محاورات صلاح أبو سيف وهاشم النحاس.. إبهار البساطة!

Print Friendly, PDF & Email

عض الكتب تبهرك بصعوبتها، بقدر المجهود الذي تم بذله في كتابتها، وتشعرك أن صاحبها دؤوب بصورة تستحق الإعجاب، وبأنك تحتاج لطاقة هائلة كي تقدم على عمل مماثل. على الجانب الآخر هناك كتب مصدر الإبهار فيها هو سهولتها، هو انطلاقها من فكرة شديدة البديهية بشكل يجعلك تفكر كيف لم يقدم عليها أحد قبل الكاتب، ولماذا تغاضى الجميع عن تنفيذ فكرة بسيطة تأتي نتائجها بهذا الإمتاع وهذه القيمة. من بين النوعية الثانية في الكتب السينمائية يأتي بجدارة الكتاب الشيق “صلاح أبو سيف – محاورات هاشم النحاس”.

صلاح أبو سيف كان هناك، متواجدا لمن يريد الوصول إليه، مثلما كان مثله عشرات الأساتذة ممن صنعوا تاريخ السينما المصرية التي انشغل الجميع بكتابة الدراسات والتحليلات عنها، دون أن يفكروا للحديث مع صناعها، راضين بأن تنتهي أعمار قامات سينمائية وكل رصيدهم الحواري عبارة عن أحاديث صحفية ساذجة على طريقة مجلات المشاهير، دون أن يسألهم أحد بحق عن فهمهم للصناعة وفلسفتهم والخبرات التي تراكمت لديهم من سنوات العمل.

المخرج والناقد الكبير هاشم النحاس أدرك نعمة وجود صلاح أبو سيف، وعرف أن علاقة الأستاذية والصداقة التي تربطهما لا يجب أن تقتصر على محاوراتهما الخاصة التي ستنقطع برحيل الأستاذ، فأقدم على ما يفترض أن يكون أبسط عمل يجب أن تقوم به عندما تجالس مخرج كبير: أن تسأله عن أعماله. والأعمال في حالتنا ليست فيلما أو اثنان أو عشرة، بل 41 فيلما روائيا أخرجها صلاح أبو سيف في مشوار سينمائي فريد لم ولن يتكرر.

فيلموجرافيا أبو سيف قائمة مخيفة، تمثل بصورة أو بأخرى رحلة السينما المصرية من الأربعينيات وحتى بداية التسعينيات، بكل صور الإنتاج الحكومي والخاص، الأفلام المأخوذة من نصوص أدبية والمكتوبة خصيصا للشاشة، مختلف أشكال السرد الكلاسيكي والحداثي، وأجندة الاهتمامات المتباينة من الالتزام السياسي إلى الميلودرامات الرومانسية. وعلاقة صانع هذه الأفلام بأعماله هو موضوع لا يقل أهمية وتشويقا ـ بل ربما يزيد ـ عن آلاف الكلمات التي سودت في نقد وتحليل هذه الأعمال.

شكل التجربة

الكتاب يبدأ بمقدمة لهاشم النحاس، يروي فيها علاقته بالمخرج الكبير الذي دعمه في بداياته عندما آمن بموهبته وموهبة الكثيرين من بني جيله، فوظفهم في لجنة قراءة هدفها فرز الأعمال الأدبية المصرية والعالمية وترشيح الصالح منها لتنتجة الشركة العامة للإنتاج السينمائي (فيلمنتاج) التي كان أبو سيف يرأسها. اللجنة ضمت مع الكاتب أسماء صارت من قامات الصناعة لاحقا منهم محمد خان ورأفت الميهي ومصطفى محرم وغيرهم. ويواصل النحاس سرد علاقته بأبو سيف التي توترت لفترات، ثم عادت المياة لمجاريها على يد الأستاذ نفسه، وصولا إلى قرار النحاس بالبدء في محاوراته الفريدة.

بعدها تأتي مقدمة أخرى على لسان صلاح أبو سيف، يروي فيها طفولته وذكريات شبابه وحبه للفن، ويسرد فيها بعض الطرائف التي وقعت له، ومنها عندما كان لا يزال يعمل في شركة الغزل بالمحلة الكبرى، عندما أخرج عرضا مسرحيا بعمال الشركة، لكن المدير رفض الاعتراف بالموظف الصغير كمخرج وطلب إحضار خواجة ليقدم ما يليق بالشركة، ليقوم أبو سيف بخداعه وإقناعه بأنهم أتوا بخواجة اسمه “سلادينو أبو سيانو” ليخرج المسرحية، فيصدق المدير ويعرض العمل ولا يتم اكتشافه إلا لاحقا من موظف الحسابات!

بعد المقدمتين تنطلق المحاورات، فيلما بعد فيلم حسب الترتيب الزمني، يعيد هاشم النحاس مشاهدة الفيلم، ثم يقابل صلاح أبو سيف ليحاوره عن العمل، يعرف منه حكاية صناعته وأطرف ما دار في كواليسه، يستفهم عن هدف المخرج من الإقدام على كل تجربة، وعلى الجديد الذي قدمه في كل منه. يواجهه كثيرا بعيوب بعض الأفلام ومشكلاتها، وعندما يأتي رد أبو سيف أحيانا بشكل عصبي رافض للتعليق، يعيد المحاور السؤال بصيغة أخرى محاولا إقناع الأستاذ بالخلل الذي يراه في الفيلم، فيعترف صلاح تارة، ويصر على موقفه الرافض تارة أخرى. وهو شكل من المحاورة المهنية القائمة على “النقد والرد”، تكاد تكون غائبة عن المكتبة السينمائية العربية.

قيمة المحاورات

أهمية هذه المحاورات الممتدة لا تقتصر فقط على الحكايات الطريفة التي ترويها، ولا على شكل النقد والرد، ولا حتى على النظرة البانورامية التي يلقيها الكتاب على تاريخ أبو سيف المعبر عن تاريخ الصناعة، ولكن الأمر يمتد لما هو أعمق، للدخول إلى عالم وعقل فنان بحجم صلاح أبو سيف، لمعرفة طريقة تفكيره تجاه أعماله الخاصة، ومواقفه من محتواها سواء كمثقف ومفكر يؤمن بالقيمة الاجتماعية والسياسية والإنسانية لما يقدمه على الشاشة، أو كصانع يتحدث عن أدوات حرفته: عن التعامل مع النصوص والسيناريوهات والممثلين والمصورين وغيرهم.

الأمر يصل إلى اعتراف صلاح أبو سيف بأن بعض التجارب كانت فاشلة وما كان يجب أن يقدم عليها من الأساس، وعلى رأسها التجربة الغريبة لفيلم “سنة أولى حب”، وهو الفيلم الوحيد في تاريخ السينما المصرية الذي قام بإخراجه خمسة مخرجين مختلفين، ليس بالصورة المعتادة التي اشترك فيها أبو سيف من قبل بتقسيم الفيلم لحكايات مختلفة، ولكن بتقسيم مشاهد نفس الحكاية بين المخرجين كمال الشيخ ونيازي مصطفى وعاطف سالم وحلمي رفلة وأبو سيف ليخرج كل منهم بعض المشاهد بأسلوبه!

من التجارب التي ندم عليها أيضا فيلم “المجرم”، وحكايته أيضا غريبة، فكان المخرج قد اتفق على فيلم عن قصة من تأليف أمين يوسف غراب، وتم بناء الديكور على هذا الأساس ليفاجأ بأن المنتج لم يشتر حقوق القصة من ورثة الكاتب بعد وأنهم رفضوا البيع، فيقرر استغلال الديكور في إعادة صنع فيلم قديم له هو “لك يوم يا ظالم”، بنفس السيناريو مع تغيير الزمن، لتأتي التجربة كما يصفها فاشلة بلا جديد.

اعترافات ومواقف

في المحاورات يعترف أبو سيف أيضا بأمور تتعلق بأعماله الأكثر أهمية، وهي تفاصيل اضطر للقيام بها بسبب زمن صناعة الأفلام، ومنها حديثه عن شفاعات بطلة فيلمه الشهير “شباب امرأة”، والتي يعترف بتعاطفه معها وتفهمه لموقفها، مؤكدا أنه لو صنع الفيلم في مرحلة متقدمة لما أقدم على النهاية القاسية التي أنهى بها حياتها في الفيلم، والتي اضطر لها بحكم زمن صناعة العمل الذي لم يكن الجمهور فيه سيتقبل موقفا مثل هذا. لنكتشف جانبا في صلاح أبو سيف يؤكد أنه في الواقع ربما يكون أكثر إنسانية من بعض أعماله، خاصة ما يرفع منها شعارات وأحكام أخلاقية.

من نفس القائمة ستجد موقفه النبيل من حذف شخصية مأمون المنتمي للإخوان المسلمين من رواية “القاهرة الجديدة” لنجيب محفوظ، والتي قدمها في فيلم “القاهرة 30”. فيقول أبو سيف أنه اختار حذف الشخصية لأنه صنع الفيلم في وقت كان الإخوان فيه داخل السجون بينما كان محفوظ قد كتبها في أوج فترة نشاطهم، فلم يرد المخرج أن يظهر كمن يستغل الفرصة ويصعد على جثث الضعفاء، وهو موقف قد تختلف معه بشكل شخصي، لكن ليس بوسعك إلا أن تعترف بنبله.

دعوة للعمل

وبعيدا عن قيمة الكتاب الممتع، فقد وجدته دعوة مثالية للعمل، فصاحب الكتاب يخبرك ضمنا في كل سطر أن عليك التحرك فورا. ابدأ محاوراتك مع من تحترمهم من المبدعين، فصلاح أبو سيف نفسه توفي بعد نحو عامين من انتهاء هذه المحاورات، وإذا كان أحدا لا يستطيع أن يضمن عمر الأساتذة أو حتى عمره الخاص، فإنه من العبث أن نعتبر الوجود أمرا مسلما به، ولكن إذا تم تحويله لحضور مستقل بذاته على الورق، فسيبقى للأبد بعد رحيل أصحابه. رحم الله صلاح أبو سيف، وأمد في عمر هاشم النحاس، ولنبدأ العمل.

Visited 55 times, 1 visit(s) today