محمد رسولوف المخرج الإيراني المثير للجدل وفيلمه عن الاستقامة والنزاهة
في عام 2009 قضت محكمة إيرانية بسجن المخرج الإيراني المثير للجدل، محمد رسولوف، بالسجن لمدة خمس سنوات ومنعه من العمل في السينما لمدة 20 سنة، ثم خفف الحكم بالسجن إلى سنة واحدة فقط مع إطلاق سراحه بكفالة وتأجيل تنفيذ الحكم، وظل الأمر كذلك حتى يومنا هذا.
وفي عام 2013 ذهب روسولوف إلى مهرجان كان السينمائي بفيلم جديد هو “لا تحرق المخطوطات” عرض في قسم “نظرة ما” الموازية للمسابقة الرسمية. ولم يعرف أحد وقتها كيف تمكن روسولوف من تصوير فيلمه داخل إيران دون الحصول على تصريح بالتصوير وهي “المخالفة” التي تسببت من قبل في الحكم الصادر عليه، ولا كيف خرج من إيران بالفيلم وجاء لعرضه في مهرجان كان.
وفي 2017 أحضر روسولوف إلى مهرجان كان فيلما جديدا هو “رجل شريفA Man of Integrity الذي عرض في قسم “نظرة ما” وفاز بجائزة أحسن فيلم في تلك التظاهرة مضيفا رصيدا جديدا إلى السينما الإيرانية الجديدة.
هذا العام (2020) هناك فيلم جديد لرسولوف بعنوان “ليس هناك شر” سيعرض في مسابقة مهرجان برلين السينمائي، ولكن ليس معروفا ما إذا كان رسولوف سيحضر الى برلين. ومن مظاهر التناقض في السياسة الداخلية الإيرانية ونتيجة لصراع الأجنحة، أن يكون روسولوف ممنوعا من العمل السينمائي لكنه يعمل ثم يخرج بفيلمه من إيران ويسافر إلى المهرجانات الدولية ثم يعود دون أن يحدث له شئ، وتقول بعض المصادر القريبة منه إنه ينتقل بين طهران وهامبورج، وإن التناقضات بين الأجنحة السياسية في السلطة تسمح بتمرير بعض الأفلام التي تغض السلطات الطرف عن معارضتها (الرمزية أوالمستترة)، وما توجهه من انتقادات، مقابل تواجد إيران على خريطة المهرجانات السينمائية الدولية.
كان فيلم روسولوف “لا نحرق المخطوطات” مرثية سينمائية شجية للثقافة الفارسية، تمثلها في الفيلم، مجموعة من الرموز الثقافية من الكتاب والمبدعين، الذين نشاهد كيف يتعرضون لأقصي صنوف التعذيب والاضطهاد والترويع، إما أن يهادنوا ويقبلوا العمل كمرشدين للنظام، يساهمون – كما نرى في الفيلم – في تعقب وتصفية زملائهم من المثقفين الإيرانيين، أو يكون مصيرهم الحرمان والمطاردة والمنع من السفر والتعذيب بل والإعدام بطرق عديدة بشعة مبتكرة.
قصة حقيقية
وكان الفيلم يستتند على “قصة حقيقية” وهو شأن فيلمه التالي “رجل شريف”. وهو ينتمي من ناحية الأسلوب إلى الاتجاه السينمائي الذي برز في السينما الإيرانية قبل سنوات ويمكننا أن نطلق عليه “سينما ما بعد كياروستامي”، ويتمثل – كأفضل ما يكون – في الأفلام التي يخرجها أصغر فرهادي (حائز الأوسكار مرتين) داخل إيران، ومحسن مخملباف خارج إيران بعد أن خرج منذ سنوات، من معطف كياروستامي، وهي أفلام تتخلص من الشكلانية والتجريبية والطابع التجريدي، و”المنياتيرية”، وتعيد الاعتبار للصراع الدرامي والحبكة التي تكشف تدريجيا مع تتابع المشاهد، عن الشخصيات وثنايا الموضوع، كما تجعل الشخصيات أكثر قربا منا، لنصبح أمام نسيج معقد منسوج ببراعة، وأشكال من الصراع بين الأطراف المختلفة لا تفرض بالضرورة وجود “بطل”.
في فيلم “رجل شريف” لدينا بطل فردي مهزوم يواجه، بمساعدة زوجته الشابة الجريئة، مجتمعا فاسدا حتى النخاع، فتتكرر هزيمته إلى أن يصبح مهددا بفقدان البيت والأرض والمزرعة أي مصدر دخله الوحيد، ثم بفقدان حياته أيضا. تنهار علاقته بزوجته أو تكاد، ويجد نفسه مطرودا، مطلوبا منه الاستسلام لما يريده منه “الكبار” أصحاب النفوذ، فيضطر أن يلجأ إلى التعامل مع خصومه بنفس أساليبهم حتى يمكنه قهرهم، ولكنه في هذه الحالة يكون قد انضم إلى “النظام” بعد أن ارتضى باللعب على أرضيته.
يعتمد الفيلم أساسا على السيناريو الجيد المكتوب ببراعة ودقة، مع مراعاة التفاصيل التي تكسب الشخصيات ملامحها الإنسانية، وتكسب الفيلم كله طابعه الواقعي الرمزي، وإن كان روسولوف يتجاوز فيه ما سبق أن قدمه في “لا تحرق المخطوطات” من حيث جرأته في التعبير عن أفكاره الرافضة المعارضة، ونقده القاسي لطبيعة السلطة القائمة التي يجسدها على مستوى رمزي يمكن لأي مشاهد في العالم التعرف عليه، ومن خلال شخصيات قريبة منا، من لحم ودم، تواجه واقعا شرسا، ولكن من دون أن يدور الفيلم بشكل تقليدي مكشوف على ثنائية “الواقع والرمز” التي سبق أن أفسدت الكثير من الأفلام بسبب رعونة التناول.
التحدي الأخلاقي
لدينا بطل شاب هو “رزا” أو “رضا” (الرجل الشريف) وزوجته “حديث”، والاثنان غادرا طهران منذ فترة، إلى بلدة في الريف في شمال إيران حيث بدأ رضا هناك مشروع مرزعة سمكية في قطعة الأرض التي اشتراها بموجب قرض مصرفي، وفي وسطها المنزل الذي يقيم فيه مع زوجته وابنه. أمام رضا هناك “عباس” الذي ينظر إليه الجميع في المنطقة باعتباره السيد، الإقطاعي، القوي، صاحب النفوذ، المرتبط بعلاقات مع “الناس الكبار في أعلى السلطة”. وهو يهيمن على “الشركة” التي اشترى منها رضا الأرض والمنزل.
عباس يريد أن يستولي على المزرعة لذلك يقطع المياه عن البحيرتين اللتين تعيش فيهما أسماك رضا. حسب ما نعرف، يشتبك رضا معه بالأيدي لكن عباس القوي ورجاله يضربونه، ثم يذهب عباس ليشكو رضا مدعيا أنه أصابه في ذراعه بعد أن حصل على تقرير طبي مزور عن طريق استغلال نفوذه كما اشترى تواطؤ الشرطة، فيتم القبض على رضا واحتجازه ثم إطلاق سراحه بكفالة تمهيدا لمحاكمته.
تمارس الضغوط على رضا لكي يتصالح مع جاره عباس. لكن رضا ليس من النوع الذي يقبل المساومات أو الانحناء أمام العاصفة، يتمسك بالطرق القانونية التي يثق أنها لابد أن تعيد إليه حقه، يرفض أن يدفع رشاوى لموظفي البنك لكي يسقطوا عنه غرامات التأخر في سداد الأقساط، ويفضل بيع سيارة زوجته لكي يسدد ما عليه، ويرفض الاعتذار لعباس أو التصالح معه، فيكون من الطبيعي أن يتعرض لمزيد من المشاكل والضغوط: يقومون بتسميم الأسماك التي يربيها، يحرقون منزله، يضغطون على زوجته مديرة مدرسة البلدة ويلوحون لها بقدرة عباس على الفتك بمن يعارضه، وحتى عندما يريد أن يبيع المزرعة ترفض الشركة عرضه للبيع بما طلبه من ثمن بخس استجابة لضغوط من عباس. جميع من حوله ضالعون في حلقة كبيرة من الفساد. لكن رضا لن يرضى بالخنوع والاستسلام بعد أن يرى كيف رفض عباس مصالحته مصرا على إذلاله ثم حرق منزله.
إشارات سياسية
في الفيلم إشارت واضحة إلى العلاقة بين السلطات المحلية والشرطة والقضاء والقطاع التجاري، وإلى أن القاسم المشترك الأعظم بينها جميعا هو الرشوة والفساد والتستر على الجرائم وتجاوز القانون. ورضا الذي يصر على التمسك بالقانون سيجد نفسه في نهاية المطاف مضطرا للخروج عن القانون، حتى يستعيد مكانه تحت الشمس، بعد أن ينجح في تصفية خصومه. ولكن كيف سيتمكن من ذلك وما الوسائل التي سيتبعها؟ هذا ما ينسجه روسولوف ببراعة وفي هدوء وثقة في الثلث الأخير من الفيلم البديع الذي يلعب فيه الصمت دورا رئيسيا في إثارة الترقب والتشويق. إنه أقرب ما يكون إلى “ويسترن” إيراني عن البطل المهزوم الذي ينجح في قلب الطاولة على رؤوس خصومه، ولكن من دون عنف، فالمبارزات هنا تصبح مبارزات ذهنية تعتمد على العقل واستخدام الذكاء واللجوء إلى الحيلة والدهاء.
لقطات كثيرة صامتة في هذا الفيلم الذي يكاد يخلو تماما من الموسيقى، كما يخلو من مشاهد الصدام المباشر، فنحن مثلا لا نشاهد المشاجرة التي يفترض أن تكون قد وقعت في بداية الفيلم بين عباس ورضا، لكننا نرى تداعياتها، والمؤكد أن روسولوف هنا يلتزم بالمحاذير الرقابية المفروضة على صناع الأفلام في إيران ومنها حظر تصوير مشاهد العنف، ربما أملا في أن يجد الفيلم طريقه للعرض يوما ما، على الجمهور في الداخل وهو ما يعد أمرا مستبعدا في الوقت الحالي.
وفق روسولوف كثيرا في اختيار الأماكن التي تلعب دورا رئيسيا في إضفاء الأجواء الواقعية على الفيلم، لكن الجانب الأكبر في نجاح المخرج وتوفيقه في صياغة هذه الحبكة ودفعها بهدوء نحو ذروتها، يكمن في عنصر التمثيل. هنا يبرع الممثل رضا أخلاقي راد في الدور الرئيسي، في صمته، ولحظات تأمله الطويلة وهو تحت مياه “الدوش” في الحمام، أو مع ابنه وهو يقوم بتعليمه كيفية الاستحمام، ثم وهو يواصل تخمير البطيخ الأحمر عن طريق حقنه بمادة كحولية ثم دفنه في مستودع صغير سري تحت الأرض، وهو نوع آخر من المحاذير التي لا يكشف الفيلم عنها سوى بالإشارة التي يفهمها الجميع، كما لا يكشف فيما بعد عن كيفية استفادة رضا من هذه المادة التي تتحول إلى مشروب مسكر يقوم بوضعه في زجاجات ثم يخرج وهو يحمل تلك الزجاجات ولا نعرف أين يبيعها، وكيف سيستخدم الحصيلة بعد ذلك في تمويل “مشروعه” الخاص بالتخلص من خصمه العنيد.
أمام “رضا أخلاقي” تقف بكل شموخ وتألق وجمال رصين مليئ بالنبل، الممثلة “سودابه بيضائي” التي تتميز بقدرة مدهشة وحضور خاص في دور الزوجة التي تتألم لما يحدث لزوجها، تريد أولا أن تدفعه إلى تقديم بعض التنازلات خشية تفاقم الأمور وانعكاسها على حياتهما المشتركة بالسلب خاصة بعد أن تروي لها معلمة بالمدرسة كيف أن عباس لم يتورع عن قتل إحدى بناته في خضم صراع مع خصم سابق له، ثم اتهام خصمه بقتلها حتى يزج به في السجن ثم يحصل على تعويض. لكن الزوجة مع تطور الأحداث تحاول مساعدة زوجها عن طريق ابتزاز ابنة عباس وهي تلميذة لديها في المدرسة، لكي تقمع والدها بالتخفيف من غلوائه، ولكن هذه الحيلة ترتد وتفشل.
فيلم “رجل شريف” عمل متماسك، يكشف تدريجيا دون حوارات كثيرة معقدة، ودون صراخ أو شعارات، آليات التدهور في مجتمع شمولي، بل إنه حتى يجترئ من المحظور عندما يصور اضطهاد وإبعاد طالبة من المدرسة بسبب ديانة أسرتها “التي تفهم في السياق على أنها البهائية”، وإخراج جثة امرأة من قبور المسلمين بعد أن اكتشفت السلطات أنها “غير مسلمة”. هذه الجرأة في المضمون كما في طريقة المعالجة وأسلوب الإخراج كانت وراء حصوله على جائزة مستحقة.