“ماستانج”..بين مصنع صناعة الزوجات وسجن النساء

منذ حوالي عشر سنوات قامت المخرجة اللبنانية جوسلين صعب بجمع كل من محمد منير وحنان ترك في فيلم أسمته “دنيا” لتناقش مشكلة ختان البنات، واختارت المجتمع المصري ليكون نموذجًا ومكانًا لأحداث الفيلم. عرض الفيلم أيامها في مهرجان القاهرة السينمائي وأقام الدنيا ولم يقعدها حيث اعترض الكثيرون على قيام مخرجة غير مصرية بصناعة فيلم “يشوّه” المجتمع المصري ويكشف سوءاته. الفيلم -وهو في رأيي متواضع المستوى- كان من الممكن أن يمر دون أن يشعر به أحد (أتذكر أنه فشل تجاريًا وتم رفعه من قاعات العرض بعد نزوله بأيام لضعف الإقبال عليه وذلك رغم الشعبية الواسعة لمنير كمغني) غير أن الحساسية المفرطة لمجتمعاتنا العربية ورفض قيام الآخرين بإلقاء الضوء على عيوبنا كما لو كنا نعيش في عالم منعزل عن البشرية كان كفيلًا بتحويل هذا الفيلم الضعيف إلى موضوع لندوات كثيرة ومانشيت لصحف ومجلات تبحث عن الإثارة.

مرت الأعوام وازداد مجتمعنا شوفينية وازداد إحساسه بالريبة تجاه العالم الخارجي في السنوات الأخيرة، مما يجعل الواحد أثناء مشاهدته لفيلم مثل الفيلم الفرنسي “ماستانج” Mustangيتساءل رغمًا عنه كيف سيكون الحال الآن لو قامت دولة أوروبية بتمويل إنتاج مثل هذا الفيلم عن المجتمع المصري، وهو الفيلم الذي يستعرض العادات العقيمة والتشدد المبالغ فيه عند بعض الأسر في تربية الفتيات الصغيرات في مجتمع شرقي آخر يشبهنا ولا يقل عنا رجعيةً وهو المجتمع التركي؟ بالتأكيد كان سيلاقى الفيلم وصانعوه وموزعوه في مصر باللعنات وباتهامات الخيانة وعدم تحمّل المسئولية لإظهار مساويء البلد في وقت حساس مثل هذا نحارب فيه الإرهاب.

انتقاد المجتمع التركي بأموال فرنسية

أما في فيلم “ماستانج” – والذي عرض مؤخرًا بسينما زاوية بوسط البلد بالقاهرة – فقد كان للمخرجة الشابة الفرنسية ذات الأصول التركية “دينيز جامزي ارجوفين” الشجاعة والحرية في أن يكون المحور الرئيسي لفيلمها الروائي الأول عرض جريء وناقد لحياة عائلة تركية تتكون من خمس فتيات يتيمات تعيشن مع جدتهن وعمهن في نفس المنزل في قرية محافظة بشمال تركيا. حيث استعرضت من خلال هذه العائلة كيف تؤدي العادات البالية للمجتمعات المنغلقة وأسلوب التربية المفرط في تقديس العيب إلى تدمير حياة خمس بنات صغيرات منطلقات للحياة وتحويلهن إلى مخلوقات منكسرة مشهوة يبحثن عن الهروب من هذا الجحيم ولو كان بالانتحار. نال الفيلم تقديرًا وثناءًا واسعين عند عرضه خلال عام 2015 في مختلف المهرجانات التي شارك بها (بدءًا بالدورة الأخيرة لمهرجان كان السينمائي في قسم نصف شهر المخرجين) على الرغم من محليته الشديدة وتركيزه على حياة أسرة بسيطة في قرية غير متصلة بالعالم الخارجي (اللهم إلا من خلال شاشات التليفزيون التي يتابع من خلالها أهل القرية مباريات فريقهم المفضل لكرة القدم)، ورغم أنه ناطق كاملاً باللغة التركية إلا أنه إنتاجيًا ينتمي للسينما الفرنسية، حتى أنه قد وقع الاختيار عليه ليمثّل فرنسا في مسابقة الأوسكار لأحسن فيلم غير ناطق بالإنجليزية متفوقًا على فيلم فرنسي آخر هام وهو “Dheepan” الذي نال السعفة الذهبية لمهرجان كان 2015 (وصل Mustang مؤخرًا للقائمة القصيرة ما قبل الأخيرة لأوسكار أحسن فيلم أجنبي والتي تتضمن تسعة أفلام، كما رشح رسمياً لجوائز الجولدن جلوب لنفس الفئة).

وبالرغم من ذلك ومن قيام المخرجة بمناقشة أدق خصوصيات المجتمع التركي المحافظ لم نسمع أصواتاً تركية تطالب بمحاكمة مخرجة العمل بتهمة الإساءة إلى الامبراطورية العثمانية أو أصوات تقوم بتخوين “دينيز” وتتهمها بالتنصل من أصولها التركية، كما لم نسمع بالطبع من الجانب الآخر فرنسيين ينتقدون اختيار فيلم ناطق بالتركية ويدور بأكمله في بلد آخر لتمثيل فرنسا في سباق الأوسكار.

خمس فتيات وسجن واحد

على الجانب الفني للفيلم، فقد يكون هذا المزج بين التركي الشرقي والأوروبي الغربي هو السحر الحقيقي لهذا العمل. فمنذ اللحظات الأولى لا تشعر أنك أمام فيلم ينتمي للسينما التركية والتي رغم تميّز الكثير من إنتاجها إلا أنه يغلب على غالبية أفلامها نوع من القتامة والغلظة، على عكس هذا الفيلم الذي تشعر مع مشاهدته أنه فيلم منتمي إلى السينما الأوروبية بإيقاعها الهاديء الحالم (والبطيء أحياناً للكثيرين) الذي لا يخلو من علاقات إنسانية متشعبة وبسيطة لا تشعرك بالانفصال عنها. فيبدأ الفيلم باستعراض ثلاثة محاور رئيسية من حياة هؤلاء الفتيات الخمس البطلات الرئيسيات للقصة، وهي المدرسة (حيث نرى في البداية الفتيات وهن يودعن مدرّستهن التي قررت مغادرة قريتهن والانتقال إلى اسطنبول وتعطيهن عنوانها الجديد للتواصل- وذلك فيما يشبه العلاقة التي يقوم عليها الفيلم المصري “في شقة مصر الجديدة” بين “تهاني” ومدرستها المفضلة مدرسة الموسيقى).

والمحور الثاني لحياة الفتيات هو العالم الخارجي المنطلق والذي يعبر عن شخصياتهن المحبة للحياة، فتمر الفتيات أثناء عودتهن من المدرسة بالشاطئ فيلهون مع مجموعة من زملائهن الفتيان، ويصل هذا اللهو إلى حمل الأطفال لهن على أكتافهن في إطار من اللعب والمرح (المرفوض من مجتمعهم المتزمت)، وهو ما يتم إبلاغه إلى المحور الثالث والأهم في حياة الفتيات وهو المنزل وسكانه من الجدة المحافظة الخائفة عليهن والعم المتزمت القاسي عليهن. يقوم الآخيران بمعاقبة الفتيات للهوهن مع الفتية على الشاطيء، ومن هنا يبدأ عالم الفتيات في الانغلاق والانحسار في محور واحد وهو المنزل، بعد قرار العم بمنعهن عن الخروج وعن الذهاب إلى المدرسة. لتبدأ هنا أيضاً رحلة معاناة الفتيات الخمس بين حبهن للحياة ومحاولة التمسك بأي أنصاف فرص للاستمتاع ببقايا الحرية الممنوحة لهن (مثل التجمع داخل غرفهن للرقص على أنغام الموسيقى- الجلوس بملابس البحر أمام نوافذ المنزل للاستمتاع بالشمس- أو حتى الهرب من المنزل من خلال تسلّق  المواسير الخارجية)، وبين سجنهن محاطين بجدران وشبابيك محصنة بالحديد. هذا السجن الذي أطلقت عليه البنت الصغرى “لالي” لقب “مصنع الزوجات” حيث أصبح الشغل الشاغل لجدة الفتيات تأهيلهن في هذه السن الصغيرة  لتصبحن ربات منزل والترويج  لهن كزوجات بين عائلات وشباب القرية.

كيف تتفادى أن تصنع فيلمًا إرشاديًا؟

رغم أن التيمة الرئيسية للفيلم تدور حول القهر خاصةً مع قسوة العديد من الأحداث وواقع الصدمة من بعض المشاهد (مثل مشهد دفن واحدة من الفتيات بعد انتحارها نتيجة للقهر الذي تعيش فيه، ومشهد آخر لإجراء كشف على إحدى البنات للتحقق من عذريتها) غير أن المخرجة نجحت في جعل المشاهد يستمتع بالفيلم ولا ينفر منه سواء من خلال استخدامها الذكي لصوت الراوي (بصوت البنت الصغرى لالي) من وقت للآخر – مع عدم الإسراف فيه – لإخراج المشاهد من واقع الأحداث المؤلمة إلى عالم موازي آخر أقل قسوة، أو بإدخال مواقف كوميدية غير مفتعلة في صميم الأحداث نجحت في كسر الحدّة دون افتعال. كان من أفضل تلك المواقف الكوميدية مغامرة ذهاب الفتيات خلسةً إلى الاستاد لمشاهدة مباراة كرة قدم لفريقهن المفضل وظهورهن المفاجيء على شاشة التليفزيون أثناء متابعة أهلهن وجيرانهن للمباراة (في مشهد مشابه لمشهد أحمد حلمي ومنة شلبي في فيلم كده رضا) ومحاولة الجدة – الوحيدة التي لقطتهن على التلفاز-  إلهاء الآخرين عن المشاهدة بقطع الكهرباء عن القرية بأكملها حتى لا يكتشفوا ذهاب البنات إلى الاستاد.

ولكن يبقى الأهم في رأيي هو نجاح المخرجة (والمشاركة أيضًا في كتابة السيناريو) في جعلنا كمشاهدين نبني علاقة تعاطف ومؤازرة وليست شفقة مع تلك الفتيات الخمس، فهي لم تجعلهن مجرد فتيات مقهورات ولكنها حرصت على تقديمهن كفتيات جامحات محبات للحياة ويصارعن قوى التخلف التي تريد حبسهن. فحتى في اللحظات الأكثر حزنًا في الفيلم التي قدمت البنات في أضعف حالتهن أبرزت لهن حالات آخرى كانت لهن رغم كل شيء اليد العليا والغلبة على قوى القهر (على سبيل المثال فمقابل الأخت التي تزوجت غصبًا من عريس لا تعرفه كانت هناك الأخت الكبرى التي نجحت في إقناع أهلها بالزواج من حبيبها الذي يغازلها من خلال شباك المنزل).

وقد ساهم في بناء حالة التعاطف تلك أيضًا القدرات التمثيلية المميزة للفتيات الصغيرات (والتي بالتأكيد يقف وراءها مجهود عظيمة  للمخرجة لتوجيه هؤلاء الفتيات محدودات الخبرة أمام الكاميرا) وخاصةً البنت الصغرى (لالي) المحرك الرئيسي للأحداث والبنت الأقوى شخصيةً والتي تملك موهبة تمثيلية هائلة.

يبقى السيناريو أحد أقوى عناصر “ماستانج”، فقد كان من السهل جدًا أن يتحول فيلم كهذا إلى فيلم إرشادي ساذج مرتكز على النصائح أو فيلم نسائي/أسري يخاطب فئة معينة من المشاهدين دون غيرها، ولكن نجح صناع العمل في تفادي ذلك تمامًا. إضافًة إلى ذلك فقد أجادوا في رسم سيناريو متصاعد الوتيرة، فرغم محدودية المكان والشخصيات التي يدور حولها الفيلم إلا أنه ينجح في جذب المشاهد وإثارة فضوله لمعرفة نهاية الخطة المستترة المسيطرة على “لالي” في صراعها الداخلي بين الاستسلام لما تتعرض له هي وأخواتها من قهر في المنزل وبين ترك المنزل الهروب بسيارة الأسرة  إلى العالم الخارجي المجهول الذي تكاد لا تعرف عنه شيئأ.

وهنا تظهر أيضًا قوة أخرى للسيناريو بتفادى إقحامه لأي أحداث مفتعلة وخارجة عن السياق، فعندما لزم إدخال شخصية خارجية للمساعدة في تنفيذ خطة الهرب تلك في نهاية الفيلم إلى اسطنبول ظهرت بشكل تدريجي شخصية سائق عربة النقل. ففي البداية كان مجرد شخصًا عابرًا في الخلفية ظهر بالصدفة عندما تأخرت الفتيات على الحافلة التي ستقلهن إلى الاستاد فقام هو بتوصيلهن دون إعطاء أي إيحاء بأنه سيكون له أي دور أكبر في مجريات الفيلم، غير أنه تحوّل لشخصية ثانوية رئيسية حينما نشأت علاقة صداقة بينه وبين “لالي” بشكل متسق مع شخصيتها القوية ومع رغبتها في تعلّم قيادة السيارات لتهرب بسيارة الأسرة من سجن المنزل، حتى انتهى الأمر بشخصية السائق كمفتاح لحل معضلة الهروب.

مناطق ضعف

 لم يخل الفيلم على الرغم من ذلك من عدة ملحوظات سلبية أهمها في رأيي حشر كليشيه لا ضرورة له في الأحداث، وهو اكتشاف قرب نهاية الفيلم أن العم كان يقوم باغتصاب احدى الفتيات الخمسة (وربما أكثر) مما أدى بشكلٍ ما إلى انتحار إحداهن، وهو في رأيي حدث لم يضف الكثير فالقهر الذي تتعرض له الفتيات من سجنهن في المنزل كان كافيًا للتعاطف معهن والشعور بأزمتهن دون الحاجة لمثل هذا الحادث المبالغ والمقحم. كما أن بعض المشاهد عانت من الضعف (ربما لأسباب إنتاجية) منها مشهد الفتيات وهن في الاستاد يتابعن مباراة كرة القد فلم يظهر الملعب في أي لحظة في الخلفية حيث استعانت المخرجة بموقع توصير آخر مما أعطى الإيحاء بأجواء حفل موسيقى أكثر وليست أجواء مباراة لكرة قدم.

من السجن إلى الحرية

في واحد من أقوى مشاهد الفيلم وأكثرها إثارة قامت “لالي” وأختها بتنفيذ حيلة كانا يجهزّان لها، فقامتا بحبس الجميع خارج المنزل (من أهلهما إلى أفراد عائلة العريس القادم للزواج من احدى الفتيات الخمس) وأغلقا على أنفسهما جميع منافذ المنزل رافضين أي محاولات لعمهم للوصول إليهن. تحوّل المنزل في تلك اللحظات السريعة من سجنهما الذي يرفض الجميع خروجهما منه إلى مملكتهما التي يحتميان فيها ممن سجنوهن. لم تكن قوة هذا الجزء من الفيلم قاصرة على فقط التنفيذ الممتاز له بشكل حوّل الفيلم فجأة في جزءه الأخير إلى ما يشبه أفلام الإثارة، ولكن الأهم في رأيي أن المخرجة أوجزت فيه رسالة الفيلم أن تقييد الحريات (وربما في نطاق أكبر من مجرد حرية الأطفال) يمكن في لحظة أن ينقلب على السجّان ويعطي المسجونين أنفسهم –إن أصروا على حريتهم وانطلاقهم وآمنوا بها-  القدرة على أن يحولوا هذا السجن لمملكتهم الخاصة طاردين الجميع منها وهو ما فعلته “لالي” وأختها في نهاية الفيلم حين قررا قهر هذا القهر والانتصار لحريتهما.

Visited 38 times, 1 visit(s) today