلم

أهم ما يميز هذا الفيلم ويجعله واحدا من “الكلاسيكيات” التي تدور في الصحراء، جمال مناظره ولقطاته البديعة التي تصطبغ باللونين البرتقالي والأحمر.. تلك التكوينات التشكيلية الرائعة التي تبتكرها بالكاميرا المصورة الموهوبة ماندي ووكر، مع مونتاج ألكسندر دو فرانسيشي الذي يربط في سلاسة ونعومة بين التداعيات السريعة التي تأتي من الماضي القريب، من طفولة الفتاة ووجودها الأول في العالم، بين حياتها وسط أسرتها، ثم وحدتها التي نراها متجسدة وسط الصحراء اللانهائية، كما يربط في تدفق واع ومحسوب بدقة، بين المراحل المختلفة لرحلة الفتاة.. مع الحرص على تأكيد تعاقب الزمن ومرور الوقت.

ويساعد في تحقيق كل هذا السحر والرونق لهذا الفيلم البديع أسلوب الإخراج الواثق للمخرج جون كوران Curran الذي ينجح بشكل مثير للإعجاب، في تصوير النص الأدبي دون أدنى إحساس بخيانة لغة السينما. صحيح أنه يستخدم بعض المقاطع التي نراها مكتوبة على الشاشة من الكتاب، لكن أساس إهتمامه يتجه إلى  تصوير تلك الشخصية في إطار المكان.. الطبيعة.. العلاقة مع الرجل (تقيم علاقة عابرة مع المصور في غمرة إحساسها بالوحدة لكنها سرعان ما تضع لها حدا).. والعلاقة مع تلك الجمال التي تكاد تفقدها أكثر من مرة ويلتاع قلبها عليها، تلك اللوعة يجسدها المخرج دون أن يلجأ إلى المبالغات أو الصراخ والهستيريا البصرية، بل بلغة الصورة الرصينة، بزاوية الكاميرا، بالموسيقى، بالتكوينات التي تضع الشخصية في الإطار الطبيعي فتجعلها تبدو كما لو كانت نقطة في الفضاء الفسيح.. في الكون!

لعل الجانب الأكثر بروزا في الفيلم يتمثل- من ناحية- في تلك العلاقة الخاصة بين الشخصية الدرامية والممثلة (مايا ويسيكوفسكا) التي أدت دور روبين، ومن ناحية أخرى، في العلاقة بين المخرج والممثلة التي تحمل الفيلم بأسره، وتكاد تظهر في كل لقطاته ومشاهده، دون أن يخفت أداؤها لحظة أو تخرج عن “المزاج” الخاص للشخصية.. إنها تؤدي دور “روبين” بتماثل تام مع الشخصية، تكشف بنظرات عينيها وتوترها الجسماني الداخلي عن ذلك الشعور بالخوف ولكن مع حالة غامضة أيضا من الإصرار. وتبدو بملامحها الشخصية العذبة التي تصل إلى حد الهشاشة من الخارج متناقضة مع كل تلك الصرامة والقسوة التي تفرضها على نفسها. تدهشنا بتحملها كل ما تتعرض له أثناء التصوير الفعلي للفيلم من مشاق، تبهرنا بقدرتها على التعامل مع الجمال وتطويعها في لحظات النفور أو الغضب، ومصاحبتها كما لو كانت تعيد تجسيد وإستعادة رحلة البطلة الحقيقية.

“مسارات” فيلم للعين وللأذن.. للذاكرة وللبصر.. للفن وللفكر وللتأمل الروحاني.. وهذا كله ما يميزه عن كثير من الأفلام!

Visited 20 times, 1 visit(s) today