“مدينة زد المفقودة” كلاسيكية من السينما الخالصة
قليلة هي الأفلام التي تتناول موضوعات تثري الوجدان وتشبع الخيال، تفيض بالمتعة والإثارة، تتمتع برؤية تتجاوز حدود القصة التي تتعاقب فصولها المختلفة أمامنا، لترتفع إلى آفاق أكثر رحابة، تأخذنا وتسبح بنا في سماوات النور.
وفيلم “مدينة زد المفقودة” Lost city of Zed هو أحد هذه الأفلام القليلة التي تضيف للسينما ولا تنقص منها، تعلي من شأن الفن، كما ترتفع بالمشاعر الإنسانية. إنه يروي قصة مغامرة الإنسان بحثا عن المجهول- المستحيل، لكنه يروي أيضا قصة حب عظيم لولاها لما كانت المغامرة، وما كانت الرحلة.
الفيلم من إخراج الأميركي جيمس غراي كتب له السنياريو عن كتاب “ديفيد جان” (2009) الذي يروي قصة للرحالة البريطاني “بيرسيفال فورسيت” الذي ذهب في بدايات القرن العشرين، إلى غابات الأمازون في أمريكا اللاتينية لاكتشاف تلك المنطقة المجهولة التي لم تكن قد عرفت بعد خرائط لها.
قد يجد البعض في هذا الفيلم ما يشبه كثيرا فيلم “سفر الرؤية الآن” فرنسيس فورد كوبولا” ولو من الخارج، لكنني أراه أقرب إلى الفيلم البديع “عناق الأفعى” The Embrace of the Serpent للمخرج الكولومبي شيرو جيرا، الذي يصور رحلة مستكشف ألماني في غابات الأمازون بحثا عن نبات مقدس يمكنه شفاء الأمراض. هناك أيضا ملامح تذكرنا بفيلم فيرنر هيرتزوج الشهير “أجيري.. غضب الرب” Agure.. Wrath of God (1972) الذي يصور الرحلة المرعبة للمستكشف الإسباني “دون لوب” بحثا عن “إلدورادو” أو مدينة الذهب.
الحضارة البعيدة
في فيلم “مدينة زد” يتردد إسم “إلدورادو” في معرض السخرية من إيمان بطل الفيلم بوجود مدينة مجهولة لم يطأ أرضها إنسان أوروبي من قبل، كانت تضم حضارة عظيمة صنعها سكانها الذين يُنظر إليهم في الغرب بتعال باعتبارهم من البدائيين المتوحشين، وهي حضارة تضارع ما أنجزه الأوربيون أنفسهم. ولكن بينما تسيطر فكرة العثور على مدينة الذهب في فيلم “أجيرا غضب الرب” حد الهوس، وتدفع بالأرستقراطي المغامر المهجوس بنوازع السيطرة والاستعمار حد الجنون، يبدو بطلنا الباحث عن “مدينة زد المفقودة”، مدفوعا بالرغبة في المعرفة، في اكتشاف المجهول الذي لمح آثاره الباقية في عمق الغابات، وسمع الكثير من القصص من السكان الأصليين عن تلك المدينة الغامضة السحرية المليئة بالجسور والطرق والأنظمة الزراعية المتقدمة في الزراعة والري.. وغير ذلك، فرغبته في الكشف والاكتشاف تبدو مدفوعة بالحس الحضاري الإنساني المناقض تماما للعنصرية البريطانية البغضية، وللمركزية الأوروبية في استعلائها على ثقافات وحضارات الشعوب الأخرى البعيدة.
بطل الفيلم “فورسيت” (شارلي هونام) ضابط في الجيش البريطاني، ذكي، وسيم، متفوق، نراه في المشاهد الأولى من الفيلم ضمن البعثة الإنجليزية في أيرلندا، يؤكد هناك براعته في الصيد والقنص. وهو متزوج من سيدة ذكية مثقفة (سيينا ميللر)، تنتظر مولودا، لكنه يعاني من مشكلة قديمة سببها والده الذي كان سكيرا عربيدا، فظا غليطا، لذلك لم يسمح لفورسيت بأن يصبح عضوا في طبقة الضباط ذوي الأصول، يغشى منتدياتهم ويتمتع بما يحظون به من مميزات. نقطة الضعف هذه ستكون السبب الذي يجعله يقبل على مضض، القيام بالمهمة التي تقترحها عليه الجمعية الملكية الجغرافية في لندن، أي التوجه إلى المنطقة الواقعة بين بوليفيا والبرازيل، لوضع خريطة للحدود الفاصلة بين الدولتين خاصة وأن لبريطانيا مصالح اقتصادية معروفة في المنطقة الغنية بالمطاط.
يقوم فورسيت بالرحلة الأولى عام 1906 مصحوبا برفيقه الضابط الشجاع هنري كوستن (روبرت باتينسون)، ومجموعة من الرجال الأشداء، وعبد من السكان الأصليين هو “تادجول” يمنحه إياه ليعمل كدليل له خلال الرحلة، رجل برتغالي من كبار تجار المطاط، مؤكدا له: (لن أطالبك بمقابل طالما أن مهمتك ستساهم في تحقيق السلام، فالسلام يعني لي عملا أكثر ورزقا أكبر). تقطع القافلة الطريق البري في البداية ثم تبحر بقارب في النهر، وتتعرض لهجوم من الأمراض الفتاكة والحشرات والبكتريا، مما ينال كثيرا من عزيمة الرجال وهمتهم وقدرتهم على مواصلة الرحلة، لكن صمود فورسيت ودفعه وتشجيعه لهم، يجعلهم يمضون في طريقهم، يتعرضون تارة لهجوم من السكان الأصليين الذين يقذفون عليهم السهام والحراب، وتارة أخرى ينزلون في ضيافة إحدى القبائل التي تشبعهم بكرمها، فقط بفضل حنكة ومهارة فورسيت وشجاعته وقدرته على التخاطب معهم بلغة الود والسلام.
يعثر فورسيت على منحوتات في الأشجار والصخور وبقايا أوان فخارية في الغابات، ويقول له “تادجول” إن هذه الآثار تنتمي لحضارة قديمة، ويعرف من السكان الأصليين أنه توجد هناك في أعالي النهر قرب مصبه، مدينة كاملة قديمة مهجورة، لكن من الخطورة بمكان الذهاب إليها، فمن يذهب إليها لا يعود أبدا.
مع انتهاء مهمته الأصلية في رسم خرائط المنطقة الحدودية يعود فورسيت ويستقبل في بلاده استقبال الأبطال بسبب شجاعته وصموده ونجاحه (ألم يصر على استكمال الرحلة رغم طلب السلطات البريطانية قطعها بسبب خطورتها والعودة)، ويصبح فورسيت عضوا في الجمعية الجغرافية، ويرد إليه الاعتبار، فيستقبل في أوساط الطبقة الراقية. زوجته التي أنجبت ابنا آخر، تساعده بأبحاثها وشغفها بما رواه لها فتعثر على قصاصة صحفية قديمة تشير إلى وجود مدينة متقدمة حضاريا في الأمازون. وأمام الجمعية الجغرافية يلقي فورسيت كلمة يتحدث خلالها عما توصل إليه بيقين كامل بوجود المدينة التي أطلق عليها “مدينة زد”، يقول إنها تتمتع بحضارة تضارع حضارة البريطانيين. يثور ضده أعضاء الجمعية من الكبار والشباب، يسخرون منه ويتحدونه أن يعود ليقدم دليلا ملموسا على هذه المدينة. ويعرض أحد علماء البيولوجيا ويدعى السيد موراي تمويل رحلة فورسيت الثانية على أن يصحبه ليرى بنفسه.
ينتقل الفيلم مجددا إلى الغابات وإلى الرحلة الثانية التي يعجز موراي عن تحمل مشاقها بل ويمارس أعمالا تتنافى مع الكياسة، عندما يستولي على كمية كبيرة من الطعام لنفسه ويحرم الآخرين منه، وعندما يعترض فورسيت على مسلكه، يقوم بتلويث الباقي ويرفض استكمال الرحلة خشية الموت، فيمنحه فورسيت بعض المال والحصان الوحيد الذي لدى البعثة، ويرسله ليعود إلى بريطانيا. لكنه يعود ليشكو أمام الجمعية ويتهم فورسيت بالقسوة والخسة والتخلي عنه ودفعه دفعا للموت. ويقف فورسيت بعد عودته يفند أكاذيبه ثم يعلن استقالته من الجمعية رافضا الاعتذار لموراي الكاذب.
في أتون الحرب
من أفضل أجزاء الفيلم الجزء التالي الذي يصور دور فورسيت في الحرب العالمية الأولى، وشجاعته في مواجهة الألمان في أشرس معارك حرب الخنادق، ثم يعود منها بعد أن يفقد البصر لبعض الوقت. هذا الجزء يتميز بالحيوية والحركة والدقة الواقعية في تصميم المشاهد وتجسيد الحدث في صورة مدهشة من جميع التفاصيل. يمر الوقت ويعود فورسيت إلى منزله وسط عائلته التي لم تتمتع بوجوده سوى قليلا، خلال السنوات الماضية. يغضب ابنه الأكبر جاك منه ويتهمه بالجري بأنانية وراء تحقيق هدفه على حساب أسرته، لكنه يدرك بعد أن يكون والده قد تجاوز الخمسين، أنه ظلمه بحنقه عليه، وأصبح الآن يتفهم حلمه الخاص بالعثور على المدينة المجهولة، بل ويصر على أن يعود فورسيت وأن يصاحبه هو إلى الأمازون.
قصة فورسيت وولده تمر عبر مغامرة من أجمل مغامرات هذا الفيلم الرصين الكلاسيكي الذي يتمتع بصورة مدهشة، وتفاصيل تدعو للتأمل، مع تلك الحركة البطيئة الناعمة للكاميرا، والإضاءة الخافتة التي تضفي على الصورة أبعادا جمالية والفضل في ذلك يعود دون شك، إلى مدير التصوير الإيراني الأصل داريوش خونجي (منتصف الليل في باريس، حب، المهاجر، سحر في ضوء القمر، وأوكجا..وغيرها) فهو يحيط الفيلم كله بغلالة من السحر والغموض والجمال، ويجعل الرحلة الممتدة كما لو كانت رحلة في اللامنتهى.. في اللامرئي.. بتلك الظلال والضباب المغلف للصورة، مع الانتقال بين الأشجار، والتصوير في بيئة قاسية، كما لا ينتهي الفيلم نهاية محددة بل يترك مصير الرجل وولده مجهولا، وهو يبقى كذلك حتى اليوم.
الأداء والسينما الخالصة
هنا أفضل أداء تمثيلي شاهدناه حتى الآن للممثل البريطاني شارلي هونام في الدور الرئيسي، فهو لا يستخدم الحركات العصبية بيديه كثيرا، ويبدو مسيطرا على كل المشاهد التي يظهر فيها، بقوة شخصيته وحضوره وقدرته على قيادة الممثلين الآخرين من حوله، بل إنه يبدو رائعا في مشهد المواجهة مع زوجته (سيينا ميللر) عندما تصر على الذهاب معه في الرحلة الثانية، لكنه يقول إن الرحلة لا تناسب امرأة. وعندما تقول إنهما اتفقا من قبل على أنه لا فرق بين الرجل والمرأة، يجيبها بأنه هذا من الناحية العقلية لا من الناحية الجسمانية. وكما أن دور فورسيت هو الميلاد الحقيقي للممثل هونام وربما يفتح أمامه فرصا عديدة قادمة، يمكن القول أيضا إن دور سيينا ميللر من الأدوار التي ترسخ في الذاكرة رغم قصره. والفيلم من ناحية أخرى، يجسد قصة حب عظيم بين الرجل والمرأة، فمن دونها لم يكن فورسيت ليصنع شيئا، ولا شك أن تضحيتها تتجاوز كثيرا تضحيته.
هذا فيلم من أفلام السينما الخالصة النادرة الوجود في السينما الأميركية. صحيح أنه عمل كلاسيكي، يبدو ملتزما بقواعد الفيلم التقليدي في بناء وتصميم المشاهد، إلا أنه لا يتقيد بشروط الفيلم الأميركي التقليدي من ناحية رواية قصة ذات حبكة محددة، تنتهي إلى الحل أو الخلاص. إنه بدلا من ذلك، يعرض لتجربة إنسانية قد تكون فردية لكن دلالاتها ومعانيها أكثر شمولية: فالفيلم يكشف الحس الطبقي المتغلغل في المجتمع البريطاني حتى يومنا هذا، ويسخر من المنطق السطحي الذي يحكم نظرة الكثيرين ممن يعتبرون من المثقفين تجاه الحضارات القديمة، ويعري نظرة الاستعلاء العنصري إزاء الأجناس الأخرى. وهو فضلا عن هذا كله، لا ينتهي نهاية مغلقة بل يظل مفتوحا على كافة الاحتمالات.